نموّ الموت في رثاء الطغرائي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كتب الطغرائي مرثاة زوجته هذه يوم كان يافعاً في الحادية أو الثانية والعشرين. ربما لهذا السبب، كتب تجربة شخصية، ولم يستلفْ من خزين رثائي تعلّمه من شعراء سابقين. في هذه القصيدة رؤية في نموّ الموت إذا صحّ التعبير. عملية أقتل ما فيها بطؤها ودقّتها البالغة، وكأنها لهاث محبوس في عملية جراحية، وليست بنت مأتم عيّّاط. بدأ القصيدة بتعبيرٍ غريب،" ولم انسَها"، وكأنّ (الواو) لاعلاقة لها بالعطف او الحال او واو (رب). إنها مواصلة تفصيلية لما كان يدور في ذهن الشاعر من استعادة لها. بكلمات اخرى، إنه يتحدث إلى نفسه، مسترجعاً المأساة في ذهنه، وفجأة، ومثلما تتجمع الآهات في الصدر وتنطلق زفيراً مسموعاً، وصل الشاعر إلى لحظة موتها، فصعد صوته:
"ولم انسَها والموتُ يقبض كفّها ويبسطُها والعينُ ترنو وتطرقُ "
لماذا بدأ الشاعر بالكفّ اولاً، يقبضُها الموت مرةً ويبسطها مرةً ؟ هل أرادت ان تمتد لتلمس شيئاً؟ لتحتضن شيئاً، كآخر وداع، إلاّ ان الموت دخل فيها وشلّها ؟ أو هل أرادت ان تتشبث بشئ لمقاومة الرحيل مع الموت؟ ولكنْ لماذا التركيز على الكفّ بالذات دون سائر الأعضاء؟
مهما كان السبب، فإن الشاعر بهذه الوسيلة، عمّق المأساة لأنه جعلنا نركّز نظرنا معه في جزءٍ حيّ صغير قد تتوقّف حركته، في أيّة لحظة، ومعه تتوقف الحياة. وإذا انتقلنا فإلى عينها. لماذا كانت ترنو وتطرق؟ هل تطلب نجدة؟ أم أنها تودّع على مضض؟
من ناحية ايقاعية، فإن قبْضَ الكف وبسطَها يشبه عملية شهيق وزفير، وكأن الشاعر الذي كان يراقبها، قد دوزن تنَّفسه معهما بانشداه.
يبدو ان محاولة الكفّ فشلت في صراعها الذي انتقل الى العين وهي ترنو برفق وتطرق، هل ارادت ان توصل رسالتها النهائية بصمت ؟ ام انها ارادت ان تتزود بآخر مشهد؟ يمكن ان يقطّع هذا البيت على الصورة التالية:
ولم انسها / والموت يقبض كفّها / ويبسطها / والعين ترنو / وتطرق.
بهذا يكون الشاعر قد حقق خمس مراحل نفسية بمواقيت متصلة في الظاهر إلاّ انها منفصلة، دلّلتْ على حذقه في المراقبة وقدرته على تجسيم الحدث وتطويره.
يبدو كذلك، ان الموت وهو يقبض الكفّ ويبسطها، متزامن مع رنوّ العين واطراقها، فإذا صحّ هذا التزمين، تكون الحركة حركتين، والحدث حدثين، واليأس يأسين، لأن الشاعر سيكون مشتتاً بين النظر من الكف إلى العين مرات متوالية بحركة ذاهبة آيبة، تزيد من التمزق والهلع. يبلغ اليأسان أشدّهما في البيت الثاني، لاسيما في الشطر الاول منه:
وقد دمعتْ أجفانُها وكأنّها جنى نرجسٍِ فيه الندى يترقرقُ.
رمزت الدموع هنا إلى شيئين مرة واحدة، اولاً حجبت رؤية الزوجة المحتضرة، وثانياً كانت اكبر علامة على استسلامها لمصيرها. بيد أن تشبيه الدموع، وفي هذه الحومة المأتمية لاتجيز للشاعر نفسياً ان ينتقل منها إلى صورة للتمتع بجمال غضّ يتمثل بالنرجس وبحركة مضاءة بالندى وهو يترقرق.اللهمّ إلا إذا كانت هذه صورة دموعها يوم كانت حيّة .
صح التوفيق لوناً بين سواد الحزن الكامد، وترف النرجس. الشاعر يستخرج هنا من جديد ، الحياة من الموت..
تزداد الصورة عمقاً مأساويّاً لأن الشاعر في الابيات التالية يشهد وقوع الموت:
وحلّ من المحذور ما كنت اتّقي وحُمَّ من المقدور ما كنتُ أفرقُ
وقيل فراقٌ لا تلاقيَ بعده ولا زاد إلاّ حسرةٌ وتحرّقُ
و لو ان نفساً قبل محتوم يومها قضتْ حسراتٍ كانت النفس تزهق.
مهما دار الأمر، يبدو ان مسافة زمنية نفسية طويلة قد مرت منذ ان وقع المحذور وحُمَّ المقدور، وقد زاد الشاعر من طول تلك المسافة بما ذكره من حسرات. وبما انه لعجبه لم يمُتْ كمداً راح يستعيدها في البيت السادس:
هلالٌ ثوى من قبلِ ان تمّ نورُه وغصن ذوى فينانه وهو مورقُ
ألا يجمع النموّ بين الهلال، والغصن المورق؟ فتاة بنور سماويّ عالٍ، وبراعم تخرج للنور من أرحامها. ولأن المسافة النفسية التي مر بها الشاعر عميقة، فإنه قابلها بمساحة اكبر هي علو السماء وكأنها باتت كالهلال اليافع البعيد، ولكنه بالفعل (ثوى) أنزله من عليائه إلى التراب، وحتى يزيد من مأتمية الصورة، جعل الهلال فتياً لم يتمُ نوره بعد، ومادام الهلال قد هوى إلى الارض، فإن انتقال حاسة البصر إلى غصنٍ يذوي وهو مورق انتقالة معقولة.
تحيّرالشاعر جراء هذا الموت الذي لايُعرف كنهه، كما لايُعرف في الظاهر سبب ذبول الغصن وهو مورق.
قادت هذه الحيرة الوجودية الشاعر إلى العجب في البيت السابع:
فواعجباً أنىّ أُتيح اجتماعنا ؟ وياحسرتا من اين حُمّ التفرق
عجب كهذا يثير اسئلة وجودية اخرى، لا أجوبة لها: كيف اجتماعنا ومن اين جاء التفرق؟
اكثر من ذلك إن الشاعر بهذه الاسئلة نمَّ عن ارتباك ذهني وإن كانت اسئلته منطقية لأنه ظل بلا جواب وباستغلاق سر الحياة عليه، عاد الشاعر ثانية إلى واقع أقسى ما فيه ركوده:
ولم يبق فيما بيننا غير جُئوةٍ على العين تُحثى او على القلب تطبق
هكذا اصبح التراب سداً منيعاً، وستارة انتهت معها كل الفصول، فلم يبق في هذا المسرح المفجع الفارغ إلاّ الشاعر ومايتوهم، فيبدأ خباله الشعري تدريجياً، وتصعد درامية القصيدة إلى أعلى مستوياتها، ابتداءً من الحنين فالبكاء فالشهقة، أي تعلو النبرات كلما اقترب من القبر:
أحِنّ إليها إن تراخى مزارُها ؟ وابكي عليه ان تدانى واشهق
وحتى يطيل الشاعر مأساته، جعل مزارها بعيداً فيتصاعد اللهاث جسدياً ونفسياً وما ان يدنو حتى يبكي، إلاّ أن (وأشهق)، تفرّد شخصي بالمصيبة، وهي أشبه بشهقة الموت، وكأنما لذع اكثر مما تقتضيه تلك الطقوس، وبهذه الكلمة ايضاً تدشين وفاتحة لما سيعانيه من خبال ٍ شعري عنيف، وتوّهم تتجسم فيه الخبالات الشعرية تجسماً ملموساً:
وأبلس حتى ما ابيت كأنما تدور بي الارض الفضاء واصعق
هذا التوهم مرفوق بصمت لحيرة (اي الابلاس) وغرق في شئ بعيد لا يبين معه فإذا الارض الواسعة تدور به فيصعق.
يقترب الفعل: تدور من الدوار، وزاد الشاعر من مساحة الدوار بـ (الفضاء) وثبّت ألمه بـ (أصعق) التي تجمع معنيين في آنٍ واحد: الاول ان يقع مغشياً عليه، او اصابته الصاعقة.
غير أن: أصعق هنا تقرّب الشاعر من دمار الحواس واختلاطها وكأن جُنّ. وفي البيت الحادي عشر:
وألصقها طوراً بصدري واشتفي وأمسحها حيناً بكفي فتعبق
نوحي كلمة (الصقها) هنا، وهي غير الاحتضان مثلاً، عِظم وُدّه لها وحاجته إليها وكأنها إكسير حياته، أكثر من ذلك حقق الشاعر بكلمتي " طوراً " و " حيناً" الانشداه وارتباك فلا يدري ماذا يفعل.
بالاضافة الى ذلك، الا توحي كلمت: " امسح، وتعبق" باعراف دينية لدى زيارة الاضرحة المقدسة حيث " امسح" تعني التبرك و " تعبق " تعني الطيب والبخور. يتم هذا الخشوع الكلي، إذا أضفنا إليها كلمة " أشتفي " .
ولكن كيف الصقها بصدره وكيف مسحها بكفّه بعد ان حُثيَ التراب على العين واطبق على العين؟ هل اختلط على الشاعر فأحياها من دون ان يدري وكان ذُهِبَ بعقله؟.
عند هذا الحد يكون الشاعر قد وصل الى حالة من الوجد الروحي فيتخذ التوهم صوراً حية:
وما زرتها إلاّ توهمتُ أنها بثوبي من وجدي بها تتعلق
هذا الجنون يرافقه من كل زيارة ولا ينقطع بانتهائها، بل تعود معه لكن هذه المرة متعلقة بثيابه فكأنه تلبسها، وكأنها تلبسته. اصبحا بعد ان توحدا شخصين في واحد، لكن نبضيهما ـ إن صح التعبير ـ مختلف وهذا اعمق صراع نفسي واشد ايلاماً، لاسيما والصراع يحتدم في باطن الشاعر . ينتقل الشاعر في البيت الثالث عشر:
واحسبها والحجب بيني وبينها تعي من من وراء الترب قولي فتنطق
من اختلاط الحواس في " واصعق " الى حاسة اللمس في " والصقها " فإلى حاسة الشمّ في " فتعبق "، ثم يعود الى حاسة اللمس التي توسعت الآن من الصدر إلى جسده كافة، حيث تتعلق بثيابه لينتهي بحاسة السمع أي تعي قولي فتنطق. لاريب ان السمع اكثر حدة وتمثلاً للأصوات في حالة إغماض العينين وهاهو الشاعر قد عطل حاسة البصر بتعبيرين في البيت اعلاه " الحجب بيني وبينها ، وتعي من وراء الترب ".
انفردت اذن حاسة السمع بالشاعر وراحت تسمع اصواتاً لاوجود لها إلاّ في رأسه. ألا ينمُ ذلك عما ألَمّ بالشاعر من جنون؟
تمثل انشطار شخصية الشاعر في البيت الرابع عشر:
واُشعر قلبي اليأسَ عنها تصبراً فيرجع مرتاباً به لا يصدق
فأصبح صراعاً بين العقل والقلب، صراعاً لم يستطع حتى اليأس من وضع نهاية له، وكأن الألم سيستمر ماعاش الشاعر، وهو ما يتسقْ تماماً مع " ولم انسها " في بداية الشطر الاول.