وقت تعرّى لسامي أبو عون
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نصر جميل شعث من غزة: عبر مجموعته الأولى: "وقت تعرّى" - الصادرة حديثـًا - يقدّم الشاعر الفلسطيني الأربعيني: سامي أبو عون، نفسَه للمشهد الشعر الفلسطيني دونما رتوش أو فذلكات تجريبية. إنها تجربة تصوّف رائدة في مجالها، على الأقل في غزة ؛ مَمْشى الحزانى ومفرق البؤساء وكبوة البسطاء الأنقياء في زمن البأساء. فمن حال كهذه حريّ أن يولد شاعر متصوف مشاءٌ جيئة وذهابًا في المدى، يتخذ له صومعة بين الصوت والصدى، يرفرف ويدروش خارج لفظة "الوطن" القاصرة. هذا، حقيقة، ما نلحظه في "الصفير" الذي يتكرر متحوّلا من صفير جماهيريّ مؤذٍ إلى مؤثر صوفيّ يأخذه للأعلى، حيث " صفير القباب موسيقى "، وحيث " قباب الصفير اعتلى ". وحذو ذلك مؤثراتٌ
هناك، إذًا، دافعان يدفعان بالقارئ للإشادة بهذه التجربة الحية: الدافع الثاني متكئ على صَمَدِ الدافع الأول الذي يترجم نفسَه بصيغة اعتراف على لسان القارئ. فبدوري، فلم تصادفني، على تواضع قراءاتي، قبْلا من ذلك، في هذا الحيّز الفلسطيني الضيق والمشدوه، تجربة مماثلة في وفائها وخصوصيتها ؛ لهذه الإطلالة والبكورة. ومن الأخيرة ، إذًا، مولد النشوة، بما هي البكورة دافع للإشادة الثاني. حيث الدهشة هي مجموع المصادفة والنشوة. وهذا التعريف خلو من الفلسفة، لأن الشاعر خلوّ من شبهات الفلسفة المجتلبة. خلوّ.. وفائض بماء القصائد والنثريات الصوفية. وقد بدا، أو ما بدا، عنوانُ المجموعة محمّلا بالإشارة أو الخطوة الأولى من خطوات الجهاد الصوفي: ألا وهي "التعري"، أي الخلع بمعنى الانعتاق والتخلي، لأجل التحلي، ثم التجلي عاريًا في الحقيقة العارية.
إنّ الرائعة الأولى من روائع المجموعة أنها، فعلا، عرّت ذاتها لينتشي القارئ. فمن ناحية، تخلصت الذات من الحجب التي يفرضها غموض "التجريب المسيء" على قصائد الأبعاض بشكل عام. ومن ناحية أخرى، وقوع القارئ في نشوة العرْي، إنما يعني تحرره وتلهّييه وانحجابه كوعي ( ذات ) عن ذهنية النقد المعهودة ( الموضوع )، إلا النقد الانطباعي أو التأثري، لكونه تآلف روح مع روح. هنا تحلّت روح القارئ بنعمى النشوة. وهنا تماهيا القارئ والشاعر. إنها حالة من الزهد الجميل، والمنجاة والسعادة ؛ بمعزل عن التصادم البنيوي داخل التفكير الجدلي والمعرفي البهيظ. حتى حين يقود الانتباه إلى صور مشقلبة من قبيل: " صفير القباب " و " قباب الصفير " ؛ فإنها ليست إشارة إلى حنكة وتدبير وسخرية شاعر، بقدر ما هي فلتة لافتة، تفصح عن دروشة المتصوف في أول شطحاته ونزهاته وإفاداته الخلاقة من التراث الصوفي، والهندسة الروحية.
ولعله ليس من قبيل إفساد النشوة أن نقترحَ التقارب بين الشقلبة أو الدروشة الصوفية لدى الشاعر، وبين والخربطة والهلوسة السوريالية ؛ بدءً بلوحة الغلاف، للفنان العالمي سلفادور دالي. وكان أشار الشاعر، بشكل نادر وخجول ومفتوح على اللازورد الكابي، إلى انكسارات الوطن في حاضر يلبس العمامة المهزومة. وهنا، يمكننا اعتماد اللوحة كخلفية كافية وكمرجع، يغني عن الكلام. و أما السجع، في القصائد التي لم تقيّدْ نفسَها بالوزن، فليس سجعا تطريزيا أو بلاغيا ؛ بقدر ما هو إيقاع ضرورةٍ للداخلين في الدروشة. إيقاع انعتاق ومشي وتجلّ خارج الثوب / الجسد. غني عن القول: إن نشوة سماع القصائد أبلغ وأعلى من نشوة قراءتها، لكونها ضربًا من الدندنة، لا الترتيل. فلنسمع هذه، من قصيدة: " ماشيًا ونفسي "، و قبل أن نمشي :
حزين أيها الصادي
حزين
الأعالي نبأ
والندى متكأ
على عود إخوان الصفا
لابسًا روح الحياة
طاقية للخفا
ماشيا ونفسي...
...
...
الله...
يا لجام التقارب
اقترب
اقترب
فلا شيء..
يحجب عني السبيل
ومني..