ثقافات

كيف صرتُ غبيا!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عبد الله كرمون من باريس: عادة ما أتناول كتبا حديثة الظهور، غير أنني هذه المرة أجدني بصدد الرواية الأولى التي صدرت لمارتان باج بداية القرن الواحد والعشرين. أما آخر كتبه عن "المطر" فقد صدر خلال العام الذي نحن فيه. فما الذي دفعني إذن إلى هذا الاختيار الغريب؟ يكمن سبب ذلك في أمرين، أولهما: كوني أريد، بشكل ضمني، أن أتحدث عن ظاهرة تميز مجال الكتابة بشكل عام، وتشمل الكتاب الفرنسيين بشكل خاص، ألا وهي أنه بعد نشر كتاب أول وناجح يتشبث الكاتب بكونه مبدعا وينخرط بشكل غير تلقائي في خضم التدوين وينسى الدواعي العميقة التي جعلته يكتب أول مرة بعيدا عن أية ضوضاء. الأمر الثاني هو أن رواية "كيف صرتُ غبيا" جميلة وتمتاز عن غيرها من الروايات الأخرى الضعيفة، التي أصدر باج بعدها.
مارتان باج من الكتاب الشباب (مواليد 1975)، فقد زاول مهن كثيرة وتنقل في دراسته بين فروع معرفية متباينة من التاريخ إلى الأنثربولوجيا ومن علم النفس إلى الأدب، ما يدل على قلقه الدائم وتعشش لوثة الفن في أقاصي روحه.
"كيف صرت غبيا" نوع من خرائط لا تخفي عنا، إلا قليلا، كيف يحدث أن يتوزع شخص ما مثل أنتوان في الرواية بين رغبته في التأقلم مع محيطه وبين إرادته في قبول ذاته كما هي. الشيء الذي ليس ينجو من خيوطه من ليس يقوى على التمزقات الحادة في الوعي وتصاميم اليومي المضبّبة.
القلق الذي يعاني منه أنتوان كامن في كونه اقتنع بأن الذكاء يجعل الفرد شقيا، وحيدا، منعزلا وفقيرا. لا شك أننا لسنا ننسى بيت المتنبي عن شقاء ذي العقل في النعيم بعقله ولسنا ننسى بؤس التوحيدي وغيره، إذ هم كُثر. لكن أنتوان أراد أن "يغلف دماغه بكفن الغباء". "لقد قضى الليلة في الكتابة (...) واستطاع في آخر الأمر أن يدبج بيانه" حول نيته في أن يكون غبيا.
هو الذي تعرف كما يقول على كون دهنه هو السبب الكامن خلف شقائه ووضع بالتالي كل البراهين التي توضح جيدا الدواعي التي جعلته يتخلى عن كل تفكير!
أنتوان يسرق بعض حاجياته من المحل التجاري القريب من سكناه، غير أنه ليس يعتبر نفسه سارقا حقيقيا لأنه لا ينتزع سوى ما يحتاج إليه. وما دام ليس يتوفر على المال الكافي كي يشتري كل الكتب التي يرغب فيها فإنه يسرقها من أكبر محلات الكتب، ولأنه لاحظ حزم وملاحظة الحراس بها فإنه يسرقها صفحة تلو أخرى، ويعيد إنشاء الكتاب في بيته وكأنه ناشر سري كما يقول. وعلى هذا الأساس فمكتبته تحتوي على العديد من تلك الكتب التي أعاد صناعتها.
يختزل أنتوان كل مخاوفه ويدعي مع ذلك كونه يدرك إلى أين يمضي بالشكل الذي يجترح به الأشياء، وبأن الأمر سوف ينتهي به إلى الوصول إلى إيتاكا. غير أنه وجد عزاء وملاذا خاصا في عبارة عن فيلم تقول: "أنا في عالم قذر، غير أنني حي ولست خائفا".
لكن قبل أن ينخرط عمليا في رغبته أي "قبل أن يتخذ القرار الذي سوف يغير مجرى حياته من جوانب عدة، أي قبل أن يصير غبيا، فقد جرب أنتوان طرق وحلول أخرى كي يفك معضلة الصعوبة التي يلقى إزاء المشاركة في الحياة".
من أجل هذا فكر أن يتجه نحو الكحول، "وهو الذي لم يذق قط ولو قطرة كحول". ارتأى إذن أن ينخرط في فلسفة السكر، هذه الفلسفة التي ظن أنها تَِعد بالكثير، مثل اللامبالاة وخفة الشخص في عالم مثقل بالمثبطات. يرى أنه، في أقصى تقدير، سوف يصير مدمنا، وإذا صار كذلك فيمكن أن نداويه، إذ الإدمان معترف به كمرض اجتماعي، ويحاط برعاية طبية، كما يقول، غير أن أحدا لا يأبه بالأذكياء ويعطف عليهم!
"فالذكاء ألم مضاعف، فهو يُدمي ولا أحد يفكر أن يعتبره مرضا".
يفكر أنتوان إذن بشكل جدي في مشروعه، لكنه يتساءل كيف سوف يلقي بنفسه في خضم تجربة شفاء جديدة. هل سوف ينبري بلا مقدمات ويزج ببراميل في جوفه؟
استدرك واتضح لديه أن عليه أن يصير سكيرا مدمنا بذكاء، بطريقة معرفية "مبنية على الإحاطة بأسرار السم الذي سوف ينقذه!" حمل كتب بيبلوغرافيا الكحول التي أعدها ومضى إلى أقرب بار إليه.
لم يمتنع عن أن يعلق على رواد البار الذي خصه بتمارينه الأولى. ثمة رجال قد استندوا منذ الثامنة صباحا إلى الطاولة وهم يشربون، "أناس لهم ذلك العمر المبهم؛ غير المحدد: المدمنون. جراحات حياتهم لم تقدر أن توفر لهم طعما وقوة للنزوات السليمة، لذلك ينفقون رواتبهم الهزيلة في بدائل السعادة والجمال التي هي الكحول!"
غير أنه لم ينس أن يبوح باكتشافه أن "الكحول مرتبطة بتاريخ الإنسانية، وبأن لها أتباع أكثر بكثير من أتباع المسيحية والبوذية والإسلام مجتمعة كلها".
أراد أنتوان إذن أن يتقبل الكحول ضدا على كل تحذيرات الآخرين من شرها ومن التيهان المحتم في سرادبيها المظلمة. قال أنتوان: "أفضّل مرضا تحتويه حدود قارورة على مرض غير مادي وهائل لست أجد له اسما!"
منذ البدء، و"بسبب حساسية فيزيولوجية قصوى فأنتوان لم يستطع أن يصير سكيرا. لذلك قرر أن يتناول دواء مشابها إذ قرر أن ينتحر. أن يكون سكيرا كان بمثابة آخر طموحه في التناغم الاجتماعي، أن ينتحر إذن هو الوسيلة الأخيرة التي يجدها كي يشارك في العالم".
لقد استشعر أن "الحياة ليست سوى عذابا لانهائيا" ووصل به الأمر درجة "أن يفرح بأن يجد في الموت الدليل المحسوس والوحيد بأنه كان حيا". لقد حضر دروس لمن يرغب في الانتحار، تقنيات ذلك وسبل عدم الوقوع في عملية فاشلة. حتى الانتحار ليس سهلا كما يُخَيّل للجميع! قال بأنه "في الواقع لست جد موهوب لأن أعيش وقد أتحقق في الموت. فلدي بلا شك مقومات أكثر لأن أكون ميتا على أن أكون حيا!"
دون أن أتحدث عن كل متاهاته في عالم الانتحار والموت وفي عالم كل الكبار المنتحرين فإن أنتوان "لا يريد أن يعيش، ما كان مؤكدا، غير أنه ليس يريد كذلك أن يموت".
لقد أصر إذن على أن يصير غبيا، وذلك لدى عودته من جلساته المعتادة مع أصدقائه على كراسي المقهى الذي يرتادونه. في اللقاء الموالي أخرج أنتوان دفترا سجل فيه التزامه الكبير. نقرأ بعض ما فيه: "هناك أناس ليسوا يوفقون في تحقيق الأشياء الجميلة. (...) جاء في سِفر الجامعة من يزد في علمه يزد في ألمه. (...) علي لعنة العقل، أنا فقير، أعزب ومكتئب. منذ شهور وأنا أفكر في مرضِ أنْ أفكر كثيرا، ووجدت ارتباط شقائي بفوران عقلي". (...) هناك مثل صيني يقول ما معناه أن الأسماك لا تدرك أبدا متى تبول. وهذا ينطبق جيدا على المثقفين!(...) لأن الذكاء مرض!"

هكذا إذن سعى أنتوان إلى غايته، دون أن أثير كل التفاصيل المدهشة الكامنة في تجربة هذا الأنتوان الموجود بعضه في كل منا، إذ أن محاولته أن يكون غبيا هي في حد ذاتها محاولة ذكية. وها هو في الأخير، متخلصا من كآبته الفادحة، يتصرف وكأنه اختفى عن أنظار العالم!

kermounfr@yahoo.fr

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف