ظلمات تطارد المثقف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
فهد بن سليمان الشقيران: في كتابه "محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا" يشخّص الفيلسوف الفرنسي "بول ريكور"-بشكل خاطف-معاناة المثقف في دول العالم النامي حيث يراه "يعاني العيش في أكثر من عصر في لحظةٍ واحدة" فهو في فكره وبحثه يغرق في تتبع أحدث ما أنتجه العقل البشري في هذا القرن، وفي جسده وظرفه المكاني يعيش في القرن الثامن-حسب ريكور- فهو في حالةٍ من اللا انسجام بين المكان بمحتوياته الثقافية، وبين الفكر المتطوّر الذي يتابعه ويخضعه لبحوثه ويستفيد منه في كشوفاته العلمية والبحثية. وهي معاناة تصبغ المثقف العربي دون غيره من المختصين كالأطباء والكيميائيين لأن الثقافة بطبيعتها تتسم بأنها "الموقف النقدي" على عكس التخصصات الأخرى التي تنشغل بالعلوم والأبحاث باعتبار نتائجها، ذلك أن المثقف ينخرط في تقييم الموقف الوجودي ورصد العلاقات الموروثة المؤثرة على سير حياة الفرد ونقدها ولفت الأنظار إليها.
يشرح محمد الماغوط مسيرة المثقف العربي حينما يقول: (إنني مثل السجين الذي ظلّ يحفر عشرين عاماً ثم اكتشف أن النفق الذي حفره يقوده إلى زنزانة أخرى). هذا جانب جزئي من المشكلة التي تعصف بالمناخ الذي يحيط بالكاتب والمثقف حينما يفحص واقعه، فهو في مسيرته يبدأ نضالياً يعارك ويناكف، ومن ثمّ يبدأ في رسم صورة "تراجعات" يكسب بعدها مواقع مخملية تمكّنه من العيش بثراء بقية حياته، هذا لدى البعض المناضل، أما المثقف المرتبط بالكشوفات العلمية، والمحتكّ بالفلسفة بوصفها "فهماً للواقع في مواجهة للذات داخل سياق التجربة" (هيدغر) فهو يمرّ بمراحل من الأسئلة والتطورات وكل حقبة تركل الأخرى حتى يصل إلى مستويات عالية من فهم العالم وإدراكه، وتحميض صورة متجددة عن النفق الذي يمرّ به العالم النامي.
بناءً على نتائج بعض المناضلين الذين يصمّون آذاننا بالتغيير وضرورته، ثم فجأة ينقلبون إلى السكون والهدوء تدلّ على أن "الثقافة" تستعمل أحياناً لأغراض شخصية، لذا لا أبالغ إن قلت "أن بعض الذين يطالبون بالإصلاحات إنما يطالبون بحصصهم من الفساد"! ذلك هو الغور الذي يسبح فيه بعض اللاعبين الذين يستغلّون "الثقافة" لتمرير غرائزهم وتطريبها، وهذا يكون مع بعض المناضلين الذي شهروا بزعقاتهم العالية ومارسوا الخداع والكتابات السلطانية طويلاً، وهو ما يفسّر تحوّل بعض المطبوعات الصحافية إلى "ضمانات اجتماعية" لتتحوّل بعض الزوايا إلى "طوبات" كبيرة تسدّ أفواه تلك الكائنات الجائعة التي تتحوّل وتروّج للتراجعات المفاجئة من الماركسية إلى الرأسمالية بغمضة عين.
تلك هي الفوضى العارمة التي تلفّ الصخب الفكري المستغلّ ببشاعة لصالح ذوات جائعة تعلّمت بعض الحروف الهجائية وأصبحت تلفّ كل صباح عجينة فاسدة تسمى مقالةً، أما من يتحوّل (من وإلى) من بعض المثقفين العرب فحدّث ولا حرج، فبعضهم كان -ولا يزال سراً- يصفنا بالبدو العراة، ويهجو بعين حاسدة "بلدان النفط" وحينما وجد متكأً في بعض صحفنا نام قرير العين، كأن الأمة التي كان يدافع عنها لم تكن سوى "ذاته" كأن القومية التي زعم أن لها في النفط مكتسباً لم تكن سوى "محفظته" التي علاها الغبار قحطاً وجوعاً. ذلك جزء يسير من الدسّ الفاسد الذي يدار سراً على أنه "ثقافة" وذلك جزء من لعب بعض المهرّجين الذين يخطئون في "القناعة" و "التراجع عن القناعة" وهي تحتاج إلى رصد على مستوى من الدقّة.
لم يعد المثقف والكاتب بمنأى عن "الاضطراب" الذي يعيشه واقعه، كما لم يعد بمنأى عن الصخب الذي يدور حوله كما أن الإحباط الذي يلفّ العالم النامي بمجمله أصبح يعيق الرؤية وأصبح الكاتب لا ينفكّ عن تعاطي العبارات المحبطة وضخّ المناخ اليائس رغماً عنه، ذلك أن المثقف هنا-كما ذكر ريكور- يعاني من ذلك التناقض الذي يعيشه، كما يعاني من إرادة يراد لها أن تنتزع، فهو وسط غوغاء يرمونه حيناً بالارتزاق كلما اتفق مع الحكومة، ويرمونه بالكفر كلما اختلف معهم، ويرمونه بالصدق كلما علت نبرته وحدته وصرخ قلمه وهياجه، ويرمونه بالإحباط والتشاؤم كلما كان دقيقاً في عرض المشكلة ومباشراً في تكييف الفساد النخر.
إنها ظلمات متعددة تطارده، فهو في عالم مليء باللوم، وفي وجود مشبع بالآلام، فهو-بحسب الدكتور أركون- يحارب على "جبهات متعددة" كما أن النقد الموضوعي الذي يمكن أن يمنح له لم يتمّ لأن المثقف العربي منغلق على ذاته ومقدّس-فوق اللازم- والأوساط المغلقة تطرد نقّادها. ليست المسألة أن نوظّف الانتقادات في معارك شخصية وإنما في وعي الاضطراب والإرباك الذي يلفّ العالم العربي حتى على المستوى الثقافي، وها أنذا أتعرّض له بعد أن شبعت من انتقاد "الظاهرة النجومية الفنية" و"ظاهرة الزعامات السياسية".