أدونيس يعود بالتاريخ إلى تاريخه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تاريخ يتمزق في جسد امرأة
سامح كعوش من بيروت: أدونيس في" تاريخ يتمزق في جسد امرأة" هو نفسه أدونيس كما "في الكتاب" وكما قبلاً في "أغاني مهيار الدمشقي"، شاعر يسعى جاهداً لأن يستعيد دوره المفقود منذ انحلال الرابطة القبلية الحقة، الملتزمة قيم العدالة والرجولة في موقف الصراع ضد العدم في صحراء لم تعط العربيّ الا القليل القليل ليعيش عليه.أدونيس الشاعر الرؤيوي الباحث عن قبيلة من الغواة التابعين، يؤمنون بمغايرة تعيد للشاعر ريشته ليعيد رسم هذا العالم.المرأة هي المحور، هي الغاية والوسيلة معاً، في "تاريخ يتمزق في جسد امرأة" يجعل منها ضحية يرجمها الحشد مع ابنها، كأنه يحاكم تاريخ البشرية منذ أول خطيئة وأول رجم.
هو يسعى الى زلزلة المفاهيم الخاطئة التي لا توافقه الرأي في "أن المرأة مفتاح معرفي،فالصورة التي تشوه المرأة تشوه الرجل أيضا، والرجل في إلحاحه على تغييب المرأة إنما يلح على تغييب نفسه" فالأنوثة هي بالنسبة الى أدونيس مفتاح معرفي لاكتشاف العالم، "فلكي نكتشف العالم ونكتشف أسراره ونكتشف علاقاته لا بد ان
تكون الأنوثة طريقنا الى ذلك، فالمرأة مفتاح معرفي لتلون العالم".
"أتغلغل في عزلتي، تحت جلدي، في الصمت في نعمة البكاء.وازحزح هذا الثقيل الفضاء" (صفحة 22).
الأنثى حلقة مفقودة في سلسلة التناسل الغبي لذكورية فجة تمارس رغبتها في السيطرة والاستملاك، والأنثى تتكور على ذاتها في نعمة بكائها ولا تستطيع هروباً من عزلة فرضتها عليها قيم التقليد، وموقف حاسم من التراث يحيله الى حقبات سوداء لا تعترف بالحق في الاختلاف كما الحق في المساواة.لا يقيم أدونيس محاكمة للتاريخ بأسره، بل هي محاولته أن يعيد كتابة هذا التاريخ أكثر اخضراراً وشفافية، أكثر حباً. فالأنثى في "تاريخ يتمزق في جسد إمرأة " هي الأنثى الباحثة عن الحب، الحب رديف الحرية ولا يمكن لأحدهما أن يتحقق دون
الآخر.
"أأنا حرةلأغني حبي؟" (صفحة 65).هذا التساؤل المحوري في كتابه القائم على الحوار المثلث الأضلاع" الرجل/ الجوقة ثم المرأة والراوية" يضع هذه الأطراف المتحاورة في قفص الاتهام امام امرأة تسعى جاهدة للحفاظ على حريتها، حبها، وبتحقق هذين الشرطين يتحقق خير هذا الكون
الواحد في جنسه: الرجل الأنثى معا.إذاً، يحاكم أدونيس الخرافة التي لا تقيم وزناً للعقل ولا تحتفي بالجسد كحيٍّ
بل تحيله مأتما، ورقاً في مهب ريح مشعوذة، هي نفسها الخرافة التي تملأ فم الشاعر بالرمل لا بالذهب، وتنصبه شاعر بلاط يتلو أمام الجماعة تراتيل مجاعة
الروح، لا فارس قبيلة لسان حاله يقول:
"اذا القوم قالوا من فتى خلت انني عنيتُ..."، يقول على لسان أنثاه:
"فزعي يتقوت رملا
كتل من سراب تتدحرج ما بين عيني
جسمي ورق في مهب
وفي كل عضو مأتم
أتحرك في حفرة
وأصلي لجسمي" (صفحة 65).
يبحث أدونيس في "تاريخ يتمزق في جسد إمرأة" عن أنثى لا تجتر أوهام الجماعة، بل تربي طفلها على ما تجده في أفق معرفي من حقائق تمجد الحرية والحب كقيمتين إنسانيتين أزليتين:
"هذه امرأة تعشق الحُرَّ" (صفحة 76 ).
وهي أسيرة خيال منور تنقاد الى صورة ترسمها عيناها، صورة أفق مقفل بأعراف خرافة
وأوهام ترضعها أجيال من العبيد لا يقوى على رفضها أحد:
"الخيال المنور يرسم في ناظريها
افقا يتقدم في باب غيب
خلعت قفله
دخلت، قلبت
لم تجد غير أوهامها
إنها ترضع الطفل أوهامها" (صفحة 75).
ثنائية المراة الجسد، تحتمل وحدة مضمون لا يتكرر كأنه ماء الحياة في جريانها ما بين نبع ومصب. الماء النور، كما في معتقدات الانسان الاول، الماء والنور امتزاج الروح بالجسد، وتلون الجسد بالروح في تماهٍ يفترض النقاء، في اكتمالٍ يفرض الارتقاء بالذات الى إكتمال لا أنثى فيه ولا ذكر:
"جسدي ما بدأت وما أبدأ
جسدي كل ما كتبته يداي
وما أقرأ
جسدي لا سواه
جسدي ما أراه وما لا أراه" (صفحة 111).
هي دعوة أدونيس الكونية التي لا تقف عند حد، فلا هي صرخته لصحراء عرب ولا لجنات غرب، فالأنثى سواء، مطمورة في الرمل عندنا، محكومة بالعري عندهم، كإيزيس. صرخته أنْ للحب معنى الحرية، وللحرية وجه آخر لم تشوه ملامحه التعاويذ أو ترمّله الأوهام، وجه تحكيه الكلمات الدافئة التي تتثاءب في شفتي أنثاه ولا تصرخ، بل تهمس في أذن الكوكب:
"حك ظهري يا كوكب الليل
بالكلمات التي تتثاءب في شفتي
أعني عليها (لم تزل تتقطر وحيا) وخذني
كي نعود لإيزيس في عريها
ونخط لغات السماء
بيد حرة، لغة الحب والشعر والكيمياء" (صفحة 119).
دعوة الى الولادة من جديد، للأنثى التي لم يلدها أحد ولم يكن ذنبها إلاها،
كونها أنثى من نار ونور، جسدها يشتعل بكل بداية شغفٍ ونور روح ترقى الى الغيم
لتنزل مطراً دافئاً على كون ظمىءِ القلبِ متصحّرِ الروحِ:
"ايها الكوكب الحميم
لا تنم، لا تنم
قبل أن تتقبل ناري" (صفحة 119).
إنها الأنثى الخلاص كما أراد لها أدونيس ان تكون، مفتاحاً معرفياً بالرجم والجمر، بالتضحية التي ارتقى بها البشر الاوائل وكانت قربان إيمانهم وعربون وفائهم للمستحيل الذي يتحقق بالمعجزة فقط، إنها الأنثى /الأم أولى موجودات الكون وآخر اتجاهاته، ولا يكون خلاصه الا بها:
"هذه إمرأة ترضع الوقت والناس أحوالها
إنها ترسم الدليل
للطريق الى المستحيل" (صفحة 122).
أنثى هي أول القول وآخر الليل، صبح سيشرق ليبدأ نهارات البشر بالفرح والحب الأزلي، يمحو عن جبيني الكون عار تفرقتهم بالجنس واللون والعنصر والدين، وما أرادهم الله هكذا الا أنهم أرادوا وقوّلوه، أن ليس كلّ البشر سواء ولأولئك أن يقتلوا هؤلاء وهذا يفضل على ذلك.أنثى ترفض تراث اللغة الماكرة، ترتاح الى قولٍ منصفٍ هو الحب والحق، يلغي كل جهات الاختلاف ويتحد بالوجود الأول الذي أنشأه الله، " كلكم من آدم" وبقية الوجود من نسلها، إنها الأنثى صانعة أفق يتفلت من قيوده الصدئة:
"وما هذه الخليقةrsquo;؟
ما هذه اللغة الماكرة؟
خذ يدي
أيها الحب خذني لكي
أتخلص من قيد أفلاكها الدائرة" (صفحة 125).
الأنثى عند أدونيس، منذ أول كلمة، الى آخر قصيدة، وما بينهما من التزام الشاعر بالكلمة التي تغيِّر ولا تتغير، تحدث فرقاً، بين أمسٍ وأمسٍ قريبٍ، والغد يأتي بالهداية المنتظرة على يد الأنثى الكسيرة الأسيرة، و"أدونيسها" المتفتح زهراً أحمر يلون خد الربيع بالدم المسفوح ترياقاً لحريةٍ لا تتحقق دونه، دم الشاعر حبر كلماته، رسالة هدايته للأجيال القادمة:
"إنها وابنها
أسيران في ظلماتٍ
بداياتها لفظة ونهاياتها لفظةٌ
يقرأ الطالعون من الوحي ما يتيسر منها:
زمن بائر ودم نافر
إهدِهِمْ
إهدِهِمْ ايها الشاعر" (صفحة 128).
أنثى تعيد ترتيب أولويات الشاعر "أدونيس" وتعلن انحيازه الأخير الى الحب والعدل والحرية كفراشةٍ تحترق بمصباحٍ ليشتعل بدمها:
"موتي أنني كفراشة ليل
ليس لي قوة لأخطىء
أحنوا واضم جناحي على شمعة
خطأي شمعة" (صفحة 43).
أنثى أدونيس هي ثابتُه والمتحول، في تحديه لسلطة الموروث وثورته أول الجسد آخر البحر، في شهوةٍ تتقدم في خرائط المادة لتلغيها كفردٍ بصيغة الجمع، أدونيس الشاعر الغامض الواضح في بحثه عن أبجديةٍ ثانيةٍ تقول ما لم تقله لغة الأرض وتتسع لما تحمله الأرض من همٍّ وجوديٍّ ما زال أسير جدلية الرجل المرأة وتخلفِ
اللغة عن حمل ما بينهما من سر همسٍ دافىء.