يحدث أمس: وثيقة زمن لظاهرة ولود
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الواقعية التي تميز أعمال الروائي إسماعيل فهد إسماعيل، تمتلك سماتها المؤثرة في مجال الرواية العربية عموماً والكويتية بشكل خاص، كونه واحداً من أهم المؤسسين لعالم فن الرواية الكويتية. وتعد أعمال الروائي إسماعيل فهد الذي وضع بصماته الواضحة على ساحة القصة والرواية العربية والتي تصل إلى ما يقارب الثلاثين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية هي في حقيقة الأمر جزء مهم لا يتجزأ من باقة الأعمال المهمة التي ميزت عالم الرواية والقصة العربية في النصف الأخير من القرن العشرين. فمنذ مجموعته القصصية الأولى " البقعة الداكنة " التي أصدرت عام 1965 وهو يضع بين أيدينا وثائق تاريخية مهمة تحتم علينا مراجعتها وتذكرها بين حين وآخر، وهذا ما يعطي لأعماله أهمية خاصة من حيث واقعيتها ومادتها التاريخية.
في روايته "يحدث أمس" الصادرة بطبعتها الأولى عن دار المدى عام 1997، ينقلنا الروائي إسماعيل فهد إسماعيل بواقعيته المعهودة إلى مدينة البصرة حيث شط العرب والأحياء المنتشرة على ضفتيه. يأخذنا إلى تلك الأجواء التي كان يعيشها العراقي البصري فترة الحكم الملكي لينقلنا شيئاً فشيئاً إلى فترة الحكم الجمهوري وتبعاته.
تحدثنا رواية " يحدث أمس " عن أبطالها - سليمان يوسف، هادي جواد وحاكم سلطان - لتظهر لنا أن الثلاثة قد تم اعتقالهم من قبل " أمن الثورة " وليس من قبل شرطة الدولة أو أجهزة أمنها على الرغم من اختلاف ظروف اعتقالهم وأسبابه. وأمن الثورة، تلك الظاهرة، كان لها تأثيرها الخطير على ما كان يجري في الساحة السياسية والاجتماعية العراقية. وفي كتابه " عبد الكريم قاسم - رؤية بعد العشرين " يذكر الكاتب العراقي حسن العلوي العبارة التالية ( حدث في اليوم الأول للثورة أن اجتمع أبناء محلة العباسية في كرادة مريم لتدارس ما يجب عليهم القيام به لحماية الثورة، فقرروا تشكيل مجموعة، لفَّت على أذرعها شريطاً من القماش الأبيض، مكتوباً بالأحمر " المقاومة الشعبية ". مستفيدين مما سمعوه عن المقاومة الباسلة لشعب بور سعيد ضد العدوان الثلاثي. وتوجهوا في اليوم التالي إلى ساحة " القتال " في شارع الرشيد لتحطيم الواجهات الضوئية للمحلات التجارية، وقد كانت حصة محلات جميل شمعون في منطقة السنك كبيرة جداً من التدمير، لاعتقادهم بأنه من سلالة كميل شمعون! أغلب الظن أن عشرات آخرين تصرفوا مثل هذا التصرف، سواء قبل الإعلان الرسمي عن تأسيس المقاومة الشعبية، أم بعده.) أن ظاهرة المقاومة الشعبية أو " أمن الثورة " والتي حظيت بإهتمام الدولة ورعايتها، بدأت بشكل عشوائي غير منظم لتكون فيما بعد سلطة ثالثة تحمل السلاح وتعتقل الناس دون أية صفة إدارية أو رسمية يمكن لعامة الناس فهمها أو استيعاب الهدف من وراء تكوينها.
هناك في المعتقل يتعرف سليمان على حاكم سلطان وهادي جواد، وعلى الرغم من طول مدة الاعتقال التي تجاوزت العام، إلا أننا لم نتعرف من الرواية على أي نزيل آخر أضيف إلى الثلاثة وكأن الزمن قد توقف، أو أن صلاحيات أمن الثورة قد ألغيت. ومن خلال الأحاديث التي جرت بين النزلاء الثلاثة يتعرف القارئ على قصة اعتقال هادي جواد، الرجل الستيني الأمي، الذي لعبت السياسة وتناحراتها دورها المدمر لحياته البسيطة التي كان يعيشها شأنه بذلك شأن أغلب الناس البسطاء في مدينة البصرة. فقبل أن تظهر أطماع السياسيين وبالتالي الدول في تقاسم الأرض والمياه، كان العراقي لا يعرف حدوداً جغرافية بين البصرة والمحمرة، وهذا ما كان عليه حال هادي جواد الذي لا يعرف الفرق بين المحمرة والبصرة من حيث عائديتها وتبعاتها الجغرافية أو السياسية، سوى ذلك المجرى المائي الذي يدعى " شط العرب " ما أن يتجاوزه حتى يكون في أحضان إحدى زوجاته، لتأتي الثورة وتدخله في دوامة التهريب والعبور غير المشروع، حتى أن صيادي السمك في شط العرب كفوا عن طلب رزقهم كما تعودوا. كان هادي لا يعرف سوى أضيق منطقة من شط العرب، مسافة قصيرة يعبرها بالزورق لينتقل من بيته في المحمرة حيث زوجته - ابنة عمه - وأولاده، إلى منطقة السيبة حيث زوجته الأخرى وأولادهما لتأتي السياسة وقراراتها وتعتبر عبور الممر المائي جريمة عظمى تحت تسمية التجسس وخيانة الوطن. وهادي جواد الذي اشتغل في تهريب المواد الاستهلاكية بين المحمرة والبصرة بعد أن عرف الحدود السياسية بين المنطقتين بعد ثورة 14 تموز، كان يعيل عائلتيه من مردودات ذلك التهريب، الذي كان اسمه تجارة. وكان ابنه الأكبر في المحمرة جندياً مكلفاً في الجيش الإيراني، بينما ابنه الآخر لزوجته الثانية في البصرة جندياً في الجيش العراقي، والحرب بين البلدين محتملة الوقوع. يتورط هادي بعملية تهريب أربعين رجلاً إيرانياً إلى العراق ليتمكنوا بعد ذلك من السفر إلى الكويت والعمل في مجال استخراج النفط الذي أكتشف هناك حديثاً ( تهريب الأيادي العاملة من إيران إلى الكويت، خاصة وأن ازدهار صناعة استخراج النفط في الكويت وما رافقها من نشاط تجاري وعمراني أدى إلى مضاعفة الطلب على الأيدي العاملة متدنية الأجور ). وبسبب تلك العملية يتم اعتقال هادي جواد من قبل أمن الثورة ليتعرف على تهمته بعد ذلك، حيث يعرف أثناء تواجده في المعتقل بأن المجموعة التي هربها من المحمرة إلى البصرة ما هم إلاّ جنوداً إيرانيين كانوا يرومون التمترس خلف قوات الجيش العراقي في حالة نشوب الحرب المتوقعة بين البلدين. وهذا بالطبع حسب ما جاء في أوراق الاعتقال التي كتبها رجال أمن الثورة، إضافة إلى اتهامه بالجاسوسية بسبب علاقته بولده المجند في الجيش الإيراني.
النموذجان - سليمان وهادي - لا يكتملان عراقياً إلا بثالثهما، ابن الشارع الذي يصبح بطلاً ثورياً وسياسياً غيوراً على وطنه فترة الحكم الملكي دون دراية منه. مشاجرة تحت تأثير الخمر في صالة قمار بين " حاكم سلطان " ومعلمه " أحمد " الذي علمه السرقة والاحتيال ولعب القمار من جهة، ومجموعة من العسكر الإنجليز من جهة أخرى. ينتهي الشجار بطعنة سكين وجهها حاكم لأحد الجنود الإنجليز، وقطع في أحد الأوتار العصبية لذراع أحمد ليعيش بقية حياته معاقاً، على اثر تلك المشاجر تحكم المحكمة الملكية بثلاث سنوات سجن على حاكم سلطان ليصبح بعد ذلك بطلاً بعيون الآخرين، حتى أن نقابة المحامين العراقيين كلفت ثلاثة من أعضائها للدفاع عن حاكم كونه مناضلاً وطنياً حاول اغتيال أحد رجال جيش الاحتلال، وتكتب الصحف العراقية المعارضة للنظام الملكي وكذلك العربية عنه وعن بطولاته، وجاء في سطور الرواية على لسان حاكم سلطان قوله ( - عرفت أن الصحف المصرية كتبت عن الحادث، وأذيع من صوت العرب .. نظام نوري سعيد العميل يعتقل شاباً عراقياً غيوراً على عروبته وقوميته .. كان قد تصدى لزمرة من العملاء والجواسيس الإنجليز، فأوقع فيهم إصابات خطيرة. ص257 ). يخرج حاكم من السجن عند قيام ثورة 14 تموز مع السجناء السياسيين المفرج عنهم، لينتهي بعد ذلك إلى وظيفة طوعية حين يكلف بحراسة وتولي مسؤولية مخزن للأسلحة تابع لأمن الثورة. ومن أجل علاج ذراع صديقة ومعلمه القديم أحمد، يشرع بسرقة وبيع أربع بنادق من المخزن لينتهي به المطاف إلى السجن بسبب محاولته تلك ليكون رفيقاً في زنزانة واحدة مع هادي وسليمان.
الشخص البسيط المسالم الذي لم يفكر يوماً بخوض تجربة التنظيمات السياسية، والفلاح الستيني الذي جرب التهريب ليعيل عائلتيه، والسارق المقامر الذي جعل منه الشارع الساذج مناضلاً، يجمعهم الروائي إسماعيل فهد إسماعيل في زنزانة واحدة.
ترى لماذا يكتب الروائي عن حقبة زمنية مضى عليها أكثر من أربعة عقود؟ هذا السؤال يجيب عليه بشكل غير مباشر عنوان الرواية الذي يثير التساؤل هو الآخر. " يحدث أمس " عنوان له إشاراته الخاصة " إن ما حدث في الأمس، يحدث اليوم، وربما غداً " عنوان مثير، ولكن دلالته عميقة جداً. ومن هنا تأتي أهمية العنوان للدلالة على أن المادة التاريخية أو الفعل الذي حدث في الماضي، هو في الحقيقة ظاهرة ولود، تكرر نفسها وبشكل مستمر على اختلاف تسمياتها وأهدافها، فرغم وحشيتها وقساوتها، فهي تبدأ كلعبة سمجة لحفنة من الجهلة الذين لا يعرفون سوى ركوب أهوائهم وما تمليه عليهم عقولهم البسيطة من أفكار وليدة اللحظة وأسيرة مفاهيم موغلة في التطرف. وبغض النظر عن التبعية السياسية والأهداف، فإن " أمن الثور " تغير بعد فترة وجيزة إلى " الحرس القومي " بعد الانقلاب على حكومة عبد الكريم قاسم، وليتغير مرة أخرى ليكون " الجيش الشعبي " في فترة الحكم البعثي الزائلة، ثم تغير إلى عدة مسميات تحت مصطلح الميلشيات بعد دخول قوات الاحتلال إلى العراق وسقوط الصنم. إنه فعل حدث في الأمس ويحدث اليوم وربما مستقبلاً، وليست هناك أبلغ من عبارة " يحدث أمس " للتعبير عن هذه الظاهرة المريرة.
وبالعودة إلى كتاب الأستاذ حسن العلوي " عبد الكريم قاسم - رؤية بعد العشرين " نرى أنه يوجز مهمات التشكيلات المسلحة للتنظيمات الأهلية منذ قيام ثورة 14 تموز، بنقاط أربع جاءت كالتالي:
أولاً: إنها أسست بعد سقوط النظام ولم تساهم بإسقاطه، وأن أفرادها تطوعوا للقتال بعد انتهاء القتال، أي أنها تأسست في ظل حكومة أو سلطة أو حزب حاكم مساند لها، ولم تؤسس في عهد المعارضة.
ثانياً: لم تخض معركة مع قوات غازية أو لطرد جيش محتل.
ثالثاً: يسجل لجميع هذه التشكيلات الأهلية المسلحة، أنها فتكت بالمواطن الأعزل، واستبسلت في مقاتلة ابن الجيران واعتقال الزميل والأستاذ دون أي اعتبار اجتماعي.
رابعاً: إنها تنظيمات حكومية أسوة بالأمن والمخابرات والشرطة، مع وجود فارقين: فهي لا تستلم رواتب مقابل خدماتها ولا تلتزم بانضباط عسكري كالتنظيمات الحكومية الرسمية. يضاف إلى ذلك، أنها قابلة للاندساس، لعدم وجود شروط وضوابط للعمل وسط ظروف العداء العشائري والحزبي والمذهبي، مما سببت للناس مآسي وآلاماً كثيرة.
الرواية كتبت بأسلوب تصويري متقن، يجعلها سهلة التناول لتتحول إلى فلم سينمائي، فالزمن المختزل بأحداثة المتلاحقة - زمن الرواية - يمتد منذ بداية القرن العشرين حتى نهاية عام 1961. زمن له أهميته الخاصة في تاريخ العراق. زمن تحول فيه العراق من الحكم الملكي إلى الحكم الجمهوري.
سليمان يوسف الشاب العراقي المكافح، تم اعتقاله من قبل أمن الثورة، دون أن يعرف جريمة ارتكبها، وقد شاركه بهذه الحيرة أغلب من عرفوه، الشرطة ورفاق الزنزانة - حاكم وهادي اللذان حكما بالإعدام - وحتى القضاة، سليمان الذي ظل يفكر طيلة فترة الاعتقال بتهمة لنفسه كي يقتنع بعملية أعتقاله، توصل إلى احتمال أقرب إلى التصديق هو أن عمله في شركة تعود إلى أحد أبناء الباشوات الذين يُعدون من مخلفات العهد الملكي " البائد " حسب قانون الحكومة الجديدة وميليشياتها، ربما يكون أقرب احتمال إلى التصديق، ولكن حتى هذا لم يجد له سليمان صدى في قاعة المحكمة. تم الإفراج عن سليمان يوسف بعد أن عجز القضاء عن العثور على تهمة توجه له، كان ضحية لقرارات ارتجالية عاثت في أرض العراق فساداً. وعلى الرغم من براءته من أي تهمة إلاّ أن خروجه من السجن كان محكوماً بلعبة سياسية أخرى، فالسياسة وقراراتها الارتجالية لعبة لا تخلو من السخف والظلم غير المبرر، حيث اشترط عليه القانون الجديد بإحضار كفيل كي يتم الإفراج عنه بكفالة شخصية، تضمن مثوله أمام القانون إذا وجب ذلك.
حدث ذلك في الأمس البعيد، وفي الأمس القريب أيضاًَ، ومثله ما يحدث اليوم، تزداد ضحاياه وتتكاثف مرارته، فهل يحق لنا أن نطالب بإيقاف هذا المد المنفلت في الظلم والإذلال، ترى هل " يحدث أمس "؟.