فتوّة حالمة بالتغيير تغدو مجرد ذكرى
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
معرض "أممية مبدعي الأوضاع"
مازن الراوي من برلين: "إتركوا الاستعراصات الضخمة. إبدأوا في إبداع الأوضاع!". كان هذا نداء المعركة التي أطلقتها حركة فنية في نهاية الخمسينيات "ضد الفن التقليدي"، في جوهره وفي طبيعته وفي علاقته الأجتماعية، ولكنها، على الرغم من الضجة الفنية والفكرية التي أشعلتها آنذاك ولعقدين من الزمن، خبت فيما بعد ولم تستمر إلى ما بعد منتصف السبعينيات.الآن يقام معرض فني للحركة في لوزان بسويسرا يريد أن يكون نموذجا لتلك المعارض التي اقامتها في شبابها؛ معرض أعمال وملصقات وشعارات ومواد
في الواقع من الصعب الترجمة العربية لاسم الحركة الفنية التي أطلقت على نفسها أسم " إنترناشنال سيتواسيونيست" ترجمة حرفية. ولكننا بالرجوع إلى شروحاتهم النظرية وتعليقاتهم وأعمالهم نتوصل إلى إحاطة عامة بكلمة "سيتواسيون" التي تعني الوضع والموقف والحالة والمكان... إلخ من التعريفات غير المحددة، وقد قصدوا بها الأنتباه واكتشاف المواقف والأوضاع والأماكن والحالات جميعاً للأنفعال بها وانتقائها وتقديمها كعمل فني، وهي في الواقع ( الأوضاع ) بمتناول الجميع الذين يريدون التغيير، أي أن الرؤية ليست حكراً على نخبة الفنانين المحترفين. وكانت قد ترجمت بعض كتابات سارتر إلى العربية، على سبيل المثال، تحت اسم " مواقف" التي جاءت مبهمة وبعيدة عما أرادها سارتر. ولكن أكثر قرباً لترجمة المصطلح، في معناه وفي هدفه، جاء في العدد السادس والسابع من مجلة " فراديس" التي اصدرها عبد القادر الجنابي حيث وصفت الحركة بـ " حركة أممية مبدعي الأوضاع"
" لا للعمل!" بهذا الشعار أعلن جين تنغويلي افتتاح معرض " أممية مبدعي الأوضاع "( 1957 ـ 1972 ) في متحف بازل بسويسرا. ويقدم المعرض تحت شعار تفاعل ثقافة واحدة من قبل " روش". وكما هو معروف أن "روش" هي مجموعة الشركات المعروفة عالمياً بـ " ملتي كيمياء هوفمان لا روش" أحدى أهم الشركات الرأسمالية المعنية بالأرباح. لذلك من السخرية المؤلمة أن يكون المصير والقدر دفع أممية مبدعي الأوضاع، وهي الحركة المتطرفة ضد البورجوازية وضد الرأسمالية وضد الحركة الفنية التقليدية أن يقام معرضها هناك ويفتتح للنخبة.
يقدم المعرض المذكور بضمن ما يقدم، وعلى رأس عروضاته شعاراً يُسقِط مبدعي الأوضاع أنفسهم في الفخ الذي حذروا الآخرين من السقوط فيه. وحين أعلنوا انهم ليسو "محترفون تقليديون" في الفنون، فإن معرضهم قد أعلن عكس ذلك. والواقع أن حركة، مثل حركتم، توجهت في الأساس لأن تكون ضد الفن قدمت بالتالي ما يتضمن الفن في أعمالها المعروضة حالياً. وكذلك شأن المتاحف التي تقتني وتعرض كل ما من شأنه يمت بصلة للنشاط الفني وتاريخ تطوره لتعرضه كوثائق فنية لنخبة من الجمهور وفي صالات مغلقة.
في هذا السياق يعرض متحف ـ تنغويلي دليل عروض وأعمال لصق وأفلام ولوحات وكل ما تبقى من تراث أممية مبدعي الأوضاع والحركة التي سبقتهم. وما يحاول المشاهد أن يستخلصه، من خلال المعرض، يمكن به أن ينصفهم على نحو عادل ويقيّم الحركة في جماليتها ومواقفها وفق ما يشاهده.
هكذا حاول منظموا العرض التوصل إلى إيحاء ثوري مقبول بإلصاق نصوص معارض جاءت كمنشورات عُلقت على الجدران. ومن الواضح أن المنظمين بحثوا عنها بجد و بجهد لتعرض كما عرضت إبان فتوة نشاطهم " الفني". على سبيل المثال، تمّ تعليق الملصق الجميل الذي يحمل عبارة غي ديبورد" لا للعمل قط " التي أعيدت كتابتها بآلة رش الدهان.
وعلى الرغم من الذكرى الفتية والمثالية التي كانت تكمن في روح أولئك المبدعين أصبح الشعار مع الزمن مجرد أنشودة. لكن المعرض يبقى مع ذلك جديراً بالمشاهدة ويستعرض مجدداً نشاط تلك الحركة، فضلاً عن أنه يقدم كتالوكاً غنياً يحيط بالحركة التي خبى اشعاعها مع الزمن ومع التغيرات التي طرأت على عالم الفن. وكما يقول الناقد ماتياس بوشلا ببعض من السخرية: إن أممية مبدعي الأوضاع في هذا الحضور هي نمر من ورق تقرأها وتتصفحها لتأخذ عنها فكرة عامة وتحيط ببعض تفاصيلها.
لم يثر الملصق الذي يدعوا إلى الكسل استنكاراً أو احتجاجاً ( في سويسرا) بقدر ما أثارت بطاقة بريدية منذ العام 1962، وهي عمل كولاج لديتر كونسلمان عن "كومونة برلين القدبمة" وهي تمثل صورتين قديمتين من الفن المسيحي، صورة ملاك من الفترة الباروكية وصورة من الفترة الغوطية تمثل صلب المسيح وقد دمجتا معاً بعبارات مأخوذة من صحيفة محلية وعنوان رئيسي محفور تقول :" لوبكه يدعوا المسيحيين للتلاقح مع الدجاج". وقد ثارت ثائرة صحيفة محلية فكتبت عن هذه البطاقة البريدية الصغيرة تقول " إهانة الله في متحف". في الواقع لم تحدث أية ضجة، بل على العكس أعتبر المعرض عملاً معلوماتياً ممتعاً عن فترة زمنية معينة وربما البحث عن جذور أممية مبدعي الأوضاع التي انطفأت. وما تبقى منها مجرد عرض يتقبله أو لا يتقبله الذوق الفني.
من الواضح أن أممية مبدعي الأوضاع أرادت ذلك، ولكنها أيضاً أملت أكثر: " أردنا بالتأكيد أن يتغير العالم. أردنا التحرر الأكثر والأعمق للمجتمع وللحياة التي نرتبط بها". هذا ما كانت تأمل الأممية في إنجازه. وكانت في رؤيتها وفي نشاطها الفني تريد أن تتجاوز و تفكك الفن القائم بمفهومه وسيرورته التاريخية المتبعة. ولكن لماذا؟ لأن الفن في علاقاته يتحالف ويرتبط بالرأسمال. كان الفن ( وما زال) جزءاً من المشهد المثير الذي يقاد من قبل أقلية صغيرة. كانت أممية مبدعي الأوضاع نقيض الحركة الفنية ـ في جوهر، هدفها ومهمتها أن تغيّر حياة الجميع ليس فقط حياة أولئك الذين يتاح لهم تذوق الفن. إذاً لتسقط عروض الإثارة المحدودة وليعم أبداع الأوضاع. ليسقط السأم الثقيل وليعم شعر جديد في حياتنا اليومية التي نعيشها.
ولكن هل تمكنت أممية مبدعي الأوضاع فعلاً أن تحقق وضعا جديداً لناس جدد؟.
في 28 تمز 1957 أسست أممية مبدعي الأوضاع نفسها، من مختلف" الأمميات" التي سبقتها، في شمال إيطاليا. كان الرأس المحرك لها غي ديبورد الذي كان يعيش في باريس، وهو الذي كتب البيان التأسيسي لها وسمّاه "تقرير عن بنية الوضعية". وبلغ عدد المنتمين إلى الحركة قرابة 72 عضواً من بلدان متعددة، منها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا والولايات المتحدة الأمريكية ومن شمال أفريقيا.
كان نهج الحركة في إنجاز مشاريعها هو البحث والعثور على أشياء وحاجات ومواد مصنوعة متروكة ومهملة، ثمّ تقييمها وتقديمها على نحو جديد. هكذا كانت تشترى ما تنتجه المعامل من" فنون" لتقيّم وليجري تحويرها بما يلائم رؤية المبدعين، كانت المدن والأماكن تتغير إلى فضاءات ممتلئة بالحياة تعلن عن نفسها. كان يجري البحث عن السعادة في الحياة. لذا كانت الثمالة وتناول المخدرات وتعميق النقاشات جزءاً من الأفراح. كانت مجلة" أممية مبدعي الأوضاع " عصب الحركة، صدر منها 12 عدداً حتى العام 1969. وتجد فيها امتزاج الجدية الثورية بالمزاج الفكه والدعابة السوداء. وإلى جانب بحوث اختصاص نظرية ودراسات مختصرة تحتويها المجلة تنشر صور نساء في ملصقات لغرض الإثارة. بل تنشر صور نساء انتمت للحركة أو تشيع لها وهي تتحدث في جُمل مكتوبة داخل فقاعات. لم يكن شيئاً أو أحداً بمنجى من سخرية الوضعيين في دعواتهم الإعلانية. وإذا ما عُثرعلى مناسبة ما أو حدث من الأحدات فلا خلاص مطلقاً من التحريض والإثارة.
وصلت "أممية مبدعي الأوضاع" إلى قمة تألقها مع ثورة الطلبة في العام 1968. لقد أصبحت المواقف لديهم أكثر راديكالية والرؤى الفنية أكثر ضيقاً، بينما تقلصت رحابة الفنانين في نظرتهم إلى موضوعاتهم، فابتعد أولئك الأعضاء الذين كرسوا أنفسهم للفن، أو أبعدوا عن الأممية. لكن البديل، وفي الوقت المناسب، جاء من الجامعات. كان مبدعو الأوضاع يعرفون فعلاً كيف تجري المياه، وكيف يمكن في الفن أن تكون محرضاً ومتمرداً. ولكن في نفس الوقت جاءت الفخاخ التي نصبوها للفن التقليدي فخاخاً لهم فيما بعد. لقد أصبحوا هم عناوين إثارة بدل أن يتمكنوا من إجراء تغيير في إصلاح سوق الفن كبضاعة. لقد حُلت حركة أممية مبدعي الأوضاع في العام 1972وأصبحت مجرد ذكرى وتراث.