ثقافات

رحلة هادئة في زوايا الهم العراقي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

صالح كاظم من برلين: حين دعيت الى حضور حفلة إفتتاح المعرض الشخصي للفنان العراقي عباس علي عباس "بغداد- أحلام متأرجحة" تملكتني مشاعر الخوف من أن أجد نفسي فجأة وسط بحر من الصور الدموية التي أعتدنا على رؤيتها في الفضائيات وفي الأنترنت بما تحتويه من مشاهد مرعبة لما يحصل في العراق الجديد، ونتيجة لهذه المشاعر قمت فعلا بالبحث في الشبكة العنكبوتية عن أعمال للفنان، غير أني لم أجد له أي عمل هناك، مما زاد من فضولي لرؤية أعماله متجاوزا مخاوفي وكل الحدود التي فرضتها على نفسي خلال السنوات الأخيرة لحمايتها من الكوارث غير المثمرة التي أصبحت مادة دسمة للإعلام العربي وغيره منذ سقوط النظام الدموي الدكتاتوري. وفعلا فوجئت منذ اللحظة الأولى بالصور الهادئة الملتقطة بعدسة رقمية خلال عدة رحلات قام بها الفنان بعد تحرير العراق الى مدينته الحبيبة بغداد. خلال تجوالي في المعرض أسترجعت في ذاكرتي بعض بيوت القصيدة الخالدة للشاعر مصطفى جمال الدين عن بغداد التي أفتتحها بالإبيات التالية:
بغدادُ ما أشتبكت عليك الأعصرُ
إلا ذوتْ.. ووَريقُ عمرك أخضرُ
مرتْ بك الدنيا وصُبحُك مشمسٌ
ودَجت عليك، ووجهُ ليلك مقمرُ
وقستْ عليك الحادثات فراعَها
أن إحتمالك من أذاها أكبرُ
برفقة هذه الأبيات وتحت العيون البغدادية التي تطل عليك من الصور وجدت نفسي محاطا بمدينة أعرفها وأخرى كادت أن تفقد معالمها تحت سطوة الإرهاب، غير أنها مازالت بهذا الشكل أوذاك تحافظ على بعض التألق في روحها العنيدة الصامدة أمام الدمار.
لقد أستطاعت عدسة عباس من أن تلتقط صورا هادئة، فضل أن يعرض أغلبها بالأسود والأبيض، ذلك إنطلاقا من تجربته الطويلة في التصوير الفوتوغرافي الكلاسيكي، وإنسجاما مع متطلبات الواقع العراقي الراهن، حيث يصعب العثور على مظاهر البهجة وسط الخراب. وحيث أن لعبة الضوء والظل تشكل قاعدة مهمة للتصوير الفوتوغرافي غير الملون، فأن عباس يستخدم هذه الأداة الفوتوغرافية بشكل ذكي مؤكدا بذلك على الدراما الداخلية للصور، مبتعدا بذلك قصديا عن أدوات الإثارة المستخدمة في التصوير الملون. الوجوه التى التقطها المصور لا تعبر عن البهجة والفرح، بل يبدو أغلبها في حالة تحد مع الزمن قبل اللحظة الحاسمة التي تفصل بين الحياة والموت. فهناك تلك الطفلة التي تتأرجح دون إبتسامة الطفولة وهي ممسكة بيدها أوراقا نقدية ستدفعها في النهاية لصاحب الأرجوحة، لتعود بعد ذلك للإنخراط في الحياة اليومية المخيفة، وهناك العامل الصغير الذي يبذل جهدا كبيرا لرفع مجموعة من الأنابيب المعدنية الثقيلة لكسب رزقه ورزق عائلته، الى جانب صور أخري للإحياءوالمقاهي الشعبية في بغداد التي يبدو بعضها مهجورا تماما (البتاوين)، والبعض الآخر مطوقا بالخراب والدمار الذي لم يأت فقط نتيجة للحرب الأخيرة بل أيضا نتيجة للإهمال الطويل لإحياء بغداد من قبل النظام السابق.
في النتيجة فأن هذا المعرض يعبر بهدوء وبأدوات فنية متقدمة عن مدينة أتعبتها الحروب، إلا أنها مازالت تحمل همها بإعتداد وفخر، وربما بعض الأمل في مستقبل أفضل.

Studio im Hochhaus
Kunst-und Literaturwerkstatt
Zingsterstr. 25, 13051 Berlin

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف