ثقافات

بين غثيان سارتر ومطرقة نيتشه

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

علي بدر بين غثيان "سارتر" ومطرقة "نيتشه"
رواية: بابا سارتر
الروائي: علي بدر
قراءة سَعْد اليَاسِري

الثقافة الأبويّة:
من أبرز ما أنتجته الثقافة الأبوية - العربية تحديدًا - فكرة المجايلة والأجيال المقدّسة، تلك التي تتراوح قدسيتها بين الرفض الطاعن في القسوة أوالتبجيل الضارب بالخنوع.
ولن أكشف سرًّا لو قلتُ بأن جيل "الستينات " في الأدب العربي عمومًا، وفي العراق بشكل خاص قد فرض نفسه على جدول تلك الأبوّة، فناله ما ناله من تهشيم وتهميش مبرمجين من قبل السبعينيين وبعض الستينيين أنفسهم بعد أن تغيرت أفكارهم أو جلودهم . وترفّه الجيل بعد ذلك - بشكل غير مبرمج - بفكرة المظلومية.. تلك المظلومية التي يمكن اختصارها في انهيار حريات البلد برمّته وليس في شأنه الثقافي وحسب. وقد تمَّ تسويق تلك المظلومية من قبل ذلك الجيل ليمرر أبوّته إلى الآخرين كما يفعل الآباء المقدّسون الذين تحيط برؤوسهم هالة النور، إلى أوصيائهم في الدعوة أو الخدمة. ونتيجة لذلك قام بعض الستينيون بتخليد تلك المرحلة، وكتابة بعض الكتب القائمة على نفَس " حكواتي " وبعض الذكريات التي يسردها أبطال من الفترة اللامعة، فتخرج إلينا توليفات سامي مهدي وفاضل العزاوي وسواهم في هذا المجال.
وفي الواقع ؛ العملية ناجعة وقد أتت أكلها، حتّى أنني في حديث مع أحد الأخوة الشعراء - المغمورين مثلي - ذات يوم، وقد طرأ على حوارنا اسم شاعر عراقي، كنتُ قد قلّلت من أهميته شِعريًا، فانتفض صاحبي المفعم بمشاعر الولاء، وقال:
(يمعوّد هذا ستيني، شقاعد تخربط إنته؟!).

عن بابا سارتر:
عبر الناقد السينمائي العراقي ؛ الصديق " وخنا دانيال "، استعرت نسخة من رواية "بابا سارتر " للروائي العراقي " علي بدر "، في طبعتها الثانية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، والواقعة في مئتين وتسع وثلاثين (239) صفحة من القطع المتوسط. ولم أكن قد قرأت شيئًا للروائي، سوى بعض المقالات العابرة التي يرد عبر سياقها اسمه، وهذا بسبب تقصيري في متابعة المشهد الأدبي العراقي المعاصر كما ينبغي.
العنوان "السارتري " والفحوى "النيتشوية ":
الوجودية ؛ لم تبرز عبر العدم أو الفراغ ، إنما هي نتيجة لفسلفات ضاربة في القدم تصل إلى سقراط والرواقيين بل وحتى بعض الأفكار المسيحية كما رأى القس جابرييل مارسيل. وما وصل إليه سارتر كان نتيجة تزاوج الوجودية الإلحادية بالوجودية الإيمانية، ومحصّلة لتراكمات وصراعات الديكارتية والباسكالية ثم سورين كيركجورد الذي يعتبره البعض الأب المؤسس للمذهب خاصّة عبر " الوجود المطلق " الذي خصص لنقد هيغل والمثالية. فيما أن النيتشوية أوسع مدىً وتأثيرًا، ومثلت الإلهام لأكثر من خمس مدارس فلسفية وفكرية من ضمنها الوجودية.
وعليه أرى بأنه ليس للسارترية حظ أكثر من العنوان وكثرة ورود الاسم في سياق النص مترافقًا بـ " الغثيان " في إشارة إلى مسرحية سارتر. إنما اعتمد " علي بدر " على مطرقة نيتشه بشكل كامل في تهشيم الديناصور الستيني في العراق بشكل ساخر ولا يخلو من قسوة في بعض الاحيان، ولكنني أعتقد بأنّها قسوة مبررة وإن كنتُ ضد التعميم. إذ يقول في الصفحة 44:
(كانت ثقافته شفاهية، كانت ثقافة تستند إلى الكلام لا إلى الكتابة، كما كانت ثقافة أغلب مثقفي جيله وهي: الجلوس في المقاهي والتحدّث بصورة لا نهائية على طق الدومينو وشجير النارجيلة صباحًا، الرقود في السينمات متراخينعلى الكراسي الخلفية عصرًا، وفي المساء السكر والعربدة في الملاهي والبارات والأماكن العامة. الكتب لا تُقرأ منها إلا عناوينها، ولا يعرف أحد منها إلاّ العروض المبسترة في الصحف والمجلات الأدبية، ومع ذلك ممالك تبنى في الكلام، وممالك تهدّ، عروض يهزها الكلام ويخلخلها، ومدن يصنعها الكلام ويؤسسها، وليس هنالك في واقع الأمر من كان بإمكانه أن ينفّذ ما يقول أومن كان بإمكانه أن يصلح واقعًا، او حتى يفهم واقعًا).
وفي مكان آخر، في الصفحة 215: (إن الغثيان والشعور بعدمية الحياة - لا بعدمها - (لم يفرّق المثقفون العراقيون آنذاك بين العدمية والعدم) هو سبب انتحار الفيلسوف.)

هل انقسموا فعلاً إلى فريقين؟
يحاول " علي بدر " أن يقنعنا عبر شخوصه في رواية " بابا سارتر " ؛ أنّ المجتمع العراقي المثقّف قد انقسم حينذاك إلى فريقين هما " الوجودية " و" الشيوعية الماركسيّة " بكافّة تفرعاتها السوفيتية وقتذاك: اللينينيّة والتروتسكيّة.
ومن وجهة نظري أن الوجودية في العراق كانت ضامرة ؛ بل وهاجعة في ظل الماركسية، وبقيت الماركسية هي الصوت الاعلى في الثقافة العراقية حتى أبيدت بالضربة القاضية عام 1976، أو ما سمي بانهيار الجبهة.. إلخ ، حيث تم تكريس ثقافة الخاكي والعسكر والشوفينية البغيضة. وأكاد أجزم بأنّ الوجوديين العراقيين في غالبهم الأعم كانوا ينتمون إلى تياري الماركسية والقومية بفرعيها البعثي والناصري. لذا ليس من الدقة في شيء تمرير هذه المسألة عبر الرواية خاصّة وأننا - كعراقيين - نعلم تمامًا بأنّ السياسي والديني يطغى على الفكري بمراحل. وليس من الدقة - أيضًا - أن يحصر الراوي اتجاهات شخصياته في هذين الفكرين لا غير، إذ لم يأتِ على ذكر القومية - إلاّ بشكل عابر - والبعث والناصرية والإسلامية، فكل تلك الاتجاهات كانت موجودة على الأرض بل وبعضها يحكم البلد ويؤدلج أفكاره. ولكنني أعزو سبب هذا الإهمال - المتعمّد - إلى وقت كتابة الرواية، حيث كتبها " علي بدر " في ظل النظام السابق وتحديدًا في 2001، ولم يكن لديه أكثر من هذا المتّسع. ولكنني أثمن عاليًا انتباهه المبكّر، حين أشار بذكاء في نهاية الرواية وعبر مشهد الزي الإسلامي ؛ إلى القادم للعراق والمنطقة ربّما بعد الحقبة " القومجية "، حيث قال في الصفحة 239:
(كان يسير أمامي رجل يعتمر عمامة بيضاء، ويمسك في يده مسبحة سوداء طويلة، وتسير وراءه امرأة وقد تحوّلت إلى قطعة سوداء من الأعلى إلى الأسفل، الفوطة السوداء والعباءة على الرأس، الحجاب الأسود على الوجه والقفازات السوداء كانت تلفّ يديها، صرخ شخص آخر عبر الشارع:
" يا شيخ جمال... يا شيخ جمال "
لا أدري لماذا فكرت لحظتها بجمال الدين الأفغاني، فكرت بإسماعيل حدوب وقد تأثّر بجمال الدين الأفغاني ، فارتدى عمامة بيضاء، ومسك بيده مسبحة، وكانت " نونو" وراءه ؛ بالحجاب الأسود الذي على وجهها ويديها)على العموم ؛ بعيدًا عن مأخذي حول تقسيم الثقافة العراقية إلى هذين الفكرين دون غيرهما. أودّ ان أشير إلى براعة " علي بدر " في استعراض تأريخ الوجودية عربيًا / عراقيًا، من خلال تدرجه في سرد المعلومات حول سهيل إدريس ورواية " الحي اللاتيني " وأيضًا عن ترجمات أميل شويري ومنقولات عبد الرحمن بدوي عبر مجلة " الكاتب ". وهذا ما نستطيع أن نلمسه بشكل واضح في الصفحات 144، 145، 146.

لا طائفية في الحارة العراقية:

يخيّل للمرء أنّ " علي بدر " بذل جهدًا قاسيًا في محاولته للإمساك بزمام الطوائف العراقية دون عدوان على أحد. وقد كان ناجحًا وبشكل لا يخلومن الفطنة.. حيث أننا نجد:
المسلم (مثقف / عاهرة / نشّال / بائع صور خلاعية / خبيث / طيّب)
المسيحي (مثقف / عاهرة / شره / طيّب / صاحب خمّارة)
اليهودي (ثري / صاحب فكر / قذر / فقير / خائن / بخيل)

وهكذا من خلال الشخصيات التي تنتمي للأديان والطوائف التي يتكون منها المجتمع العراقي ؛ لا يتعدى دور " علي بدر " أكثر من دور المراقب للحارة العراقية المسكونة بالقصص والحب والخرافات والجشع والأبيض أيضًا. ولم يفت عليه أن يمنح لكل انتماء بعديْن أو أكثر، دون أن يتعاطف معها.


الرواية معنية بالوحدة الوطنية:

نعم ؛ ولكن على طريقة فيلسوف الصدرية " عبد الرحمن "، يقوم " علي بدر " بدس مشهد وجودي حقيقي، أعتبره من أهم مفاصل الرواية، حيث يقول في الصفحة 53: (من قال أن الوجودية لا تعنى بالسياسة، ولا بالوحدة الوطنية، وإلاّ فما معنى الالتزام السارتري؟
بعد صمت معجز، بعد صمت ملائكي ، أمر عبد الرحمن " البوي "، أن ينادي على الراقصة " دمع العين "، أن ينادي على " وزّة " ، وعلى " وريزان " الكردية بعد تختها الشرقي الراقص، وعلى " لميعة / منيبة / سنية "، ثم أعلن فيلسوف الصدرية تأسيس الوجودية الوطنية، التي تلم الشمل الوطني بإذن سارتر، فانقلب الملهى إلى ساحة رقص وساحة مصارعة..)

في هذا المشهد يتحدث " علي بدر " عن الوجوديات الحقيقيات، اللواتي أطلق عليهن " الراقصات المسكينات "، حيث كن ينظرن إلى " عبد الرحمن " و" إسماعيل حدوب " بأفواه فاغرة من جراء السيل الكلامي الفلسفي المتلاحق..!!


المكان بوصفه الهاجس لعلي بدر:

من يعرف بغداد حقّ المعرفة، سيعرف تمامًا بأنّه يمسك بخارطة شوارع بغدادية وليس براوية، لقد نجح الراوي وبشكل متقن في توظيف الأماكن، بعد أن أسبغ عليها اللمحة التراثية نظرًا لتأريخ أحداث الرواية، فكان يتنقل بنا بشكل بارع، وأعتقد بأنّ أكثر أجزاء البناء السردي تماسكًا في تلك الرواية هو العامل المكاني الذي يتعدى المدينة نحو المحافظات، ويتعدى الدولة إلى دول أخرى كفرنسا وعاصمتها باريس تحديدًا. ناهيك عن الوصف الداخلي للأمكنة والبيوت والغرف والمكاتب والخانات والخمّارات وحتى بيوت الدعارة.


اللغة على اعتبارها أمّ العمل:

لغة " علي بدر " لغة رصينة ومتماسكة، وساخرة بشكل يجبر المتلقي على التفاعل، ولكنني أودّ الإشارة - أو التذكير - إلى أنّ ميّزة الراوي الأولى تتبلور في مفرداته اللا متناهية، وقد أساء " علي بدر " في بعض أركان الرواية إلى اللغة السردية، حين كرر كلمات مثل " مبتذل، عجيزة، الربِل " ولأكثر من مرة في الصفحة الواحدة بعض الأحيان.
وأيضًا ؛ مع تقديري لكل التجارب التي تحاول المزاوجة بين الدارج والفصيح، فأنا مع أن تكون الكلمة الدارجة أو العامية بين علامتي تنصيص دائمًا وهامش معنى. وهذا ما لم يلتزم به الراوي، فأنا لا أظن بأن القارئ غير العراقي سيفهم - دون هامش يحيله لمعرفة المعنى - " صالنصة " وهي انكليزية مهجّنة وتعني في العراق " انبوب عادم السيارة "، أو" زمال " وتعني " حمار " أو" كلّجية " وتعني" بيت دعارة ".

ما تريد الرواية قوله:
تجتهد الرواية عبر مشاهدها المزدحمة ؛ في قول حقيقة واحدة، وهي أن الوجودية في العراق أو الثقافة برمّتها هي ثقافة المقاهي، وأنّ فيلسوف الوجودية العراقي " عبد الرحمن / فيلسوف الصدرية " نسبة إلى منطقة الصدرية في بغداد، الذي تم تصويره كرمز لجيل بأكمله، تبنّى الفكرة عبر مرحلتين من الغثيان السارتري، الأولى حين وجد أباه يضاجع أمّه في غرفة نومهما إذ كان يتلصص عليهما، والثانية حين تعرّف إلى " سعدون " السائس وبدأت مغامراته مع " رجينا " الخادمة، وأن ثقافته الوجودية مستقاة بالأصل من دفتر الصور العائلية للفيلسوف الفرنسي " سارتر " والذي بدا أنّه يشبهه تمامًا باستنثاء العين العوراء التي لم يمتلكها " عبد الرحمن "، وهذه ميزة جعلت لإحدى شخصيات الرواية " جاسب الأعور " ثقلاً ما.
يذهب " عبد الرحمن " إلى باريس لدراسة الفلسفة، فيعود فاشلاً، وقد تزوج من خادمة فرنسية " جرمين " تم تسويقها على أنها ابنة خالة سارتر شخصيًا. يعود بها للعراق ويقضي وقته متسكعًا في البارات مع تابعه " اسماعيل حدوب " الذي سيضاجع " جرمين " لاحقًا، وتبرز خلال الرواية أصوات أخرى ولكنني أجد بأن الرواية ترتكز على " عبد الرحمن " و" إسماعيل ".. أما بقية الأصوات فقد كانت مكياجًا لتجميل الأحداث، ولن أنسى أن الاعتماد على صوت الراوي في السرد أعطى مساحة حرية معقولة لنموالأحداث دون تعاطف مع أحد كما ذكرنا سابقًا.
والرواية في النهاية ؛ تريد أن تقول بأننا قوم مستهلكون للأفكار، ولا ثقافة خاصة لدينا، حيث أننا بعد أن استهلكنا موجة الفلسفات الفكرية والسياسية من وجودية إلى ماركسية إلى قومية، يجب البحث عن فلسفة جديدة تتلائم مع المجتمع، وكان أن اقترح " إسماعيل حدوب " أن تكون الموجة القادمة هي " البنيوية " متأثرًا بالفرنسي ميشيل فوكو.. وليطلق عليه فيما بعد " بنيويّ الوزيرية " نسبة إلى مكان الاجتماع في احدى مناطق بغداد..!!
الرواية تسخر من القضايا الثقافية الكبرى، وتهمّشها بشكل ساخر، وقد راق لي هذا الأسلوب - للأمانة أقولها - حيث أنني أرى بأنّ الاحتفاء بالديناصورات الثقافية على حساب الأعمال أمسى أمرًا مملاً للغاية.
ختامًا ؛ شكرًا علي بدر.


السويد
حزيران / 2007

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف