ثقافات

موسم الهجرة إلى الشمال

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

قبل النظر في مغاليق هذه الرواية المرمّزة، قد يكون من المفيد، أن نضع نُصْب أعيننا حقيقتيْن : الأولى هي أنّ الطيّب صالح، شأنه شأن راويته في" موسم الهجرة إلى الشمال"، وشأن مصطفى سعيد، البطل الثاني للرواية، درس في نشأته الأولى اللغة الإنكليزية، على يد أساتذة إنكليز كأساسٍ ثقافي قبل أن يطّلع على الأدب العربي. لهذه الحقيقة تداعيات مهمّة كما سنرى.
الطيب صالح الحقيقة الثانية، هي أنّ الرواية وإن تذرّعت الأجواء السودانية المحلية، إلاّ أنها مشحونة بالثقافة الأوربية، ولا سيّما المسرحيّات الشيكسبيرية، وكأنّ كاتبها يحلّل أدواء البيئة المحلية في مختبر علمي مجلوب. ( كان رجال القرية، يسمّون مصطفى سعيد: الإنكليزي الأسود).
تعلّم الطيب صالح في نشأته الأولى، القراءة التحليلية، تشخيصاً وتمحيصاً، وقد آنعكس هذا في بناء شخوصه، وفي محاولة فهم تصرفاتهم فهماً سايكولوجيّاً. على هذا فإنّه يبذر في البداية، بذرة صغيرة، ثمّ يتابعها مرحلة مرحلة ، مختبريّاً. إنّه لا يعطيك رأياً شاملاً واحداً بمصطفى سعيد مثلاً، ولكنّه يجمّعه لَبِنةً لَبِنة ومن وجهات نظر مختلفة.
على عكس ذلك ينشأ الطفل العربي، لأن التعليم في مدارسنا معنيّ بالحشو والآستظهار. معنيّ بالحصاد، أكثر مما هو معنيّ بالبذار.
على أية حال، ليست هذه الملاحظات، دراسة مكرّسة للرواية، بقدر ما هي تتبّع لأبطال بعض الروايات الآغترابية، وكيف تكيّفوا للعيش بأوروبا، وكيف تفاعلوا مع بيئاتهم الأصلية.
يختلف راوية موسم الهجرة للشمال، وخاصّة مصطفى سعيد، عن كلّ الأبطال الآخرين، في الروايات الآغترابية، في أنّه كان يتقن اللغة الإنكليزية، وآدابها، حتى قبل ذهابه إلى لندن.
َصَفَهُ موظّفٌ متقاعد مرّة :"كان أنبغ تلميذ في أيّامنا... معجزة في ذلك الوقت، كان أشهر طالب في كلية غردون... نابغة في كلّ شئ، لا يوجد شئ يستعصي على ذهنه العجيب. كان المدرسون يكلموننا بلهجة ويكلمونه بلهجة، وخصوصاً مدرسو اللغة الإنكليزية، كانوا كأنما يلقون الدرس له وحده دون بقية التلاميذ...نحن كنّا ننطق الكلمات الإنكليزية كأنها كلمات عربية. لا نستطيع أن نسكّن حرفيْن متتالييْن. أما مصطفى سعيد فقد كان يعوج فمه، ويمطّ شفتيه، وتخرج الكلمات من فمه كما تخرج من أفواه أهلها..".
لنتوقفْ قليلاً، عند أشهرِ مشهدٍ مأساويّ في مسرحية عطيل، ألا وهو مشهد المنديل وقتْل دزدمونه، وكيف تفاعل معه الطيّب.
يظهر آسم عطيل في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، ربّما لأوّل مرّة، حين يتعرّف مصطفى سعيد، على فتاة آسمها : إيزابيلا سيمور، و "نوعها كثير بأوروبا، نساء لا يعرفن صلاح نيازي الخوف، يقبلْنَ على الحياة بمرح وحبّ آستطلاع. وأنا صحراء الظمأ، متاهة الرغائب الجنونية...وجاءت لحظة أحسست فيها أنني آنقلبتُ في نظرها مخلوقاً بدائياً عارياً، يمسك بيده رمحاً، وبالأخرى نشّاباً يصيد الفيلة والأسود في الأدغال. هذا حسن. لقد تحوّل حبّ الآستطلاع إلى مرح، وتحوّل المرح إلى عطف، وحين أحرّك البركة الساكنة في الأعماق سيستحيل العطف إلى رغبة أعزف على أوتارها المشدودة، كما يحلو لي. وسألتني :"ما جنسك؟ هل أنت أفريقي أم آسيوي؟ قلتُ لها: أنا مثل عطيل. عربي أفريقي".
هذه بالضبط الطريقة المختبرية ، وكأن المراحل مواد كيمياوية يولّد بعضها بعضاً. الصورة البدائية العارية للصياد، ولّدت حبّ الاستطلاع، الذي ولّد بدوره، المرح. المرح ولّد العطف. النتيجة جاءت كما أرادها مصطفى سعيد، لأنّه إنْ هو حرّك الآن "البركة الساكنة في الأعماق سيستحيل العطف إلى رغبة أعزف على أوتارها المشدودة، كما يحلو لي".
لا شكّ، إن البناء هنا ليس آعتباطاً يتولد بالصدفة، أي ليس أشجاراً نامية في مكانٍ ما للا سبب، وإنما هي أشجار مستنبتة ومُمَكْننة إنْ صحّ التعبير.
ثمّ هل التعبير :"أوتارها المشدودة " صيغة عربية متوارثة؟ لا أدري لماذا تذكّرني هذه الأوتار، بوترالليدي مكبث وهي تحثّ مكبث على قتل الملك دنْكنْ. كان مكبث خائفاً من إخفاق خطّة قتل الملك، فقالت:
ـــ "نخفق؟
حسبك أن تشدّ وتر شجاعتك إلى منزع القوس
ولنْ نُخْفِق"

تتقارب الصورتان لأنهما تؤديان إلى الصيد، والدم.
أكثر من ذلك، يقول مصطفى سعيد، في مناسبة أخرى:"أنا لستُ عطيلاً. عطيل كان أكذوبة". هل كان مصطفى سعيد، عطيلاً حقيقياً إذن، أم تمويهاً واقعياً؟ قال:
"كنتُ أعلم أنها تخونني. كان البيت كلّه يفوح بريح الخيانة. وجدتُ مرّة منديل رجل، لم يكنْ منديلي. سألتها فقالت: إنّه منديلك. قلتُ لها هذا المنديل ليس منديلي. قالت :هبْ أنه ليس منديلك. ماذا أنت فاعل؟:
"...وضعتُ حدّ الخنجر بين نهديها، وشبكتْ هي رجليْها حول ظهري. ضغطتُ ببطء. ببطء. فتحتْ عينيها. أيّ نشوة في هذه العيون. وبدتْ لي أجمل من كلّ شئ في الوجود. قالتْ بألم: يا حبيبي. ظننتُ أنّك لن تفعل هذا أبداً. كدتُ أيأس منك. وضغطتُ الخنجر بصدري حتى غاب كلّه في صدرها بين النهدين. وأحسستُ بدمها الحار يتفجّر من صدرها. وأخذت أدعك صدرها بصدري وهي تصرخ متوسّلة : تعال معي. تعال. لا تدعْني أذهب وحدي".
ثمة مقابسة ثقافية آخرى من التصورات الشيكسبيرية، في رواية موسم الهجرة للشمال ولا سيّما التصورات النهرية في مسرحية مكبث. هنا كما في مسرحياته الأخرى عموماً تشكّل الأنهار لدى شيكسبير رمزاً للموت، وأشهر تلك الأنهار إطلاقاً هو النهر الصغير الذي غرقت أو انتحرتْ فيه أوفيليا. (كذلك مصطفى سعيد، ما من أحد يعرف هل غَرِقَ أم آنتحر). يقول مصطفى سعيد، بعد أن آستدرج إيزابيلا سيمور إلى الحديث عن نهر النيل :"الطائر يا مصطفى سعيد قد وقع في الشرك. النيل، ذلك الإله الأفعى، قد فاز بضحية جديدة".
نصادف أوّل الصور النهرية، في مسرحية مكبث، في المشهد الثاني - الفصل الأوّل، حينما روى أحد الضباط للملك دنكن عن سير المعركة، فقال:
"سجالاً كانت تدور،
مثْل سبّاحيْن منهكيْن، يشتبكان بالتحام
فيخنقان فنّهما في السباحة..."
تبلغ المأساة ذروتها، حينما تكون مثل نهر، يخوض فيه المرء الشقيّ إلى منتصفه فلا هو قادر على إكمال العبور ولا هو قادر على النكوص. قال مكبث مشبّهاً جريان الدم بالنهر:
"لقد خضتُ
في الدم بعيدا، وحتى لو لم أمضِ أبعدَ
فإنّ الرجوع صعب مثل المضي إلى الضفّة الأخرى"
وصف راوية موسم الهجرة إلى الشمال، غرقه الفاجع، ( وهو بالمناسبة ، لا يقلّ عمقاً، ونفاذاً ومهارة عن وصف دستويفسكي لحالة الصرع، ووصف توماس دي كوينسي لمراحل انتشار الخدر في خلايا الدماغ، وبالتالي الجسد، بعد أكل الأفيون):
"وصلتُ إلى نقطة أحسست فيها أنّ قوى النهر تشدّني إليها. سرى الخدر في ساقي وفي ذراعي... وفجأة وبقوّة لا أدري من أين جاءتني، رفعت قامتي في الماء...تلفتّ يمنة ويسرة، فإذا أنا في منتصف الطريق بين الشمال والجنوب. لن أستطيع المضي ولن أستطيع العودة...".

ما دمنا في أتّون التأثّر والتأثير، نلحظ في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، لازمة تتكرّر، هي أنّ مصطفى سعيد لا وجود له، إنّه أكذوبة. و الراوية نفسه أكذوبة أخرى. فحينما كان مصطفى سعيد ، يستمع إلى ماجريات محاكمته، وكيف حاول أستاذه، بروفسورماكسويل فستر كين أن يخلصه من المشنقة، خطر بباله أن يقف ويصرخ في المحكمة : "هذا المصطفى سعيد لا وجود له. إنّه وهم، أكذوبة. وإنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة... وخطر لي أن أقف وأقول لهم "هذا زور وتلفيق. قتلتهما أنا. أنا صحراء الظمأ...لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة".
في مناسبة أخرى، يتذكّر الراوية، مصطفى سعيد بعد آختفائه، كيف كان يقرأ شعراً إنكليزياً:
" هؤلاء نساء فلاندرز
ينتظرن الضائعين،
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يغادروا الميناء
ينتظرن الضائعين الذين أبداً لن يجئ بهم القطار
إلى أحضان هؤلاء النسوة، ذوات الوجوه الميتة
ينتظرن الضائعين، الذين يرقدون موتى في الخندق
والحاجز والطين في ظلام الليل
هذه محطة تشارنغ كروس. الساعة جاوزت الواحدة.
ثمة ضوء قليل
ثمّة ألمٌ عظيم".

قال الراوية :"ضوء المصباح ينعكس على وجهه، وعيناه سارحتان كما خُيّل لي في آفاق داخل نفسه. والظلام حولنا في الخارج كأنّه قوى شيطانية تتضافر على خنق ضوء ذلك المصباح. أحياناً تخطر لي فجأة تلك الفكرة المزعجة أنّ مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقاً، وانه فعلاً أكذوبة، أو طيف أوحلم، أو كابوس، ألمّ بأهل تلك القرية تلك، ذات ليلة داكنة خانقة، ولمّا فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يروه".
لكنْ على أيّ محملٍ يُحمل الآقتباس أعلاه؟ مصطفى سعيد كان من لحمٍ ودم. له زوجة، ووَلَدان. له بيت يزار، وجواز سفر. أكثر من ذلك حوكم ودخل السجن. فكيف يكون أكذوبة؟
قد يكون أكذوبة فعلاً، إذا فكّرنا في الخرافات العربية القديمة، حيث يتزوج الجنّ من النساء، كما في القصة المشهورة عن" آمرأة آسمها حَبّة التي علقها رجل من الجنّ ، يُقال له آبن منظور.(عن آبن جنّي في تفسير البيتيْ التاليين) :

أعينيّ! ساء الله مَنْ كان سرُّهُ
بكاؤكما أو مَنْ يُحبّ أذاكما
ولو أنّ منظوراً وحبّة أُسْلِما
لنزع القذى لم يُبْرِئا لي قذاكما"

لا يمكن أن يجنح خيال الطيب صالح إلى تلك المنتجعات الخرافية، وهو يعالج أشقّ موضوع نفسيّ جادّ. يقول مصطفى سعيد: "...ولكنْ إلى أن يرث المستضعفون الأرض، وتُسَرّح الجيوش، ويرعى الحَمَل آمناً بجوار الذئب، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر، إلى أن يأتي زمن السعادة هذا، سأظلّ أعبّر عن نفسي بهذه الطرق الملتوية".
هل ثمة تشابه بين أبطال موسم الهجرة إلى الشمال، والمسرح الأليزابيثي عموماً؟ يتفق النقّاد، على أن القوى الخفية هي التي تحرّك شخوص مسرحيّات شيكسبير. وما هُمْ إلاّ تجسيد لأفكار. هل ، بالمثل ثمّة قوى خفية في موسم الهجرة إلى الشمال، وما مصطفى سعيد وسواه سوى أوعية تتجسّد فيهاِ معتقدات بعينها، أو هُمْ وسائط لنقلها؟
يبدو أنّ للطيب صالح تصوّراً فلسفيّاً للتاريخ خاصّاً جدّاً، وهو الذي أعطى لهذه الرواية، بعداً جغرافيّاً، وعمقاً تأريخياً في أعماق النفس، عزّ نظيرهما. يتصوّر الطيّب أنّ المجتمات البشرية في انتقال دائم، وإنْ لم يكونوا بالضرورة بدواً رُحّلاً. فالسوداني لم ينبت سودانياً كشجرة ثابتة، ولا المصري ولا العراقي ولا الأوروبي. بكلمات أخرى قد ينحدر الإنسان إلى أصول مختلفة، وإن حمل سحنة ولغة البلد الذي يسكن فيه حاليّاً. طرح الطيب هذه الفكرة على حياء أوّلاً قبل أن يوظفها مصطفى سعيد، في أحابيله العاطفية.
يقول مصطفى سعيد واصفاً إيزابيلا سيمور في لقائهما الأوّل:"عادت النظرة الحانية إلى عينيها، ومدّت يدها فأمسكت يدي وقالت :هل تدري أنّ أمّي إسبانية؟". قال لها مصطفى سعيد :"هذا إذن يفسّر كل شئ. يفسّر لقاءنا صدفة، وتفاهمنا تلقائيّاً، كأننا تعارفنا منذ قرون. لا بدّ أنّ جدّي كان جنديّاً في جيش طارق بن زياد، ولا بدّ أنّه قابل جدّتك وهي تجني العنب في بستان بأشبيلية. ولا بدّ أنّه أحبها من أوّل نظرة، وهي أيضاً أحبّته، وعاش معها فترة ثمّ تركها وذهب إلى أفريقيا، وهناك تزوج وخرجت أنا من سلالته بأفريقيا، وأنت جئت من سلالته بأسبانيا".
في مرّة أخرى، ذكرمصطفى سعيد، كيف التقى بسوسن إثر محاضرة ألقاها بأكسفورد عن أبي نواس. " وفجأة رأيت فتاة في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة تثب نحوي وثباً مخترقة الصفوف، وطوّقتني بذراعيها وقبلتني، وقالت باللغة العربية :أنت جميل تجلّ عن الوصف. وأنا أحبك حبّاً يجلّ عن الوصف. قلت لها بعاطفة أخافتني حدّتها : وأخيراً وجدتك يا سوسن. إنني أبحث عنك في كلّ مكان، وخفت ألاّ أجدك أبداً.هل تذكرين؟ قالت بعاطفة لا تقلّ عن عاطفتي حدّة : كيف أنسى دارنا في الكرخ ببغداد على ضفة نهردجلة أيّام المأمون؟ أنا أيضا آقتفيت أثرك عبر القرون ...لم تتغيرْ منذ آفترقنا"
قد يكون هذا الماضي -على جدّيته - تصوّراً رومانسيّاً. ولكنّه أصبح أكبر قوّة محرّكة عمّت جميع أجزاء الرواية. آرتبط الأمن في بداية الرواية بثبات الماضي. تبدأ الرواية على المثابة التالية :"عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد، كنتُ خلالها أتعلّم بأوروبا..."
يوحي تعبير :"يا سادتي" على أنّ الراوية أصبح صوتاً تأريخياً، يخاطب كلّ شخص ولا يخاطب أحداً. جعلنا الراوية نظّارة في مسرح، نعاصر أحداثاً قديمة. نحن خارجها وداخلها في آن واحد. في اليوم التالي يرخي الراوية أذنيه لصوت الريح، وكأنّ الريح رمز لمجرى الأحداث. ثمّ يقول :"نظرتُ من خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمت أنّ الحياة ما تزال بخير".
لم تكن النخلة، وهي ربما رمز للسودان، وحدها ملهمة للطمأنينة والأمن، جدّه كذلك. إنّه خزين الماضي ومستودع أسراره. يقول الراوية :"أذهب إلى جدّي، فيحدّثني عن الحياة قبل أربعين عاماً، قبل خمسين عاماً، لا بل ثمانين، فيقوى إحساسي بالأمن. كنت أحبّ جدّي، ويبدو أنّه يؤثرني. ولعلّ أحد أسباب صداقتي معه، أنني كنت منذ صغري تشخذ خيالاتي حكايات الماضي...ولمّا سافرت خفتُ أنّه يموت في غيبتي"
بهذه الأسطر القليلة، وضع الطيب صالح هيكل الفلسفة التي بُنِيَتْ عليها لبنات الرواية، وما تلك الفلسفة إلا موقفه من الماضي. شبّه الراوية نفسه بالنخلة التي أصبحت بالنسبة له مرآة أو صنوا أو أنه كان فسيلة صغيرة ملتصقة بها. "أنظر إلى جذعها القويّ المعتدل، وإلى عروقها الضاربة في الأرض، وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة. أحس أنني لست ريشة في مهب الريح، ولكني مثل النخلة، مخلوق له أصل، له جذور له هدف".
هل مأساة مصطفى سعيد أنّه كان ريشة في مهب الريح؟ مخلوق بلا أصل، بلا جذور، بلا هدف؟
مصطفى سعيد بآختصار، مخلوق مصنوع ، طُوَّرتْ موادّه الخام في مختبر إنكليزي حسب مواصفات خاصة. "كان آبنهم المدلّل".
من مواصفاته أنه يجب أن ينقطع عن تربته وجذوره. يجب أن ينقطع حتى عن جبلّته الإنسانية.
يصف لنا مصطفى سعيد وداعه لأمه في أوّل رحلة له من السودان إلى القاهرة، قبل سفره إلى لندن :" حين أخبرني ناظر المدرسة بأنّ كلّ شئ أُعِدّ لسفري للقاهرة، ذهبت إلى أمّي وحدّثتها...آفترت شفتاها لحظة كأنها تريد أن تبتسم، ثمّ أطبقتهما، وعاد وجهها كعهده، قناعاً كثيفاً، بل مجموعة أقنعة..."
ووصف مشاعره هو في ذلك الوداع :"كان ذلك وداعنا. لا دموع ولا ضوضاء. مخلوقان سارا شطراً من الطريق معاً، ثمّ سلك كلّ منهما سبيله. وكان ذلك في الواقع آخر ما قالته لي، فإنني لم أرها بعد ذلك. بعد سنوات طويلة، وتجارب عدّة تذكّرت تلك اللحظة وبكيت. أمّا الآن، فإنني لم أشعرْ بشئ على الإطلاق". (سيتذكّر أمّه ثانية في أغرب مكان وأغرب توقيت. :"... وتذكّرتُ نبأ وفاة أمّي حين وصلني قبل تسعة أشهر، وجدوني سكران في أحضان آمراة. لا أذكر الآن أية آمرأة كانت. ولكنني تذكّرتُ بوضوح أنني لم أشعر بأيّ حزن، كأنّ الأمر لا يعنيني في كثير أو قليل. تذكرت هذا وبكيت من أعماق قلبي. بكيت حتى ظننت أنني لن أكفّ عن البكاء أبداً").
أكثر من ذلك، يصف مصطفى سعيد مشاعره حينما غادرت الباخرة من الاسكندرية إلى لندن :"وهاج الموج تحت السفينة، واستدار الأفق حوالينا، أحسست توّاً بألفة غامرة مع البحر. إنني أعرف هذا العملاق الأخضر اللامنتهي، كأنّه يمور في ضلوعي. واستمرأت طيلة الرحلة ذلك الإحساس في أنّي في لا مكان، وحدي، أمامي وخلفي الأبد، وصفحة البحر حين يهدأ، سرابٌ آخر، دائم التبدّل والتحوّل، مثل القناع الذي على وجه أمّي. هنا أيضاً صحراء مخضرّة مزرقّة ممتدّة تناديني، تناديني".
لماذا أحسّ مصطفى سعيد، بألفة مع البحر؟ ولماذا آستمرأ ذلك الإحساس بأنّه في لا مكان؟. هل هذه رموز عالمه الجديد المتبنّى، أي بريطانيا سيدة البحار؟ هذه صور تبدو على النقيض من أحاسيس الراوية الذي أحبّ الثبات المتمثّل بالنخلة، وجذورها الضاربة في أعماق التربة، وأحبّ مشهد أمّه وهي تحمل الشاي كما كانت قبل أن يغادر إلى أوروبا :"وجاءت أمّي تحمل الشاي، وفرغ أبي من صلاته وأوراده فجاء. وجاءت أختي، وجاء أخواي، وجلسنا نشرب الشاي ونتحدّث، شأننا منذ تفتّحتْ عيناي على الحياة. نعم، الحياة طيبة، والحياة كلّها بخير".
تناقضٌ بلا شكّ، ولكنّه كتناقض وجهيْ العملة وهما من معدن واحد. قال الراوية حين آختفى مصطفى سعيد، غرقاً أم آنتحاراً :"إنني أبتدئ من حيث آنتهى مصطفى سعيد".
ما لم لم ينتبهْ إليه المختبر الإنكليزي، أنّ الجينات تبقى تحتفظ بصفاتها مهما تقادم عليها العهد. غرفة مصطفى سعيد بلندن شاهدة على ذلك. "وفي لندن أدخلتها بيتي، وكر الأكاذيب الفادحة التي بنيتها عن عمدٍ أكذوبة أكذوبة. الصندل والندّ وريش النعام وتماثيل العاج والأبنوس والصور والرسوم لغابات النخل على شطآن النيل..." بهذه العدة التي تفتقّت عنها ذهنية مصطفى سعيد كان يوقع الفتيات الرومانسيات. ولكنها من ناحية أخرى، تشير إلى فشل الأوروبيين في صناعة إنسان شبيه بهم مائة بالمائة.
حتى في المحكمة التي عُقِدتْ لمحاكمته بعد أن آعترف بقتل جين مورس، قال له القاضي في محكمة الأولد بيلي :" إنّك يا مستر مصطفى سعيد، رغم تفوّقك العلمي، رجل غبي . إنّ في تكوينك الروحي بقعة مظلمة".وقال له أستاذه مرّة :"أنت يا مسترسعيد خير مثال على أنّ مهمّتنا الحضارية بأفريقيا عديمة الجدوى، فأنت بعد كلّ المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأوّل مرّة". هذه المحكمة في واقع الأمر لم تكنْ لمحاكمة مصطفى سعيد، وإنّما لمحاكمتهم هم، لمحاكمة الفكر الأوروبي الآستعماري. ربما لهذا السبب آعترف بجريمة القتل ببرودة أعصاب، وكأنّ جريمة القتل جاءت نتيجة عفوية وغريزية وطبيعية، أيْ خارجة عن إرادته:
ـــ هل تسببتَ في آنتحار آن هموند؟
ـــ لا أدري
ـــ وشيلا غرينود؟
ـــ لا أدري
ـــ وإيزابيلا سيمور؟
ـــ لا أدري
ـــ هل قتلتَ جين مورس؟
ـــ نعم
ـــ قتلتها عمداً؟
ـــ نعم
هل قطع مصطفى سعيد، بهذا القتل المتعمّد، أو حاول أن يقطع، صلته بهذا العالم الغريب؟
عاد مصطفى سعيد إلى السودان بعد أن قضّى مدّة السجن بلندن، وانخرط في الحياة السودانية مواطناً عادياً. يواظب على الصلاة، ويمارس طقوس القرية كأنه واحد منهم. تزوج وأنجب طفلين. وقبل وفاته ترك زوجته وطفليه في عهدة الراوية. سأل الراوية مرّة، الزوجة:
ـــ هل أحببتِ مصطفى سعيد؟
يقول الراوية :"لم تُجِبْ. وظللتُ برهة أنتظر، ولكنّها لم تُجِبْ...ثمّ نفذ صوتها إلى أذني:
ـــ كان أباً لأولادي...كان زوجاً كريماً، وأباً كريماً، طول حياته، لم يقصّر معنا. أظنّه كان يخفي شيئاً
ـــ لماذا؟
ـــ كان يقضي وقتاً طويلاً بالليل في تلك الغرفة.
ـــ ماذا في تلك الغرفة؟
ـــ لا أدري. إني لم أدخلها قطّ. المفتاح عندك. لماذا لا تتحقّق بنفسك؟
في المقطع أعلاه، مفاتيح لا تفتح، للأسف، أيَّ باب من أبواب شخصية مصطفى سعيد. لماذا لم تُجِبْ رأساً حينما سألها الراوية هل أحببت ، مصطفى سعيد؟ ولماذا قال لها مصطفى سعيد، ولم يقلْ زوجك أو المرحوم؟ هل بات، أو هل كان مصطفى سعيد رجلاً غريباً عليهما؟ لماذا لم تدخل الزوجة في تلك الغرفة، من باب الفضول في الأقلّ؟ هل منعها؟ ولكنّ الأهمّ ما الذي كان يخفيه في تلك الغرفة؟.
ندخل الغرفة بمعيّة الراوية، وكأننا ندخل قبراً فرعونياً. الرائحة الراكدة وكأنْ راكدة منذ
قرون، والعتمة التي لم تغتسلْ بالنور وكأنْ لم تغتسلْ منذ قرون.(سنتعرّف على هذه الغرفة فنيّاً لاحقا).
ما يثير الانتباه أوّلاً في هذه الغرفة "الكتب . يا إلهي. الحيطان الأربعة من الأرض حتى السقف. رفوف، رفوف،رفوف، كتب كتب كتب".
ولكن ليس بين هذه الكتب، كتاب واحد باللغة العربية، حتى القرآن باللغة الإنكليزية.
في الغرفة كذلك، مدفأة إنكليزية، وكرسيّان فكتوريان. لوحات لفتيات إنكليزيات. رسائل
حبّ قديمة، باللغة الإنكليزية.
يبدو أنّ مصطفى سعيد كان يعيش نهاره بالسودان، مواطناً سودانياً يكدح ويفلح، ويساهم في التطوير الزراعي، ولكنّه في الليل يستحيل إلى مخلوق إنكليزي، في صومعة خاصّة هي "قلعته" النفسية. (بيت الإنكليزي قلعته، كما يقول المثل). في حين كان عكس ذلك، بلندن. فهو إنكليزي في النهار، وسوداني في الليل. الليل والنهار ، كما يبدو ، في هذه الرواية عالمان منفصلان، لا تفاعل بينهما. عالمان منفصلان.
( تتكشف الرواية عن ثراء أعمق، لو دُرِستْ دراسة سياسية، على آعتبار أنها مجموعة من الرموز للقوى الاجتماعية والدينية والاقتصادية داخل السودان وخارجه).
مع ذلك ، فرواية موسم الهجرة إلى الشمال، آبتكارية من ناحية فنّية. لأن الأبطال صُنعوا صنعاً مختبرياً ليجسّدواالتيارات الفاعلة الخفية التي تقرّر حركة التأريخ في المجتمع. إنها مجهر. إنّها رواية ذهنية. أقرب إلى أنابيق هـ. جي. ويلز واستيلاده للبشر حسب المقادير.
لا يمكن أن تأتي رواية بهذه الموهبة ، لو كان مؤلفها أحاديّ اللغة والثقافة. قلنا إن الطيّب صالح مشبّع بالثقافة الأنكلو سكسونية. ثقافتان تصارعتا في البداية كالتقاء نهريْن في قرنة. يتصارعان، ثمّ يسيران بتناغم، مشكليْن تيّاراً أكبر.
طوّر هذا التيّار، أو هذه المقابسة مع الثقافة الأجنبية، لدى الطيّب صالح، لا مجسّاته الفكرية، حسب، بل حواسه. مَثلاً. حين وقف الراوية عند باب دار جدّه في الصباح، ميّز قبل أن يدخل مَنْ هم الجلوس من ضَحِكهم :"وسمعتهم يقهقهون، فميّزتُ ضحكة جدّي النحيلة الخبيئة المنطلقة حين يكون على سجيّته، وضحكة ود الريس التي تخرج من كرش مملوء بالطعام دائماً، وضحكة بكري التي تأخذ لونها وطعمها من المجلس الذي يكون موجوداً فيه، وضحكة بنت مجذوب القويّة المسترجلة". تطورّت حاسة السمع هذه في قراءة الشخصية أكثر فأكثر لا سيّما في قراءة مشاعر زوجة مصطفى سعيد من تلوّنات صوتها، وطبقاته. "صوتها الآن ليس حزيناً، وليست فيه مناغاة، ولكنّه مشرشر الأطراف كورقة الذرة"
لكن أهم حاسة متطورة في هذه الرواية هي حاسة الشمّ. لا مثيل لها في الأدب العربي. لأنها نشأت مع الراوية منذ دراسته الأولى للأدب الإنكليزي.
يقول مصطفى سعيد :"وخرجت من داري يوم سبت ورحتُ أشمشم الهواء"، وفي ركن الخطباء في حديقة هايد بارك، آقترب من فتاة "شممت رائحة جسدها، تلك الرائحة التي آستقبلتني بها مسز روبسون على رصيف محطة القاهرة".
بعد ذلك وصلا إلى داخل البيت:" ولفحتْها رائحة الصندل المحروق والندّ، فملأت رئتيها بعبير لم تعلمْ أنّه عبير قاتل".
تحدّث مصطفى سعيد عن طريدة أخرى كانت تفتّش عن حتفها بظلفها. قال :"كانت تدفن وجهها تحت إبطي وتستنشقني كأنّا تستنشق دخاناً مخدّراً. وجهها يتقلّص باللذة. تقول كأنّها تردّد طقوساً في معبد "أُحب عرَقكَ. أريد رائحتك كاملة. رائحة الأوراق المتعفنة في غابات أفريقيا. رائحة المنجة والباباي والتوابل الآستوائية. رائحة الأمطار في صحارى بلاد العرب".
المعروف أن حاسة الشم في مسرحية هاملت (وفي الأدب الإنكليزي عموماً) هي أقوى الحواسّ، وأمضى أداة للتعذيب، في حين تنوب عن ذلك، في الأدب العربي، حاسة الذوق "تذوقون العذاب".
إذا كانت حاسة السمع قد تطوّرت لدى الطيب صالح عن طريق الموسيقى الكلاسيكية، " وتعلّمت منها حبّ موسيقى باخ"، وحاسة الشمّ عن التشرّب التلقائي بالأدب الإنكليزي خاصّة، فإن حاسة البصر تطوّرت عن طريق الرسم ، وهو لا شكّ خصيصة أوروبية.
كالرسّام تماماً تنمو الصورة لدى الطيّب صالح. ببطء. ببطء. ما من ألوان في لوحات الطيب. أبيض وأسود. ظلام ونور. عبقريته في آستعمال النور. النور إزميله والظلام صخرته. لا يستحضره من شمس أو قمر. نور الطيب صالح مصنوع، وهو أذكى ألوانه، وأكثرها خطورة. "الظلام كثيف وعميق وأساسي وليست حالة ينعدم فيها الضوء - الظلام الآن ثابت، كأنّ الضوء لم يوجد أصلاً، و النجوم مجرّد فتوق في ثوب قديم مهلهل".
لا ريب لا يكون الظلام أساسياً وثابتاً إلاّ إذا كان مصبوغاًً على لوحة.
وصف الراوية مرّةً رحلته الصحراوية الشاقّة نهاراً. وحين هبط الليل هبط كرحمة واسعة." ثمّ تحلّقنا حلقة كبيرة، ودخل بعض الفتيان، وسط الحلقة، ورقصوا كما ترقص البنات...وخطرت لأحد فكرة، فصفّ السواقون سياراتهم على هيئة دائرة وسلّطوا أضواءها على حلقة الرقص، فاشتعلتْ شعلة من الضوء لا أحسب تلك البقعة رأت مثلها من قبل. و زغرد الرجال كما تزغرد النساء، وانطلقت أبواق السيارات جميعاً في آن واحد"
الضوء الآخر المصنوع في هذه الرواية، وهو الأخطر والأنضج سينمائياً هو ضوء عود الثقاب حينما دخل الراوية إلى غرفة مصطفى سعيد لأوّل مرة . في اللقطات التالية شئ من مفاجآت هيتشكوك، ولكن بلا إرعاب. تقطيع سينمائي. لقطة فلقطة، لإثارة الفضول أكثر فأكثر. تماماً كالفضول الذي نمرّ به ونحن نراقب عالم آثار وهو يدخل إلى قبر فرعوني لأوّل مرة. يقول الراوية :"فتحت نافذة وأخرى وثالثة. ولكنْ لم يدخل من الخارج سوى مزيد من الظلام. أوقدت ثقاباً. وقع الضوء على عيني كوقع الآنفجار، وخرج من الظلام وجه عابس زامّاً شفتيه...صار للوجه رقبة، وللرقبة كتفان وصدر ثمّ قامة وسيقان...اختفت الصورة فجأة وجلست في الظلام زمناً لا أدري حسابه أرهف السمع، ولا أسمع شيئاً. أشعلت ثقاباً آخر فابتسمت آمرأة آبتسامة مريرة..."
تماماً مثل عالِمِ آثار يكتشف محتوياتِ قبرٍ فرعوني.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف