شاعرية العزلة وعدوانية وعيها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
خافير توميو في "مدينة الحمام"
مازن الراوي من برلين: في صبيحة ما خرج تيودور من منزله. وما أن خطى الخطوة الأولى حتى تأكد لديه بأن المدينة التي يسكنها خالية من الناس تماماً. كان قاطنو المدينة
كانت المدينة الخالية من البشر قد أصبحت مدينة حمام، ذلك أنه اكتشف ثمة عدد كبير من الحمام تجول المدينة وتحدق فيه بنظرات حادة مغناطيسية وتتبعه عن كثب. ربما هي ليست حمامات حقيقية كما تبدوعليها. ربما هي أرواحٌ مسحورة لناس ضائعين. ولكن هل كان ينبغي على تيودور الوحيد في المدينة المهجورة والصامتة أن يخاف الحمام ويفكر بالوقوف أمامها ومقاومتها عوضاً عن أن يستأنس بها ويعثر على وسيلة ما للاتصال بها والتآلف معها؟
في رواية خافير توميو لم يعبر الكاتب عن مثل هذه التوقعات. لم يفسّر أو يطرح أسئلة منطقية ليجيب عليها على نحو مباشر. ترك المؤلف في عرضه للرواية أن يشحن القاريء من خلال عرض هاديء وبارد، لكن جوهري، لكي يصل إلى فهم خاص به مفاده ان كل انسان يلتبس في حالة العزلة. يخاف الوحدة، يمتليء بالشك مما يدور حوله، فيقدم على عمل ما ربما هو عمل ناجم عن الخوف بمعناه الأكثر شمولية. العزلة والوحدة، فقدان الصلة الحقيقية المتفاعلة مع الآخرين هي الموضوعة الأساسية للكاتب الاسباني خافير توميو.
في العام 1979 نشرت صحيفة " الباييز" الاسبانية لآول مرة رواية كاتب لم يكن معروفاً حتى ذلك الوقت. حملت عنوان " المركيز يكتب رسالة لا تقرأ " تحت اسم خافير توميو الذي كان أنذاك يبلغ 47 عاماً من العمر وقد جاء متأخراً إلى الكتابة. ينحدر توميو من مديرية مدينة كويسينا الواقعة إسفل جبل البرينيز، درس في برشلونه وعمل في قسم المحاماة في فرع لشركة عالمية في المدينة.
جذبت الرواية، التي بدأت بمونولج مسترسل في سياق مستمر دون تقطيع إلى فقرات حوالي 130 صفحة، جذبت الاهتمام بمضمونها ولغتها الخاصة الشاعرية. يوجه المركيز، في الرواية، تعليمات مفصلة لخادمه الذي سيحمل الرسالة. وفي سياق الاسترسال يتبين بأن المركيز لم يغادر قصره منذ عشرين عاماً وامتنع عن أي اتصال بالعالم الخارجي. هكذا بعد هذه العزلة الطويلة لا يعرف كيف ستستقبل رسالته، وقد حاول جاهداً أن يكتبها على نحو تصعب قراءتها وفهمها، فيما حاول أيضاً بخصوص ذلك أن لا تكون للكلمات التي شخبط عليها معنى حتى إذا أمكن فك رموزها. ويستطيع القاريء أن يكتشف لدى كتابة الرسالة خوف وتوجس المركيز الذي عزل نفسه فلا يريد التواصل والتفاهم مع مّن ستصل لهم رسالته، بل ربما لا يستطيع ذلك.
خافير توميو هو في الوقت الحاضر أكثر الكتاب المعاصرين الإسبان ترجمة لرواياته إلى اللغات العالمية. وأكثر قراءة. كانت روايته الآولى ترجمت إلى الألمانية في العام 1998 من قبل ايلكا فيبر وصدرت في ميونيخ. فيما صدرت ترجمت روايته " مدينة الحمام في العام 1991 بترجمة بيتر شوار عن دار نشر " واغنباخ". ويعرض الروائي في معظم اعماله موضوعة العزلة، ووعي العزلة. ويعبر عن هذه الفكرة تعبيراً فنياً خاصاً به، ويوصف بأنه أحد الكلاسيكيين المحدثين.
" إن الانسان الوحيد منفصل عن ضجة العالم ويمضي نحو الانسحاب منه، يمتنع عن التواصل معه" هذه الفكرة ( العزلة) ربما هي قدر المجتمعات المعاصرة، تتسم بآليتها الخاصة،أي أن الانسان بقدر ما يُجبر على عزلته يختار العزلة. تدفعه الحياة ذاتها إلى الانعزال. عالم لا معنى له. وفي المقابل ليس بمقدور المرء أن يفهم شبكة العلاقات الاجتماعية ويمتثل للمفاهيم الأخلاقية، يصطدم بجدار القيم ودينامية الحياة التي تتشكل في ذاتها لتؤلف آلية خاصة في جوهرها تطرد كل إنسان خارج دائرة الفعل.
لقد كتب خافير توميو في روايته المبكرة " المركيز يكتب رسالة لا تقرأ " عملاً يبدو في الظاهر أنه عمل شاعري ( بمعنى أنه محاط بالتباس العزلة) ولكنه في ذات الوقت يتسم بفكاهة سوداء. ويعرض الروائي كيف أن شخصاً، مثل المركيز، سجن نفسه قرابة عشرين عاماً في قصره، وقبر روحه كل هذا الزمن، يفكر الآن أن يتصالح مع العالم الخارجي ويجد معه أواصر العلاقة. وفي محاولة المركيز هذه يأتي الفعل صفيقاً مبهماً معززاً باللغز وبالتوجس، غير ملائم على أية حال لشروط ولـ " قانون إقامة العلاقة مع العالم"، كأنما هناك طبقات من سوء الفهم لا يمكن سبرها لمن ارتضى، أو أجبر إلى العزلة.
أما ما يحصل في روايته " مدينة الحمام" فهو بالتأكيد أشبه ما يحصل لطفل يحلم مرة حلماً عادياً. تستيقظ مرة وتجد نفسك فجأة وحيداً في هذا العالم. ليس من أحد في المدينة التي أنت فيها. لكنها المدينة ذاتها التي تركتها أمس عندما وضعت رأسك على الوسادة لتنام.
تأتي كل هذه الأحداث لبطل الرواية تيودور مثلما تحل كارثة طبيعية، فيتمشى هنا وهناك بعض الوقت مفتشاً، حيث يمكن أن يجد معارفه قد انتقلوا، ولكنه لا يجد أحداً البتة.
لا يقدم تيودور على شيء يجهده ويجعله يتذكر. وعندما تنطفيء القوة الكهربائية " يبتاع" لنفسه شموعاً ومياهاً معدنية ومعلبات يعثر عليها في الحوانيت. كما يشتري كحولاً وحليباً مجففاً لكي يتمكن بهذه الحاجيات الاستمرار في الحياة لكن المدينة الخالية إلاّ من جيوش الحمام الأبيض تطرح أمام تيودور مشكلة عويصة. هذه الطيور البيضاء تبدأ بتنغيص حياته وتدفعه إلى القلق والتوتر وذلك من خلال مراقبتها ومتابعتها له باستمرار.
هذه الطيور ليست في الواقع طيور هيتشكوك العدوانية الشرسة التي تهاجم الآخرين، بل هي على العكس حمامات بيضاء وديعة ورقيقة، حنونة في الظاهر. تتجول في المدينة مثل كائنات حية. وهي بالتأكيد ليست الطيور التي تحدد لأن تكون طرفاً في الصراع مع تيودور، وإنما هو نفسه، من خلال عالمه القلق ومنفاه، يقرر أن يدير الصاع معها ويعتبرها عدواً ينبغي مقاومته.
لقد تعلم تيودور في حياته مفردات معرفة حديثة عبر أجهزة الحاسوب. تعلم بواسطتها كيف يبدو سكنة المريخ وكيف يتم اصطياد الأسود، وبأية طريقة مثلى يمكن انقاذ الأميرة من براثن الوحش الخرافي. تعلم تيودور الضغط على الأزرار الباردة للوحة الحاسوب ليدير الصراع وينتصر على الأعداء. عليه الآن أن يحكم ستراتيجية ملائمة في عملية صيد الحمام. ينبغي عليه أن يرسم الطرق الملائمة والناجحة لتدمير أعدائه البيض ليضعها قيد التطبيق.
كم هي مضحكة وحزينة في نفس الوقت تلك المعركة. معركة الفرد المعزول في مدينة خالية الآن إلاّ من الحمام الأبيض الرقيق. ما الذي يدفع تيودور إلى تمثل الأعداء؟ ولمَ بهذه القسوة يزمع إفناء عدو مفترض ؟ ما الصلة بين التقنية الحديثة التي تقدم معارف مختلفة يمكن استخدامها بأوجه عدة، وما تأثيرها في عزلة ناس يمكن أن يتمثلوا عالماً مفترضاً لا يمسك باليد في تعزيز عزلتهم ؟. اسئلة عديدة تثيرها رواية خافير توميو. وتقترب الأسئلة وأجاباتها المختلفة ممن أحسّ بالعزلة أساساً. وهل يمكن للعزلة أن تدفع الفرد إلى العدوانية وإلى ارتكاب أفعال غير محسوبة النتائج؟
يدفع الخوف بطل خافير توميو تيودور إلى العدوانية. وإن كانت عدوانيته في الرواية عدوانية مفترضة. لكن المؤلف، بحزن أكيد وثابت، وبغير رثاءٍ وشفقة يرسم صورة سيكولوجية لحياة انسان كان دوماً ومنذ وقت طويل وحيداً ومعزولاً، لكنه فجأة، وبالتياع، وجد نفسه في وضع استثنائي، عثر على نفسه وحيداً ومعزولاً مقطوع الجذور عبر وعيه الجديد. ويكتب الناقد الألماني كريستيان هوفمان في مقالة طويلة عن خافير توميو وأعماله، محدداً موضوعته الأساسية: "ضربٌ من العزلة ـ يمكن للمرء أن يصف عموماً نصوص الكاتب خافير توميو. الفرد المتحضر الذي يقع وسط مركز عاصفة الضياع ـ هي الموضوعة المركزية في كتابات المؤلف. تبدو تلك الكتابات محزنة إن لم تكن توحي بالكآبة، و ربما لا يغالي المرء عندما يسبغ على كتاباته، فضلاً عن ذلك، روح الدعابة والفكاهة السوداء".