ثقافات

رينيه شار هذا العملاق الآخر!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عبد الله كرمون من باريس: في ملحق خاص من مجلة تيليراما، نجد رينيه شار، وكأنه ملك، حسب شهادة برنار شمباز، محتفى به على طول المجلة في ذكرى ميلاده المئوية، من خلال مقالات كثيرة كتبها كتاب وشعراء وفنانون لهم علاقة قرابة فنية أو معرفية بالشاعر أو فقط بأعماله، إضافة إلى عدد من صور الشاعر خلال فترات متباعدة من حياته مع أصدقائه ومنهم السرياليون بوجه خاص، وكذا بعض اللوحات التي كانت لها علاقة بالشاعر وبمجموعاته، إلى غير ذلك من بعض نسخ مسودات رسائله.
ما يزال رينيه شار إذن حيا، إذ رغم ذهابه نحو القصي، فهو خالد في قلوب أحبته وفي كراس الشعر الحديث. أليس هو من قال، مثلما ذكّر بذلك ميشال غازيي، "على الشاعر أن يخلف أثر عبوره، ليست الدلائل، بل العلامات وحدها تثير أحلامنا".
شار هذا، تعرف منذ البدء على كبار السرياليين، أندريه بروتون وبول إليوار، وقد كتب بمعيتهما سنة 1929 "خففوا السير: أشغال"، لأن سياراتهم وقفت يوما على قارعة طريق برزت فيه علامة كانت تحمل تلك الإشارة. مذ ذاك تعلم أبجدية الثورة في كنف هؤلاء ورعى نوعا من المقاومة الفكرية قبل أن ينخرط في المقاومة المسلحة بعد ذلك ضد الألمان. هذه المرحلة من حياته التي قضاها كقائد، مكافحا من أجل تحرير وطنه، لم ينشر خلالها ولو سطرا مثله مثل آخرين أخذوا على أنفسهم ذلك العهد، حتى يتحرر وطنهم. كتب إلى زوجته الأولى من الجبهة ما يلي: "أعرف أنني سوف سلم حيا من أجل المابعد. لقد حملت في ذراعي أطفالا ونساء مضرجة بالدماء، إذ من جراء قنابل الطائرات يفر من فزع من كان عليهم أن ينقذوهم. غير أنني لم أر سوى الجبناء".
مع بروتون لازم عنفوان رفض وتحد خاصين للمجتمع، أراد أن يكون حرا ، كما أورد لورون غريلسامير، إذ "حلف ألا تكون له زوجة بالبات وحنث مرتين: الأولى في بدايات حياته والثانية في آخرها، لما تزوج بجورجييت غولدستاين سنة 1932 وبماري كلود سان سين سنة 1987". كان يسعى أن يتفرغ لمغامرة الشعر إذ أنه "بالنسبة إليه، فالشاعر عارٍ، متحرر من كل ارتباط، حرٌّ أمام الشعر مثل راهب كاثوليكي يمتثل معزولا أمام المسيح. فليس للشاعر أبناء، فالشاعر ليس حرا في وقته، يلزمه أن يعكف كلية وبشكل أساسي على فنه".
لقد شارك شار بكل حيويته المعهودة، مع رفاقه السرياليين في نشاطاتهم بل في نضالاتهم، حتى العنيفة منها، سواء ضد البار المتواجد شارع إدغار كينيه والذي اتخذ له اسم مالدورور، ما اعتبروه إساءة كبرى لذكرى لوتريامون، حسب ما جاء في مقالة بيير لوباب، ذلك أنهم هاجموا ذلك البار وجرح ثمة شار بضربة سكين. أما المواجهة العارمة فقد حدثت مع جماعات من اليمين المتطرف يوم عُرض فيلم دالي وبونييل "الزمن الذهبي". إضافة إلى مشاركته الواسعة في استنكار المعرض الكولونيالي أو لحظة مساندته للثورة الإسبانية التي طالبت بالجمهورية سنة 1931.
كان بذلك حاضرا بحدة في خضم العثرات التي عاثت بالحركة السريالية، جراء تضبب مفهوم الثورة التي أرادها أصحابه، إذ بانت في الأفق أشكال أخرى لاحتواء تغيير مجتمعي ما، من قبيل انضواء سرياليين تحت راية الحزب الشيوعي الفرنسي وما رافق ذلك من إشكالات متعلقة بخيانة أراغون للحركة لما شارك في الإتحاد السوفياتي باسمها دون أن يحصل على اتفاق رفاقه الآخرين. صحيح أن مسألة الانخراط في الحزب الشيوعي شتتت نوعا حركة السرياليين، فالجميع يعرف قصيدة أراغون التي امتدح فيها بوليس الحزب السوفياتي. إليوار على العكس دافع عن أراغون بقوله عنه أنه صديقه الذي يحب، ما يستدعي بالتالي ضرورة دفاعه عنه. أما رينيه شار بالرغم من صداقته لإليوار فإنه كان على رأي مخالف تماما. اعتقد أن الجميع يدرك كل ما حدث لتسرب العديد من السرياليين جهة الحزب الشيوعي و ما استدعى ذلك من انقسامات وخلافات وخصومات في ذلك الشأن.
من ضمن الذين كانوا يزورون شاعرنا في منفاه القروي والاختياري بلاسورغ، إضافة إلى إليوار وتزارا، كان ألبير كامي أيضا صديقا حميما له. كانت علاقتهما جد حيوية ومتينة، إذ كانا يتبادلان الكتب والرسائل وغير ذلك من ملاحظات وتشجيعات حول كتابتهما هما الاثنان. كان باسكال بون أفو من تناول علاقة هذين الكبيرين، والذي جعل منهما رفيقي كتابة والتزام مهمين طيلة صحبتهما.
معروف عن شار أيضا ولعه بالثقافة اليونانية وحبه لفلاسفتهم بالخصوص، أمثال هيراقليطس، أب المادية الهام أنذاك، في نظريته الكبرى عن الحركية، مثلما يعلم الجميع، أليس هو من قال، مثلما أورد باسكال شارفي: "هذا العالم، نفس عالم الآخرين، لم يخلقه أي إله ولا أي رجل، ولكنه كان دوما وظل وما يزال نارا حية، تشتعل بمقدار وتنطفئ بمقدار".
رينيه شار إذن عملاق متميز، يبدو أكثر من غيره واضحا باديا حتى في الصور التي التقطت غداةَ احتفالٍ به لدى عودته من الجبهة. لم ينس قط أبدا رفيقه الشاعر الشاب الذي أجهز عليه الألمان روجيه برنار والذي أحبه كثيرا مثلما أشار إليه جيروم بريور، الذي أنجز نفسه فيلما عن فترة المقاومة لدى شار وعرض خلال ربيع الشعر الماضي بمسرح الأوديون بباريس.
ندرك جيدا أن شار ورفاقه مثل ألبير كامي قد شاءوا أن يؤسسوا حزبا عماليا ما بعد نهاية الحرب غير أن تلك المحاولة قد باءت بالفشل. صحيح أن شار، حسب شار فويين، قد اختلف مع الشيوعيين مثلما لم يكن قط على وفاق مع ديغول، هذا الذي لم يشر قط في يومياته ولو مرة إلى "غرف الغاز"! لذلك لم يعد هناك فيما بعد سوى هؤلاء الشيوعيون وهذا الديغول ضدا على أسى الشاعر.
"العملاق شار هو الذي يحمي، يساعد، يرافق، ولكنه ذلك الذي يحدث قطائع ويرفض ويشاكس" كما كتب مرة أخرى ميشال غازيي. غير أن دانيال أبادي نفسه شهد في آخر مقالته على ما كتب شار نفسه: "نحن موزعون بين جشع المعرفة ويأس أن نعرف".
لكنه أشار في آخر المطاف، كما لم يفت كرستين فيرنيو أن تدل على ما قال بأن شعره شعبي وأنه يشق طريقه لوحده".
في مقالة جان بيير سيمنون، ذكرٌ لبعض أسماء تدور في فلكِ معنى قصيدة رينيه شار أمثال إيف بونفوا، فيليب جاكوتييه، جاك ديبان، ولورون غاسبار وغيرهم. لا يتعلق إذن بانحدار منه إذ ليس لشار ورثة فعليين، ولكن شعره قد أغنى تجارب هؤلاء جميعا.
"الكتابة هي تنفس الغريق" كما كتب ذات يوم لإليوار دون أن يخطئ. شار الغول الذي يوجد في كل مكان مثلما خط لولكيزيو. إضافة إلى شهادات آخرين، يظل رينيه شار بقصائده الجميلة شاعرا عملاقا بامتياز!




التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف