ثقافات

هيكل الزهر ومكر المصادفة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

نصر جميل من غزة: إنه لمن مكر المصادفة أن يتزامنَ صدور "هيكل الزهر" للشاعرة المصرية فاطمة ناعوت، عن دار النهضة ببيروت ؛ مع الضجّة الكبيرة المثارة حول قصيدة "شرفة ليلى مراد" للشاعر المصري حلمي سالم، التي قامت بنشرها مجلة "إبداع" التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية، ويرأس تحريرها الشاعر عبد المعطي حجازي. إذ أثار نشر المجلة القصيدة، المنشورة أصلا في ديوان سالم: "الثناء على الضعف"، حفيظة الذين رأوا أنّها تمسّ "الذات الالهية" بشكل لا يقبل التأويل والمجاز. إذًا، لابد من هذا التمهيد، قبل التحدّث في خصوصية وجوهر "هيكل الزهر" على صعيد الجمالية والتجرّؤ على "الله "، أولا، لدى الشاعرة. تقتضي هذه المناسبة الوقوفَ المستويين الجمالي والدلالي للمقطعين الأخيرين "الأحرار" و "الطائر"، من قصيدة حلمي سالم. فهما على المستوى الجمالي الفني، لا يتمتعان بالصلابة والصمود. غير أن حلمي سالم يؤنسن " الله " مباشرةً، نافيـًا عن إنسانيته أفعال الظلم والقساوة والصلابة؛ فيصوّره، في جانبٍ، قرويا يقوم بأفعال الرحمة والخير على الأرض. ويستند سالم على تقاليد رمزية مباشرة يمكن شرحها دون تسميتها شعرًا، من خلال مقارنات صريحة بصور ملموسة، ففي مقطع "الأحرار" يقول: " الربّ ليس شرطياً/ حتي يمسك الجناة من قفاهم/ إنما هو قروي يزغط البط/ ويجسّ ضرع البقرة بأصابعه صائحاً:/ وافر هذا اللبن/ الجناة أحرار لأنهم امتحاننا/ الذي يضعه الرب آخر كلّ فصل/ قبل أن يؤلف سورة البقرة". كما نقرأ في المقطع الأخير "الطائر": "الربّ ليس عسكري مرور/ إنْ هو إلا طائر/ وعلي كلّ واحد منّا تجهيز العنق/ لماذا تعتبين عليه رفرفته فوق الرؤوس ؟/ فاطمة ناعوت وحلمي سالم هل تريدين منه/ أن يمشي بعصاه/ في شارع زكريا أحمد/ ينظّم السير/ ويعذّب المرسيدس؟". والمفارقة أن المقاطع التي تعلو المقطعين أجمل على المستوى الجمالي والدلالي. ولعلّ أهمّ من كتبوا حول قضية "شرفة ليلة مراد" الشاعر المصري حسن طِلب، الذي جاءت مقالته في مجلة "أخبار الأدب" المصرية، بتاريخ 12/5/2007، بعنوان: "حتي لا يعود فقهاء المصادرة بهراواتهم الغليظة". وأكد فيها على حرية التعبير، وحذر من عودة فقهاء الظلام، وقارن حقائق الكلام في الشرفة بالوقائع الملموسة. ولم يتوان، في الوقت ذاته، عن القول بأن هشاشة القصيدة وركاكتها شجعت علي القراءة الحرْفيّة والرفض.. وهم في ذلك محقّون من حيث المبدأ، كما يقول طِلب، فنحن إلى الآن نقرأ ألوانًا من خروج الشعراء الكبار قديمًا وحديثًا، وإنا لنستمتع بها في الغالب، علي ما فيها من شطط يصدم الشعور الخلقي، أو يمسّ الإحساس الديني. ونحن حين نغفر لهؤلاء الشعراء الكبار تجاوزاتهم الأخلاقية والدينية، فإنما نفعل هذا بسبب ما فيها من لغة رمزية رفيعة، ومن صياغة قوية محكمة، ومن صور مبتكرة مدهشة". ولا ننسى أن هذا الموقف الذي يعبّر عن انتصار لحرية التعبير، مع إصراره على تعرية درجة القيمة الجمالية للقصيدة؛ إنما هو صادر عن شاعر مجاور لحلمي سالم. ونذكر في هذا الخصوص، ما أورده الناقد جابر عصفور في الجزء الثاني من مقالته "عن القيمة"، المنشورة في "الحياة اللندنية" بتاريخ 30/5/2007، وما جاء فيها أن: "المجاورة التي جمعت ما بين حلمي سالم وحسن طلب وجمال القصاص وأمجد ريان وغيرهم في "إضاءة" سرعان ما تتكشف عن مغايرة في درجات القيمة التي تعلو، مع تفاوت ملحوظ، في حالة حلمي سالم وحسن طلب". وليس هذا وحسب، بل إنّنا نلاحظ تفاوفًا في درجات القيمة بين قصائد شاعر واحد في ديوانه.
وليس بعيدًا عن هذا، في مجموعة "هيكل الزهر"، والتي هي بمثابة مغامرة شعرية بالنثر المطعّم بمقاطع موزونة، يمكننا أن نعود إلى شواهد كثيرة، تنتهج نفسَ الخط من خطوط الجرأة، ولكن من دون أن ينتبه القرّاء والقضاء. فقصيدة للشاعرة بعنوان "أبواب " تذكرنا بقصيدة: "أمام الباب المغلق" للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، وفيها تتجرأ على "الله" بلغة تبدأ خفيفة وتصل حدتها ذراها، كبحث عن "الجدوى" في ظل ما يحصل في الوجود والوطن. تقول ناعوت بنبرة مخفّفة وضاجرة، وتمهّد لارتفاع النبرة في قصائد قادمة: "وأنا هنا وحدي/ كلّما دقّتِ الرابعةُ فجرًا/ أعدِّلُ وضعَ النافذةِ/ لأصغي للمؤذّنِ الذي لا يغيّر قولَه أبدًا". وأما النبرة أو الطرْقة القويّة، فنجدها في قصيدة بعنوان "كان اسمه سليمان"، وفيها تقول ناعوت: "نحتاج شيئًا من الزيتِ والزعتر للعشاء/ وحَبتيْ زيتون/ فاطْرقِ البابَ على الله/ في الغرفةِ المجاورة،/ وخبِّرْهُ أننا جياعْ./ الأحجارُ مبتّلةٌ!/ فكيف أصنعُ الخبزَ؟/ اِذهبْ واسرقْ لنا شعلةً من قنديِلهِ/ واحذرْ أنْ توقظَهْ". وفي قصيدة بعنوان: "خاتمٌ من أجل نائلة" تقول: "وترتبكُ الفرشاةُ في يدِ الله"، وفي قصيدة "إسمك راشيل كوري" فتقول: "لن أذهبَ إلى المرقصْ/ أين باسبوري الأزرقُ يا أبي؟/ أودُّ الكلامَ مع الله!". وأما من هي (راشيل كوري Rachel Corrie؟ فهي فتاة أمريكية مناهضة لسياسات أمريكا في الشرق الأوسط. سافرت إلى فلسطين كمناضلة مع القضية. وقفت أمام جرافة إسرائيلية، في مدينة رفح الفلسطينية، على حدودية مع مصر الشقيقة، كي تحمي منزلا فلسطينيا من الهدم. فدهستها). لذا، تستدرك الشاعرة في قصيدة راشيل: "لكننا لم نقف أمام جرّافةٍ لتسحقَنا/ كي نتكلمَ مع الله/ أو لنوقفَ مدفعًا/ يريد أن يخطفَ طفلا/ من ضحكته". وتستعمل الشاعرة في قصائد أخرى كلمة "الربّ"، لاسيما قولها في قصيدة "بينج بونج": "بينما الجميلُ الأسمرُ/ الذي يرقبُ العالمَ من وراء الزجاج/ ذو الشَّعرِ المصقولِ/ والعيونِ التي تركضُ خلف القطارات/ يراهنُ على ضبْطِ ميزانِ الربّ/ بقشرةِ برتقالٍ ومِضربِ بينج بونج وبعضِ قواريرَ فارغة". وهكذا تُجهّزُ التبرماتُ الطرقاتُ الخفيفة والحادّة لتقاطع الشعر مع النثر، أي ذات الشاعرة مع الحدث الناثر والمنثورة، في الوجود والوطن. إذ يحضر في القصيدة وعي وخطاب المرأة المعارضة السياسية "المغامرة"، ولكن بأسلوب اللمز والسخرية والترميز الذي لا يتطلب عناءً لإحالته على رأس "الهرم"، حديث لسان "القاعدة" من طبقات النثر الشعبيّ في الأمكنة والشوارع والمقاهي وعلى الجسور على نهر النيل. وعلى حدة، يَحدث أن تقف (الأنا) بمفردها على الجسر تتشّوف الخلاص في النهر أو تطلبه منه، "فيما الفلاحون يضربونَ فؤوسَهم / في الطمي / كي يختبروا قوةَ إبصار الله" ! ولا ننسى حرص الشاعرة على استخدام شخصيات، في أعمال أدبية، دالة، مثل: فاوست، الجبلاوي.. !

هيكل الزهر، ومحطة الرمل:
"هيكل الزهر" و "محطة الرمل" كلاهما عنوانان يرمزان للموت، ويجسدانه بـ "هيكل العظم". وفي عنوان المجموعة "هيكل الزهر"، بشكل خاص، إحساس بالموت المبكّر نلمسه في إضافة "هيكل" "للزهر" المفترض أنه يشير لنضرة العمر والتفتّح. على أنّه يقف "الهيكل" بالتوازي الدلالي مع بديلين له هما: "المعبد" و"الكوخ". وفي هذه التوازيات إشارة للجوء الشاعرة لأساطير، قدماء مصر وطقوس الموت والبعث لديهم. وأما " الكوخ "، أيضا، فموازٍ لـ"محطة الرمل" و "أمي"، وهذي هي عناوين قصائد في موت وحياة الأنا والعزلة والتوحّد. فتبدأ الشاعرة أولى قصائد "الهيكل" بقصيدة "أمي" التي تمتاز بإيقاع جنائزي بطيء، وفيها تضمر الشاعرة شكوي البنت للأم من تعب الحياة، فيما هي ترسم في القصيدة مشهد الأم على عتبة الدار، وتابوت البنت محمولا على الأكتاف، ربما هذا إختبار من الشاعرة لقياس فجيعة الموت المبكّر في قلب الأم، وربما القصيدة، بالشكل المعكوس، نتاج تفكير البنت بموت الأم. غير أنّ هذا التعاكس يلحّ على قول أنّ المعنى من ثنائية الحياة والموت واحد يوحّد الأم والبنت معا في المصير. فالأنا المصرية واحدة إذا ما منطقناها بقانون الهوية (الذاتية) في ظلّ شعرنة الشاعرة لعدم المنطق، وذهابها للأسطورة كي تؤصّل تراجيديا الأم والبنت، في إطار الأسرة. وكذا في الإطار الأوسع: السياسة. وأبعد من ذلك في الإطار الخاص بالذات الفردية: " أنا مصريةٌ/ لستُ أحتاجُ إلى رجلٍ يعيرني اسمًا أو هُوية / أحتاجُ وحسب/ أن أُنصتَ إلى الكهل الطيّب/ الذي وضعَ شعرةَ معاويةَ في كفِّكَ/ وفي كفي،/ كان اسمُه سليمان". وهناك في بعض قصائد تستعين الشاعرة بمشهد إلقاء العروس الجميلة الشهية في النيل. وفي قصيدة قصيرة جدّا بعنوان "أبي" يكتمل مشهد موت الأسرة: "ماتَ بالصدمةِ العصبيّة، حين غرقَ طفلاه أولَ أمسْ:/ أنا،/ ابتلعتني سمكةٌ،/ وأخي،/ ابتلعَ كلَّ مياه النهرْ.". وتمزج الأنا ذاتها بالعلامات المائية العربية (النيل، الفرات، بَرَدَى، الخليج ) تنقسمها على تعدد المعني، وتوزّع الأنا على الجميع. فنجد الرحيل والمسافة والأمل في الحياة والإخفاق والانشطار والتكبيل والانتزاع، وفوق ذلك حزن شفاف قبالته عرس ومَرَح مائيّ مشوب بالبلاهة: "كان عليكَ قبل الرحيل/ أن تعلّمني/ كيف أقيسُ الزمانَ بالفرسخْ/ والمكانَ بدَقّةِ العصفورْ/ والعشقَ بعددِ الكؤوسِ التي سكبناها في الحُفرةِ/ كي نبني نهرًا في السفح،/ لكننا أخفقنا/ ومثلثُ الماءِ لم يكتمل،/ تعرف لماذا؟ / لأنّ الفُراتَ مشطورٌ بسهميْن،/ والنيلَ مربوطةٌ يداه من خِلاف،/ وبَرَدَى/ محضُ خيطٍ منزوعٍ من فستانِ دمشق/ أما الخليجُ/ فيجلسُ في اللوج طبعًا/ يتابعُ العرضَ بمرحٍ/ ويدُهُ تحت ذقنِه."!

استطيقا الموت:
وللتوسّع في الكشف عن استطيقا الموت في قصيدة العتبة، "أمي"، نقف على اقتراح الشاعرة الموتَ على نفسها، كي يكونَ موتها المدبّر إختبارًا أخيرًا، أو مَحطّة الرمل الأخيرة ؛ لإيجاد المبرّر والذريعة للأصدقاء الأشرار كي يتغيّروا، بعد موتها، تجاهها. وكانت عبّرت عن ذلك في قصيدة "محطة الرمل" بقولها: "لن أجدَ مبرّرًا لأزعمَ أنني أكثرُ طيبةً/ من أصدقائي الأشرار!/ لكن/ سأهمسُ لصاحبي:/ بوسعِكَ الآن أنْ ترفعَ إصبَعَك، لتمسَّ الورمَ المختبئَ في صدغي". وتقول قصيدة "أمي" حاملة الاقتراح الجمالي مضمونا وشكلا: "تقفُ على عتبةِ الدار/ عكّازٌ في يدِها/ تنتظرُ التابوتَ الذي أنا فيه/ تكشفُ الغطاء/ تمسُّ العينَ المُرخاةَ وتقول:/ كانت ابنتي خرساءْ/ يُفزعُها ضجيجُ العرباتِ والضوءْ/ فلماذا تركتموها حتى تموتَ كثيرًا/ هي ابنتي/ أعرفُها من ثقبٍ في الرئة/ وأنا/ أريدُ أن أغلقَ الباب!/ فشكرًا للأصدقاء الذين لم يأتوا/ أجملُ المُعزّين الذين يغيبون". وهذا الموت الخلاق يحيا شعرًا في قصيدة بعنوان "ملاك"، فيها تقول الشاعرة: "عجيبٌ أنني لم أمتِ اليومَ/ رغم أنني قرَّرتُ في الصباحِ مصافحتَهم/ كلَّ الذين نثروا الترابَ في كأسي/ كلِّ الذين أطلقوا جنادبَهم/ لتأكلَ معصمي المعطوبْ،/ إذن/ لم يكن ملاكُ الموتِ هو الذي هزَّ الستارةَ عند الفجر/ كان ملاكَ الشِّعر". وبرغم أنها ذاقت جذلانهم لها في الحياة هؤلاء الذين نثروا التراب في كأسها.. برغم ذلك؛ تشكرهم وتثني على سلبيتهم بقوله: "فشكرًا للأصدقاء الذين لم يأتوا/ أجمل الأصدقاء الذين يغيبون". وتنتشر كلمات قصيدة "أمي" على مساحة كبيرة في المجموعة التي ستحتفظ بخصوصية تجربة متطورة عن السابق، تعالج المكان والأمومة والموت والأصدقاء وضجيج وحزن الواقع، وجماليات العزاء؛ معالجة شعرية تستحق الاهتمام والإضاءة. وتعتبر قصائد: "لا تهدموا الكوخ"، "إيزيس"، "خاتم من أجل نائلة"، و " شجرة زيتونة ".. من التي القصائد توسّعت في تناول ما ذكر من قضايا، على نحو شعري. ففي "محطة الرمل" تقول الشاعرة: " النساءَ يصبحن أجملَ في ملابسِ الحداد ".." علينا وحسب أن نجلسَ صامتيْن في مقهى Elite/ (الذي في شارع صفية زغلول)/ لنحسبَ طولَ الجسدِ وعرضَه/ من أجل تابوتٍ يليقُ بالرجلْ/ فنحن أرقى من الصيادين الأجلافْ/ الذين لا يعبأون بجثامين الأسماكِ/ حين يُلقى بها في القفـّة/ دون تقديرٍ لجلالِ الموت". ومن الموت تعود الشاعرة للحياة، لذاتها المنذورة للحزن والعزلة ولأشيائها. مثلا، نلاحظ ذلك في قصيدة: "لا تهدموا الكوخ "، وكذا في قصيدة "عُرْفُ ديك"، التي تقول فيها: "جميلٌ أن تستلقي/ وتمدي ذراعيكِ/ فتمسِّي أركانَ السقفِ/ أو تشبُكي كفيّك تحت ذقنِكِ مثل قطةٍ/ تتمطــى/ جميلٌ أن تنبسطي مثل فراشةٍ/ لا تكبّلُها يدا طفلٍ/ ولا يفسدُ زُرقتَها بياضٌ./ جميلٌ/ أن تتنفسي كلَّ هواء الغرفة/ وحدَكِ/ قبل أن يبتلعَه سعالٌ/ أو يلوّثَ نقاءَه/ عُرْفُ ديك./ أن يتحوّلَ نصفُ السرير من جديد/ إلى مكتبةٍ/ وأن تحوزي وسادتيْن/ لا واحدة". ولأن القصائدَ تفكّر كثيرا في التوحّد والتمرّكز ومنطق الاستقرار عبر قوانين الهوية الذاتية، التناقض وعدم التناقض، وقانون الثالث المرفوع ؛ يظهر تفكيرها في قصيدة "كان اسمه سليمان"، وفيها نقرأ: " الليلةُ/ ستمرُّ أيضًا/ دون أن يمشيَ ظلٌّ على الستارةْ./ الليلةَ/ ستُكمِلُ الوحدةُ نِصابَها/ وتضحكُ في سِرِّها/ على التي صدّقتْ حواديتَ الجَدّةِ/ والثالثَ المرفوعْ /لا لم يكنْ أحدٌ هنا يا بنتُ!/ لم يأتِ ولدٌ من هناك/ كي يضعَ وردةً تحت وسادتِكْ.". ومن هنا، لحزنها وجهان، وجه عليه قصيدة "إيزيس" ووجه عليه الشاعرة الآن. على أن الأمر سيان، فبإمكاننا قراءة الحزن بالذاتي والجمعي في وحدة دائمة، من أيّ من الوجهين. أقرب الأمثلة، على ذلك، قصيدة "إيزيس" التي هي ربة القمر في الأسطورة، عند قدماء المصريين كما عرفت بأنها أم الطبيعة والزمن. إنها أرضُ مصرَ الحبيبة، زوجها "أوزيريس" إله البعث والخصوبة، فهو فيضان النيل والخير والعدل والاتزان والازدهار، وهو رئيس محكمة الموتى عند قدماء المصريين. وتقول الأسطورة أنه قتل على يد أخيه الشرير "ست"، الذي أصبح رمزًا للشر. حيث قام بعمل احتفالية عرَض فيها تابوتًا جميلا نام مجموع الحاضرين فيه؛ لكنه لم يكن مناسبًا إلا لـ "أوزيريس"، وألقاه في النيل وقطّع أوصاله ورمى بها إلى أنحاء متفرقه من وادي النيل , فبكته "إيزيس" وأختها. وبدأت رحلتها فوق الماء بحثـًا عن أشلاء زوجها في النهر. وتمكنت وهي تجري لاهثة فوق النهر العظيم من جمعها كلها، باستثناء قطعة، كانت قد ابتلعتها سمكة الأنومة. ( ونذكر أنّه في قصيدة "أبي" التي بها اكتمل مشهد موت الأسرة ؛ قالت الشاعرة: " أنا،/ ابتلعتني سمكةٌ"). وبعد أن جمعته قامت "إيزيس" بعملية مجامعة مع "أوزيريس"، فحملت منه ابنـًا هو الإله "حورس" الذي ثأر لأبيه من عمّه، وبسبب انتصاره على الموت وهب "أوزيريس" الحياة الأبدية والألوهيه على العالم الثاني. هذا ما تقوله الأسطورة، غير أنّ الواقع يبدي خلاف ذلك، على لسان الشاعرة المقيمة في هذا الحاضر الذي يفتقر لمعنى وخصوبة الأسطورة. حيث يغلب علي الحاضر الحزن والغياب والفقدان. غير أنّ الشاعرة تبقى تاج النور الأسطوري والأمل في الرأس، وفي الأفق المصريّ. تقول الشاعرة في "إيزيس": " لا تصدقوا اللونَ الذي غابَ عن فساتيني/ وشرائطِ شعري/ لا تصدقوا الحُليَّ التي غادرت نحري/ والسكونَ الذي خيّم فوق حديقتي/.. أنا إيزيسُ النحيلةُ/ لا ماسةَ في إصبعي/ ولا سوارَ ذهبيًّا في معصمي،/ لكنّ تاجًا من نورٍ فوق رأسي/ عند ثغري ابتسامةٌ/ وفي قلبي/ مَجرَّةٌ بأسرِها". وأيضا، ألم تقل: "الأمهاتُ المنذوراتُ للحَزَنْ/ لَهُنَّ أن يرفعن رؤوسَهن/ للحظةِ فرحٍ واحدةْ / حين تفتحُ أمامهنَّ الساحرةُ سلّتَها،/ لهنَّ/ أن يتحمَّمن بالنورْ/ مرَّةً/ قبل أن يدلفنَ وراءَ الستارْ.".


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف