ثقافات

لغات أخرى غير الكلام

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

التعريف التقليدي الشائع للغة، بحد ذاتها، هو أنها وسيلة توصيل. وتواصل فيما بين الأفراد؛ محصورة في فعل المنطوق والمكتوب وحسب. ولكن لا تقتصر اللغة على هذا المعنى الذهني، لأنّ هناك طرق توصيل للمعلومات وتواصل بين الناس عبر الايماءات والحركات والأفعال والمسافة وصور الأداء الجسدي المختلفة .

لغة الصورة:
وبما أن عصرنا هو عصر الميديا بامتياز؛ فإن الصورة أبلغ في تعبيرها حتى من اللغة المنطوقة. وكما يقال : " فربّ صورة أبلغ من ألف كتاب ". كيف يبدو تأثير ذلك على عالم الطفل ؟ في تحقيق سابق عن " حكاية الطفل الفلسطيني " تناولنا تاثير الصورة السلبي على الطفل، تلك القادمة من الإعلام المرئي عن ظروف فاجعة بشكل مباشر. حيث بينا مفاهيم وقيما يكتسبها أو يلتقطها ويتعلمها الطفل من مجتمعه حتى قبل أن يكتمل سلوكه اللغوي. ويطلق على ذلك مصطلح " المحاكاة ". ننتقل - الآن - إلى أبسط شواهد المحاكاة فيما يتعلق بالملابس وحلاقة الَشعر. ففي كل مجتمع، وفي كل عصر هناك أساليب محاكاة لمظاهر ثقافية منظورة في المجتمعات أو مفروضة بحكم التحولات ليست الثقافية في المجتمع وحسب، ولكن العسكرية أيضا. فمثلا إذا نظرنا في بعض أساليب تمشيط الشعر وطريقة حلاقته عند الأطفال، وبعض المراهقين وكذلك النظر إلى الملابس، فإننا نلحظ أنه في تسعينيات القرن الماضي قد راج أسلوب عرف بحلْقة " المارينز "، وكذا أدخلت القماشة العسكرية في صناعة بعض الملابس للأطفال والشباب، وحتى الحقائب و" الزمزميات" المدرسية. وكما يقول الإجتماعيون : عندما يتبنى الفرد في المجتمع طريقة معينة لارتداء الملابس، فإنه يعلن لمجتمعه بأنه يرغب أن يعامله أفراد المجتمع معاملة الذين ينتمون إلى ذلك الصنف الذي يرتدي هذه الملابس. ولكن في الحقيقة مثل هذا الفعل من أفعال المحاكاة المرصودة لا يشير الى الرغبة في الانتماء للصنف ( المارينز)، بقدر ما في ذلك من إعجاب بالمظهر الذي يحاكيه الطفل أو المراهق؛ رغبة منه بامتلاك القوة والهيبة التي يتمتع بها الجندي. وبالرغم من أن المارينز يقومون بفعل " الاحتلال "، إلا أن الصورة جعلت منهم جنودًا جذابين وأنيقين، دع عنك المنحدرين من أصول افريقية. وقد سمعنا عن قصص غرام وعشق وقع بها بعضُ الفتيات الخليجيات مع بعضهم.
وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، البعيدة جغرافيا عن مسرح الخليج، وصلت الصورة ذاتها لفئة الفتية والمراهقين والمراهقات. فجندي المارينز كما هو في الصورة جميل أشقر جذاب بغض النظر عن الدور الذي يؤديه ! والمفارقة، هنا، هي أن الجندي الإسرائيلي لم يحظ بما حظى به الجندي الأمريكي، بالرغم من وجود العنصر الأشقر الجذاب في أفراد الجيش الاسرائيلي ! علما بأنّ أنّ الدور الذي يقومان بتأديته واحد في إجراء " الاحتلال ".
ما قبل الصورة الميديائية كان مشاعًا بشكل ملموس محاكاة الطفل لدور الأب بارتداء ملابسه، كي يغدو مثله في الهيبة والتسلط. وربما قمنا بفعل ذلك في الصغر. والآن تحل الصورة كقوة مؤثرة في انماط السلوك لدى الناشئة والمراهقين. ويمكن القول - بشأن محاكاة "المارينز" - عن الصورة أنها بمثابة لغة توصيل وسيادة، وقبول غير مباشر للآخر. على الرغم من أنّ للآخر صورة تظهره في المقابل في دائرة الاحتلال، بشكل إجرامي.

لغة العيون:
أيضًا، هناك تواصل اجتماعي عبر العيون. وقد كتب الشعراء والأدباء عن مثل هذه اللغة. كما أجريت دراسات نفسية عديدة حول هذا الموضوع. وتبين أننا نستطيع أن نعرف أين يتوجه الآخرون بأنظارهم، وما يحدقون إليه، وما يهتم به ذلك الشخص، ونستطيع أن نخمن ما سوف يفعله بدرجة عاليه من الدقة دون أن ننظر إليه. بمعنى أن حركة العينين وسيلة بليغة للتواصل، وكأنها بداية لعمليه التفاعل الإجتماعي. وتم دراسة هذه المسأله في المجتمعات غير العربية , فمثلا في المجتمع الأمريكي يعتبر التحديق الطويل مخصص للاشياء فقط، ولا يجوز التحديق في البشر. بل يجب عندما يلتقي شخصان أن ينظر أحدهما للاخر دون تحديق. ليشعره بأنه يراه، ولكننا في المجتمعات العربية نميل لإمعان النظر في الآخرين، وهذه الفروق في المجتمعات يسميها الاجتماعيون بالفروق الحضارية.

لغة وسياسة المسافة:
أيضًا، المسافة بين متحدثين تحمل تبليغـًا. فلقد تبين في دراسات أجريت عن المجتمع الأمريكي بأن هناك مسافات محددة لنوعية الرسائل الكلامية. فإذا كان محتوى التبليغ سريا، فإن المتحدث يقترب بحيث تكون المسافة بينه وبين السماع 20-30 سم. أما إذا كان محتوى التبليغ شخصيا، فإن المتحدث يستعمل الحديث الخافت وتكون المسافة بين الاثنين 30-50 سم. أما إذا كان محتوى التبليغ شخصيا ولكنه ليس سرا، فيكون التبليغ آنذاك منخفضا وتتراوح المسافة بين 50- 100 سم. كما تبين أن المسافة تتراوح بين 135- 150 سم عندما يكون الموضوع غير سري أو شخصي، وتتراوح بين 165-240 سم، عندما يكون الموضوع عاما ويريد المتحدث أن يسمعه الآخرون، وتتراوح المسافة بين الخطيب أو المحاضر والصف الأول من السامعين بين 2.5 - 7 أمتار عند إلقاء خطاب أو محاضرة على جمهور من الناس. أما ما يزيد عن ذلك : يكون النداء لشخص بعيد أو التلويح بالأيدي عند التوديع، وهذه تسمى المسافات المعيارية في المجتمع الأمريكي الشمالي. أما المسافات الاعتيادية للكلام المريح في المجتمع الأمريكي الجنوبي، فتكون أطول منها في المجتمع الأمريكي الشمالي؛ فعندما يلتقي فردان من هذين المجتمعين للحديث؛ فإن الأول يتقدم من الثاني، لأنه يجد المسافة غير مريحة. أما الثاني فيبتعد لنفس السبب، وهكذا لا يجد أي منهما شيئا من الراحة لدى تبادل الحديث مع الآخر.
وفي المجتمعات العربية، فإنّ الاقتراب من.. أوالابتعاد عن مرتبط بأشكال القمع والتحريم و التآمر مع الآخر. وكل المسافات بالتالي مرصودة أو مشغولة بأجهزة الأمن.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف