عمارة دار الاوبرا بكوبنهاغن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
نقد تطبيقي
في الفترة الاخيرة اكتمل المشهد المعماري في العاصمة الدانمركية باضافات تصميمية مميزة لمبان ٍ مختلفة الوظائف، وذات لغة معمارية ما بعد حداثية تساوقا ً مع خصوصية المرحلة التى انشئت فيها تلك المباني. ومن ضمن تلك المباني المهمة التى اضافت بحضورها المعماري شيئا مميزا الى "سلويت" Silhouette خط سماء كوبنهاغن وفي وسط منطقتها القديمة، مبنى "الاوبرا" للمعمار "هينينغ لارسن" (1925) Henning Larsen ، المشيد بمنطقة الميناء .
يعود تاريخ تنفيذ مبنى الاوبرا الى اعوام 2001-04، وافتتحت رسميا في كانون الثاني / يناير 2005. وقد انشئت في المنطقة القديمة من المرفأ الذي اعيد تأهيله وتخطيطه
يتعامل هينينغ لارسن مع المكونات التقليدية لمبنى اوبرا وهي : المدخل، البهو، قاعة النظارة الرئيسية، خشبة المسرح، فضاءات ما بعد الخشبة، المسرح التدريبي والتسهيلات الادارية والخدمية والنفعية، يتعامل معها معماريا بصورة تقليدية.. ايضا ً. وهذا واضح من طريقة اختيار الصفة التماثلية لمخطط مكونات المبنى، وكتلته الثابتة ذات الحجوم الهندسية الاولية والمنتظمة، فضلا عن هيئة القاعة الرئيسية التى جاء شكلها على شكل lt; حدوة الفرس gt; : الشكل التقليدي والمألوف جدا في تصاميم تلك القاعات. بعبارة اخرى يتغافل هينينغ لارسن عن سياق الخطاب المعماري العالمي الموار بمقارباته المعمارية مابعد الحداثية ويلجأ الى الاسلوب الكلاسيكي الفاضح لحل اشكاليته التصميمية. لكن هينينغ لارسن لا يرغب ان يكون كلاسيكيا بالمعنى المباشر للكلمة ، كما انه لا يتوق ان يكون تقليديا، رغم مايراه الناقد الانكليزي " وليم كيرتس " W. Curtis في تعليقة على عمارة مبنى الاوبرا، حيث يشير في مقال منشور له في المجلة المعمارية الدانمركية بان " من الواضح جدا ان مبنى الاوبرا يرسي بمرساته في خضم التقاليد بمفهومها " التـّحتاري ". فهو ينزع لكسر وازالة الانطباع الكلاسيكي عن مخططه باللجوء الى ناحيتين اثنتين، اولهما : استخدام السقف الكابولي الممتد طويلا حرا وطليقا، والمغطي للميدان الواقع امام المدخل، والناحية الاخرى اسلوب المعالجات الخاصة و" غير التقليدية " لتصميم البهو الرئيسي واختيارعناصره التكوينية. وقد افضى الاشتغال على تينك الناحيتين الى " انتشال " التصميم من الوقوع في " احابيل " التأثيرات الكلاسيكية وقربه من تطبيقات اجواء الخطاب المعماري المعاصر وسياق مقارباته المهنية .
ولئن كان امرا تقليديا ان يتطلع مصممو الابنية الثقافية الكبرى كالمسارح الى ناحية المدخل الرئيس للمبنى كونه يمثل عنصرا دالا ً عن مداليل كثيرة، وتسخيره ليكون احد المراحل الاساسية في مجمل الحل التصميمي؛ فان هينينغ لارسن لا يشذ عن هذا التقليد. بيد ان مقترحه سيكون مقترحا مختلفا وغير عادي في آن. اذ انه سيتجاهل المدخل ذاته ليجعل من دلالاته موضوعا لاشتغالاته التصميمية. فنحن هنا " تحت " سقف واسع وفسيح ممتد بشكل كابولي الى نحو من 32 مترا، يغطي كل ارضية " الميدان " الموصل الى المدخل. وتنوب هذه المعالجة الفريدة عن اساليب التعاطي التى ارتبطت فى ذهنية الزائر او المشاهد للسلالم العريضة والمرتفعة التى تقود عادة الى مداخل المسارح والحافلة بالعناصر التزينية التى تشي الى ثراء الاحداث المعمارية القادمة داخل فضاءاتها.
لم يكن " لارسن " اول من لجأ الى مثل هذه المعالجة سعياً لتأكيد رمزي لاهمية اشكالية تخوم الخارج والداخل، والذي تمثله ابواب المداخل في الابنية العمومية. لنتذكر " سقيفة " محطة " ترميني " بروما / ايطاليا في بداية الخمسينات والتى كانت ابعادها الكابولية الطليقة (19 مترا) باعثا لعمارتها المؤثرة وحدثا تصميما لتلك المرحلة الزمنية من عمارة الحداثة. وهل بالامكان هنا تفادي ذكر " سقيفة " مجمع " مجلس الامة الكويتي " (1972-82) لمصممه " يورن اوتزن " - مواطن " لارسن " الدانمركي ذي الشهرة العالمية المعروفة ؟ فمفردة السقيفة بشكلها المميز المغطي كل المساحة الواقعة امام المدخل الرئيس لذلك المبنى الجليل، عدت بمثابة " ضربة " التكوين والعنصر الاكثر حضورا وتذكرا في مخيلة مستخدمي المبنى ومتلقي عمارته رغم انها ليست كابولية بالمعنى الانشائي. كما ان ممارسة شبيه لتلك المعالجة الكابولية كانت حاضرة في تصميم مبنى " المؤتمرات
يرى المعمار ان البهو الرئيس مؤهل لان يؤدي دورا فاعلا في اكساب التصميم نزعة المعاصرة، النزعة المتساوقة مع اجواء الممارسة المعمارية مابعد الحداثية، من خلال التأكيد على اهمية انسيابية الفضاء الفسيح، وتغلغله في جميع طوابق البهو الاربعة، فضلا على توظيف قناطر الاتصال بين مناسيبه المختلفة وطوابق القاعة الرئيسية. وكل ذلك عمل على " تشويش " الفراغ المصمم مكسبا اياه حيوية بصرية يزيدها تأثيرا مرى جموع النظارة المنتشرين في المناسيب المختلفة اوقات الانتظار وبين الفواصل. لقد تطلع المعمار لان يكون المنظر البانورامي المرئي من بهو الاوبرا متاحا لزوار المبنى بزاوية كبيرة تصل الى 180 درجة. ولهذا فانه حرص على ان تكون واجهته الامامية مزججة بالكامل، وان تكون مساحات مناسيب البهو ملاصقة للواجهة الامامية، ومتصلة بواسطة جسور / قناطر، لكن مواقع تلك القناطر متناوبة باختلاف من طابق لاخر، ما يتيح لزوار المسرح ان يشاهدوا الاخرين بسهولة وان يكونوا انفسهم موضوعا للمشاهدة، تماما كما هو الحال في نوعية تصاميم مقاعد القاعة الرئيسية، بحيث لا تقتصر المتعة البصرية في تتبع مايدور على الخشبة لوحدها فقط، وانما يتيح اسلوب تصميم القاعة وطريقة انتشار مقاعدها امكانية ان يكون المشاهدون انفسهم مجالا " لتتيع " الاخرين. بتعبير آخر يتوق المعمار لان تكون اجواءالمسرح الخاصة الحافلة بالاداء التمثيلي، وفرضية lt; ان تشاهد وان تكون مدارا للمشاهدة gt; ، احد المقومات التى اعتمدها في حله التصميمي لمفردتي القاهة والبهو الرئيسيين. من هنا يمكن تفسير النزعة " الاخراجية " التى غلفت قرار شكل القاعة وتأثيراتها على الجهد المبذول في تنظيم عناصر البهو المتعددة وتوظيف مفردات التأثيث المشغولة بتصممي استثنائي بالاضافة الى تنظيم حركة النظارة؛ ليكون كل ذلك بمثابة اداء مسرحي حر " يعمل " بتلقائية في فضاءات اروقة الاوبرا وبهوها الفسيح.
ثمة احساس خاص يتبدى عن رؤية كتلة الاوبرا وينجم عن التمعن بتفاصيل معالجات واجهاتها الاخرى. واعترف بان ذلك قد يكون محض احساس شخصي، احساس متأت ٍ جراء مشاهدتي شبة اليومية لمبنى الاوبرا التى تقع بجوار مكان عملي بمدرسة العمارة؛ فاطلالتها المميزة تظل مرافقة لي طيلة ساعات العمل اليومي. لكنه احساس ازعم بان كثر من المشاهدين للاوبرا يشعرون به، وهو الفة ومقبولية الكتل المصممة وحتى انتمائيتها الى المكان، المكان المترع بالنكهة المعمارية الكلاسيكية المنتشرة في مجمل صياغة واجهات المباني المحيطة. هل هذا سبب كافي لتفسير تلك المألوفية ؟ ربما. لكني اشعر من جانب اخر بان ثمة تماثل بين اسلوب معالجات واجهات الاوبرا وبين مبنى " وزارة الخارجية " بالرياض (1980-84) لنفس المصمم. وربما كان هذا باعثا مضافا لاحساسي عن مألوفية المبنى. واتساءل هل ان مرد ذلك التماثل الطريقة ذاتها لكيفية رسم فتحات النوافذ ؟، ام في تشابه اسلوب اكساء الواجهات بالحجر الضارب الى الاصفر ؟؛ ام في نوعية اصطفاء الحجوم الهندسية المنتظمة ذات الاشكال الاساسية؟.
وفي الاحوال كافة، فان تماثل الواجهات في كلا المبنيين وشى الى مثل ذلك الاحساس الاليف (لدى على وجه الخصوص)، وهذا عمل الى جعل حدث تصميم وتنفيذ مبنى الخارجية بالنسبة الى المعمار بمنزلة مرحلة ابداعية غاية في الاهمية ، ان كان ذلك لجهة نوعية كشوفات الحلول التصميمية، ام لناحية قوة تأثيرات تلك التفاصيل على قرارات تكوينات مشاريع عديدة تلت حدث ظهور ذلك المبنى . ومعلوم ان عمارة مبنى وزارة الخارجية بالرياض، عدت من قبل كثر وانا منهم، كحدث مؤثر في منجز العمارة العالمية في العقود الاخيرة، وقد حازت على اهتمام واسع من قبل الاوساط المهنية ونالت عمارتها جوائز محلية وعالمية مرموقة، تلك العمارة التى تدين بتكوينها المميز وعناصرها التصميمية الى فعالية "التناص" Intertextuality التى اجراها المعمار مع منجز العمارة الاسلامية وتأويلاته الشخصية المميزة لخصائص تلك العمارة واعادة قراءته الفريدة لمداليل مبادئها التصميمية.
وعودة الى مبنى الاوبرا، ولكن بتساؤل مشروع، هل ياترى سنتوقع ثمة هياب ما، ونفور لمبنى الاوبرا عن مجاوراته فيما لو كانت المعالجات التصميمية معتمدة كليا ً على طروحات لغة عمارة ما بعد الحداثة ، بكل ما يعني ذلك من " تشويش " كتلوي وبصري وما قد يرافق ذلك ايضا من انزياحات كبرى في استراتيجية آليات ادراك المنجز المعماري؟!
بالنسبة الى " هينينغ لارسن " الجواب جاهز، ومكتمل وحتى... مشيد!. وما علينا الا التمني بان قراراته المعمارية التى افضت لمثل ذلك الجواب كانت سليمة وايضا متساوقة مع مكانها ومع... زمانها.
د. خالد السلطاني معمار واكاديمي
مدرسة العمارة / الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون