ثقافات

علاقة العمارة بالتحولات السياسية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

في كتاب يرصد مقر الحكم في مصر مكانه وتطور عمارته
د.خالد عزب يكشف علاقة العمارة بالتحولات السياسية

محمد الحمامصي من القاهرة: امتداد لكتابه "الحجر والصولجان.. السياسة والعمارة الإسلامية" والذي صدر هذا العام عن دار الشروق وقدم رؤية للعلاقة بين البينية بين السياسة والعمارة، رؤية جريئة نطلق من إثارة تساؤلات حول العمارة الإسلامية والسلطة بمكوناتها المختلفة، السلطان ورجاله، المجتمع وقواه الفاعلة والخاملة، المبادئ الحاكمة للعلاقة بين الطرفين، تفاعلات متبادلة تعكس روح كل عصر وطبيعته. يواصل الكاتب والمؤرخ د. خالد عزب في كتابه (دار السلطنة في مصر: العمارة والتحولات السياسية) الصادر عن المجلس الأعلي للثقافة هذا الأسبوع الكشف عن فحوي العلاقة ما بين السلطة والعمارة والسياسة. قاصدا بالتحولات انتقال السلطة من جماعة إلي جماعة أو من فرد إلي فرد، وهذا الانتقال يكون له في أغلب الأحوال أثر مباشر علي العمارة، يتضح بصفة خاصة في مقر الحكم. وهذا المقر إما يستمر في ضوء انتقال السلطة في أداء دوره ووظائفه. وإما تغير طبيعة هذه الوظائف تبعا لمراسم السلطة الجديدة وتقاليدها، أو يتغير التركيب الداخلي لهذا المقر تبعا لنمط السلطة الجديدة. أو ينتقل مقر الحكم إلي مكان آخر جديد بعيدا عن المقر القديم الذي يكون في بعض الأحيان محاطا بأنصار السلطة القديمة. وقد يكون المقر الجديد محاولة من السلطة لإثبات وجودها علي الساحة السياسية للبلاد. ويحاول الكتاب استكشاف معطيات متعددة في هذا المجال.
ويمثل هذا الكتاب إضافة مهمة للباحثين فهو يرصد مقر الحكم في مصر، مكانه وتطور عمارته منذ فتح مصر علي يد عمرو بن العاص، الذي أنشأ الفسطاط كمقر لعسكره وعاصمة يحكم منها مصر، إلي أن تغير اسمها الي مدينة مصر لكونها تجمع كل المصريين عند التقاء الوجة البحري بالصعيد، وهو المكان نفسه الذي شيدت فيه منف من قبل لتعبر عن تواصل مصر من الشمال إلي الجنوب عبر نهر النيل، ثم يرصد الكتاب ظهور ضواحي شمال الفسطاط التي اتخذت مقارا للحكم مثل العسكر والقطائع، ويعرج علي الحصن الفاطمي الذي سمي القاهرة، وشيده الفاطميون ليكون حصنا معزولا عن مدينة مصر " الفسطاط".
ثم يدرس تفصيلا قلعة صلاح الدين الايوبي التي شيدها ببراعة بهاء الدين قراقوش، ومقومات هذه القلعة كمقر للحكم من دواوين وأسوار وأبراج وقصور ودار عدل وغيرها من المنشآت التي توحي بوجود مقر سلطاني يليق بدولة عظمي، استمر حتي ظل الحكم العثماني مقرا للحكم في مصر.
هذا الكتاب النفيس بمثابة مقدمة للدراسات التحليلية للعمارة الإسلامية، وإجابة شافية لتساؤلات منها: ماهية العلاقة بين السلطة والسياسة، والعلاقة بين المجتمع المدني والعمارة؟ وكيف تم التحول من النمط المعماري الإسلامي الي النمط المعماري الغربي ؟
يمحص المؤلف وهو باحث وكاتب ذائع الصيت معروف بدراساته المستفيضة في مجال العمائر الاسلامية، التحولات التي طرأت علي مقر الحكم في مصر لأنها تبرز دور السياسة في صياغة العمران خاصة مع المركزية الشديدة للحكم في مصر، تلك المركزية التي نراها في سطوة مقر الحكم لي العاصمة المصرية منذ العصر الايوبي الي عصر الخديوي اسماعيل .
وقد واجه المؤلف خلال فترة اعداده لهذا الكتاب صعوبات عديدة، وفي سعيه نهل من دراسة " أولج جرابار "عن "العمارة والقوة" والتي ركز فيها علي مدي إظهار العمارة الحربية لقوة السلطة الحاكمة، دراسات " ناصر الرباط" كما لجأ الي الوثائق والمصارد والمراجع.
لقد وقف علماء السياسة الشرعية، وهم المعنيون بالدراسات السياسية في العصور الاسلامية عند الماوردي وكتابه "الاحكام السلطانية"، وبقي كتابة لقرون طويلة الاساس المرجعي لتحديد مؤسسات الدولة الاسلامية. ولم يحاول أحد أن يرصد ما طرأ من تطور نتيجة لانتقال السلطة وتغير تركيبتها. ويعد مقر الحكم وما اشتمل عليه من معالم صورة يمكن من خلالها استكمال ما جاء في كتاب الماوردي الذي وقف عند نموذج بغداد.
كان الماوردي الذي عاش في العصر العباسي، منظرا لمقر الحكم في صورته البسيطة والتي نراها في الفسطاط، ثم في صورته الاكثر تركيبا والتي نراها في بغداد. لقد عبر تأسيس الفسطاط عن المشروع الفكري والحضاري للدولة الاسلامية آنذاك، فعمرو بن العاص أراد أن يكون مجتمع الفسطاط منفتحا علي المجتمع المصري لذا لم يشيد سورا للفسطاط، بل جعلها مدينة مفتوحة وشجع الاقباط علي الاقامة بها، وشيدوا كنائس فيها. بينما حملت الدولة الفاطمية مشروعا يقوم علي فرض الخلافة الفاطمية الاسماعيلية في مصر، ولذا كان مقر حكمهم منعزلا عن المصريين، ولم يشرعوا في كسب المجتمع الا في عصر ضعفهم حين شيدوا أضرحة لآل البيت لكسب العاطفة الدينية عند المصريين. وحمل صلاح الدين مشروعا دفاعيا في وجه الهجمة الصليبية؛ لذا بات تشييد قلعة الجبل والأسوار في العاصمة المصرية همة الأول. بينما كانت دولة المماليك دولة تقوم علي القوة العسكرية لأفرادها، لذا بات الاستيلاء علي مقر الحكم آنذاك استيلاء علي حكم مصر وبلاد الشام. وظلت القلعة رمزا للسلطة في العصر العثماني.
ومع مجئ محمد علي بدأت المفاهيم السياسية في التغير، واصبح دور الدولة يتعاظم داخل المجتمع ، حتي صارت حياة الافراد مرهونة بسياسات الدولة، ومع انتقال الحكم الي د. خالد عزب المدينة بعد سنوات من عزلته، أصبحنا أمام نقله سياسية وعمرانية. فالحاكم الذي كان يتحصن خلف الأسوار، أجبرته المدفعية علي مغادرة الحصن. وصار مقر حكمه في داخل المدينة وسط الناس متحصنا بالمدينة والناس. وتحولت المدينة كلها الي مقر للحكم، فبها قصر الحاكم والدواوين أو الوزارات. واستتبع هذا اخضاع المجتمع لسيطرة السلطة من خلال فكرة الدولة التي تنظم كل شئ وتحدد أهدافه طبقا لسياستها، فأصبحت الشوارع منظمة والتعليم منظما، وحتى وقت الناس خاضعا لفكرة النظام الذي يفرض هيمنة الدولة علي كل شئ.
تقلص في ضوء ما سبق دور الولاية الجماعية والولاية الخاصة الي أبعد حد ممكن تصوره لصالح الدولة. فبعدما كانت حركة العمران تخضع لسلطة المجتمع المتمثلة في فقة العمارة، والتي كانت قانون يطبقة الجميع دون الرجوع الي الدولة. فرضت الدولة علي المجتمع قوانين عمرانية ومعمارية وأنشأت جهازا يتولي تنفيذ هذه القوانين ورقابة حركة العمران في المجتمع، هو ديوان الاشغال.
ومن هذا المنطلق يحاول الكتاب رسم صورة متكاملة لطبوغرافية مقر الحكم منذ صورته البسيطة في الفسطاط حتي صورته المركبة في القاهرة الي صورته الأكثر تركيبا ووضوحا في قلعة الجبل. كما يرصد المؤلف أثر التحولات السياسية علي هذا المقر في العصور المختلفة. ومدي تأثر هذا المقر بتركيبه السلطة الحاكمة. وما طرأ من تغير علي مقر الحكم نتيجة لتغير نمط السلطة وفكرها مع أسرة محمد علي.
لذا فقد حدد المؤلف مفهوم التغيير، بأنه الخروج عن النمط المعتاد. اما التطور فهو احداث اضافات تتواءم مع المستجدات. وما حدث في العصور الاسلامية المتلاحقة هو تطور طبيعي وتلقائي نتيجة للخبرة المتراكمة. أما ما حدث في عصر أسرة محمد علي فهو تغيير جذري في نمط الحكم وطبيعته وبالتالي في طبيعة مقر الحكم وتركبيته. ولم يجئ هذا دفعة واحدة ، بل جاء علي مراحل متتالية وصلت أوجها في عصر الخديوي اسماعيل.

ويري د.خالد عزب أن الدراسات المتعلقة بالعمارة في العصور الإسلامية المختلفة ارتبطت برؤي جزئية، تري الأجزاء المتفرقة دون جمعها تحت مظلة واحدة. ومن هنا نبعت فكرة هذا الكتاب لجمع هذه الاجزاء، في محاولة لفهمها وطرح رؤية تحلل أسباب وجود العديد من الأنماط المعمارية.
يشير المؤلف من خلال هذا الكتاب إلي ان ثمة ثلاثة مستويات من العمائر، المستوي الأول: يتعلق بالسلطة، ويتمثل في مقر الحكم أيا كان موقعه من العاصمة أو المدينة. والمستوي الثاني: يتعلق بالخدمات والمرافق داخل المدينة، وهذا المستوي مشترك بين السلطة والمجتمع، ويبرز بصفة خاصة في مؤسسة يمكن أن نعتبرها وسيطة، هي مؤسسة الأوقاف. والمستوي الثالث: عمائر المحكومين، وهي لا تخضع لسيطرة السلطة إذ إن حركة العمران داخل الأحياء تخضع للسيطرة الجماعية لقاطنيها ولحقوق أفراد المجتمع.

ويكشف المؤلف أن المدينة في العصور الاسلامية تشكلت فيها المسئولية عن طريق الولاية او مانعرفه حاليا بالمسئولية، فهناك ولاية عامة وجماعية وخاصة. فالولاية العامة دورها كان يتجسد في أغلب الأحيان في السلطة الحاكمة ونراه بصفة خاصة في دار الإمارة والمسجد الجامع وأسوار المدن. والولاية الجماعية تظهر الهياكل الحضرية الوسيطة واستمرارها كالأحياء السكنية والتنظيمات الحرفية والدروب المشتركة والملكيات الجماعية وغير ذلك. أما دور الولاية الخاصة فيرتبط بالحياة الفردية من بناء المساكن واستعمالها اليومي والتصرف فيها.
ويتعلق موضوع هذا الكتاب بالمستوي الأول؛ إذ أن عمائره ترتبط بالسياسة ارتباطا وثيقا، ونستطيع أن نقول انها عمائر ذات طبيعة سياسية بحتة، وان تداخلت هذه الطبيعة مع عوامل أخري كالعامل الديني في المسجد الجامع أو مساجد الصلوات الخمس، او عامل فقة العمارة أو قانون العمران عند وقوعها في داخل المدن..ولكنها في النهاية منشآت ذات طبيعة سلطوية. وهذا الكتاب يحاول أن يفسر طبيعة العلاقة بين العمارة والسلطة الحاكمة.
يضم هذا الكتاب بين دفتيه ستة فصول؛ يتناول الأول نشأة مقر الحكم في مصر منذ فتح العرب لها. فتعرض لبناء مدينة الفسطاط عاصمة، وبساطة مقر الحكم بها، فهذه المدينة لم تشهد دارا للإمارة الا عندما بني عبد العزيز بن أحمد بن مروان دارا للامارة عرفت بدار الذهب، ثم بناء ضاحية العسكر مقرا لحكم العباسيين يف مصر الي أن بني أحمد بن طلون القطائع مقرا لحكمه، ثم عودة مقر الحكم الي العسكر بعد قضاء العباسيين علي الدولة الطولونية. وتعرض الفصل لاتخاذ الحصون كمقار للحكم منعزلة عن العاصمة، وهو ما نجسد في القاهرة حصن الفاطميين في مصر. تحول هذا الحصن بمرور الوقت ومع سقوط الدولة الفاطمية الي جزء من التكوين الحضري للعاصمة المصرية، كان الحكام قد أدركوا سرعة اندماج الحصون في الحياة الحضرية للمدن؛ لذا ومع الحروب الصليبية أدركوا أهمية اتخاذ القلاع التي شيدت علي الجبال أو علي الهضاب مقار للحكم. وهذا يفسر اتجاه صلاح الدين الايوبي لتشييد قلعة الجبل كمقر للحكم.
فيما خص الفصل الثاني لنشأة القلعة. مرت قلعة الجبل بمرحلتين أساسيتين، الأولي هي مرحلة التأسيس وهي موضوع الفصل، هذه المرحلة بدأت علي يد صلاح الدين وامتدت الي انتقال الكامل بن العادل الي القلعة ليتخذها مقرا لحكمه عام 604 هـ /1207 م. وفي هذه المرحلة باتت القلعة تستكمل مقوماتها باعتبارها مقرا للحكم. وتناول الفصل التغييرات التي طرأت علي القلعة الي عصر الأشرف خليل . و توقف المؤلف عند اتخاذ الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة مقرا لحكمه وبين مدي أهمية قلعة الجبل في تلك الفترة.
جاء الفصل الثالث ليبين المرحلة الثانية التي مرت بها القلعة باعتبارها مقرا. وتتمثل في عصر الناصر محمد بن قلاوون حيث وصلت القلعة في هذه المرحلة الي قمة ازدهارها، واستكملت مقوماتها علي أنها مقر لحكم مصر والبلاد التابعة للسلطنة المملوكية وتتمثل هذه المقومات في المساجد بخاصة المسجد الجامع للقلعة، ودار العدل، القصر الأبلق وقاعة الاعمدة والحوش السلطاني والنطاق الشمالي وما يحتويه من طباق للجند وأسوار ودواوين ودار النيابة، والاسطبل، والميدان.
هذه الدراسة الرأسية صاحبها دراسة أفقية موازية لها للتحولات التي طرأت علي القلعة منذ عصر الناصر محمد الي دخول الفرنسيين مصر، ما طرأ علي القلعة من تقسيم في العصر العثماني نتيجة لطبيعة الحكم في ذلك العصر، وما أحدثه الفرنسيون من تدمير في القلعة.
تناول الفصل الرابع القلعة في عهد محمد علي وخلفاؤه. حيث تدل أعمال محمد علي في القلعة علي استيعابه لتقنيات العصر، ولنا في ذلك ثلاثة اجراءات اتخذها: الأول كان انشاؤه قلعة فوق جبل المقطم اعلي قلعة الجبل. والثاني: إقامة أبواب جديدة للقلعة تسمح بمرور العربات التي بدأت تشيع في مصر منذ دخول الفاطميين. والثالث: تشييده دارا للصناعات الحربية في القلعة منها: سراي الحرم وسراي الجوهرة ودار الضرب وسراي العدل والقصر الأحمر ومسجده، عكس هذا الفصل مدي اهتمام خلفاء محمد علي بالقلعة والاضافات والتجديدات اتي أحدثوها.
عرض الفصل الخامس لانتقال مقر الحكم من القلعة الي القصور وتتبع جذور القصور مقار الحكم في مصر الي عصر محمد علي حيث تنقل بين القلعة وقصري الازبكية وأثر النبي الي أن استقر في قصر شبرا. وفي عهد عباس حلمي الأول تنقل بين القلعة وقصره بالحلمية وقصر العباسية، وتنقل سعيد باشا بين قصوره والقلعة. واستقر مقر الحكم في عهد الخديوي اسماعيل في قصر عابدين الذي شيد علي طراز عصر النهضة الفرنسي المستحدث ليواكب اتجاهه نحو تغريب مصر وتحويلها الي نمط الحكم الغربي.
وقد انطلق المؤلف من الحديث عن بنية العمارة، بتفكيكها في محاولة للفهم، فوجد من خلال هذا التفكيك أن العلاقة بين العمارة والسياسة تقوم علي ثلاثة مستويات كانت هذه المستويات هي محور الفصل السادس بعنوان" العلاقة بين العمارة والسياسة - رؤية تحليلية" . وفي هذا الفصل تم دراسة ثلاثة مستويات من العلاقة بين العمراة والسياسة. المستوي الأول العمارة شاهدا سياسيا، وفي هذا المستوي تكون العمارة سجلا للعديد من الاحداث السياسية التي مرت عليها، أو حدثت في المنشأ المعماري، أو تركت أثرها عليه والمستوي الثاني الرمزية السياسية للعمارة وفي هذا المستوي تجسد العمارة قوة الدولة وتوجهاتها السياسية . ومثل هذا النوع من العمائر شاع في العمارة الاسلامية . تتمثل هذه الرمزية في عدد من التعابير المعمارية، يحمل بعضها مضمونا حضاريا، وبعضها الآخر مضمونا سلطويا سياسيا، ويجمع بينهما بعض العمائر ذات التعابير المتعددة. المستوي الثالث يتمثل في العلاقة الفكرية بين السياسة والعمارة. وهذه العلاقة هي التي تحكم طبيعة العمارة وموضوعاتها وحركيتها وتخطيطها. وهي تنبع من التوجة السياسي للسلطة، هذا التوجه يكون أيديولوجيا، ينعكس علي العمارة في صور متعددة، وهو لا يحدث دفعة واحدة، بل يطل علي العمارة القائمة علي مراحل حتي يكسبها - عند التحول من نمط الي نمط بتغير السلطة- شخصية جديدة، تعرف عند الآثاريين والمعماريين بالطراز المعماري.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف