ثقافات

هكذا تحدّث الشعراء الشباب عن بعضهم، في ملتقى صنعاء

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ناقل الكفر ليس بكافر..

مروان الغفوري :أمام جماعة من أصدقائه، تحدّث الحكواتي الأشهر في التاريخ العربي"وهب بن منبّه" في لحظة من الزمن لا تحضرني: إنّا لنجد في التوراة أناسا أناجيلهم في صدورهم تنطق ألسنتهم بالحكمة وأظنّهم الشعراء. وإذا كانت طرأت تغيرات كثيرة على نموذج الشاعر الذي يستحضره وهب، تعامل معها جابر عصفور في " غواية التراث" بكثير من العبقرية، فإن ما يهم موضوعتي هذه ليس عرض نموذج الشاعر المعاصر وقياس نسبة حيوده عن النموذج الأقدم تحت مظلّة من قراءة التغيرات الاجتماعية والمعرفية، وتحولات أدوات الإنتاج، المرافقة والمتتالية. بيسر غير مكثّف، سأوجه الدعوة لوهب بن منبه، لنضحك قليلاً مع الشاعر العربي، الشاب المعاصر، ولنستمتع بمتابعة جنوحه نحو الواحدية والمركزيّة الأنويّة.. نحو تعظيم الذات وعبادتها بوصفها الأكثر اكتمالاً، ونسف الذوات الشعرية الأخرى بحسبانها زواحف شعريّة يجدر بها أن تقف ألف سنة مع الحطيئة لتعي معنى: الشعر صعبٌ وطويل سلّمُه. وهو نزوع مرضي حوّل مجتمع الشعراء إلى عصابات، وربما ميليشيات - كما تخوّف درويش - تنشغل بالهجاء البيني أكثر من انشغالاتها الإبداعيّة. ولكي لا نتهم أسماعنا بتفويت فرصة سماع الهجاء في العلن، حيث ستؤدي مفردة الهجاء هذا الدور من الوظيفة الإشاريّة، فسيكون ملائمٌ أن نعيد تأهيل مفردة النميمة لتحل محل الهجاء، ولتحمل - آنئذٍ - معنى جديداً: هجاء خافت، لا يستحدم النص الشعري في عملية القصف الجديدة. على البُعد من ذلك، إنه هجاء يستخدم الحكم الشعري والثقافي، الذي يبطن بداخله إشارة أبويّة دينية بطريركية مقزّزة.
حاجة في نفس ابن آدم سأختار مجتمع الشعراء الشباب، وليُكن ملتقى صنعاء الثاني للشعراء الشباب العرب عيّنة استقصاء، فهُناك من الممكن التلصص على 360 شاعرا لسماع غزواتهم البينية التي تفوّقت في تجاوزاتها ومجازاتها على تجاوزات النص الشعري وقدرته على النسف والإطاحة.. وتعارضت مع المقولات الحداثية المفارِقة للمركزيّات والأنظمة الشموليّة والمبشرة بالكونية الكوزموبوليتانية ؛ الداعية لوجود آخر، بأي تكلفة، وبأي شكل يرتئيه هذا الآخر، ويروق له.
لم أشارك في ملتقى صنعاء الأوّل، لأسباب تتعلق بإهمالي لتنمية مهاراتي في الاتصال،والتزلج إلى الأعلى، بينما كانت مشاركتي في الملتقى الثاني بسبب من مصادفة لم أعد أحمل لها كثير عرفان. سأتتبع نميمة الشعراء الشباب مؤقتاً، هُنا، كما قلت. وهو عرض محايد يفترض أن يقيني من تهِمة عرض أجزاء من سيرة ذاتية لرجل غير مهِم. سابقٌ لموعد الملتقى الثاني، بشهر واحد، كتبتُ في منتدى الشعر المعاصر، على الإنترنت، تنويهاً للصديق محمد خضر، أسميته نصيحة، رجوته فيها أن يتوقف عن لعب دور حارس المقبرة، كما كان يصرخ سارتر. ابتهلتُ أمامه، بلغة بدت صعبة على تقبّله، أن يتوقف عن استخدام النصوص الشعرية لأصدقائه وصديقاته كذرائع لسرد المقولات النقدية ذاتها. كنت واضحاً لدرجة أزعجته، مما اضطره لكتابة تنويه عاجل: أرجوك، اخرج من هذه الصفحة أيها الدرويش. في نهاية الأمر، كنتُ قد تمّنيتُ له أن يتحوّل إلى درويش مثلي، وإن كنت لا أعلم ما الذي ينبغي عليه فعله لكي ينجح في عملية التحوّل هذه، ويصبح درويشاً يشار إليه بحرص. إن حادثة عابرة كهذه لا يمكن اعتبارها نميمة، ما لم أضف إليها التالي: في حديث جانبي مع سمير اليوسفي، مدير عام مؤسسة الجمهورية، حضره الشاعر صلاح الدكاك، قال لي اليوسفي: بالنسبة لديوانك الجديد، لا أنصحك بتبني فكرة أن يقدم لك الشاعر عبد العزيز المقالح، فالرجل يحتفظ في مكتبه بورقة مكتوبة منذ عشر سنوات يضعها في مقدمة أي ديوان شعري. إنه، يقصد المقالح، لا يكاد يجتهد خارج تغيير اسم المؤلف، وحسب. ربما كان هذا هو نفس المعنى الذي أغضب صديقي خضر. لكن ما لم أفهمه هو تلك المكالمة الدولية من الشاعر إبراهيم الوافي. فقد قال لي- بينما هو يعرب عن امتنانه البالغ: أحسنت صنعاً يا عزيزي، إن محمد خضر بحاجة إلى ما كتبته له في المنتدى.. أنت تقول ما أفكر، ولا أبادر، بقوله.
صباح أول أيام الملتقى، بالتحديد: في الرسبشن الخاص بفندق هيل تاون، وسط العاصمة صنعاء.. بدأت أتصفح وجوه الحاضرين، أتعرّف على الاسماء التي لم يسبق لي أن قابلت أي من أصحابها. بعد نصف ساعة من امتهان الحديث بطريقة مكشوفة، غير شعرية، بدا لي أن الصديق محمد ناجي انزعج كثيراً لأني لم أقل، تعليقاً على سماعي لاسمه: أووه، يا إلهي، هو أنت إذن، يا لها من لحظة! فأنا لم أكن أعرفه من قبل، ولم أقرأ له. وباستثناء كلام ماجد المذحجي عنه: إنه كاتب مميّز، على عكس أخيه الذي لا يقدم ما يستحق القراءة ( يقصد الشاعر أحمد ناجي).. خارج هذا الوصف، الذي سمعته فيما بعد، فأنا لم أكن أعرف عن ناجي أي شيء. محمد ناجي، بدوره، لم يسمح للوقت أن ينتهي دون أن يسدي لنفسه معروفا، على شاكلة: لقد أخذت حقّي. وكما فعل مع الشاعر أحمد العواضي، وكيل الهيئة العامة اليمنية للكتاب، الذي رفض إمداده بمجموعة من الكتب قال أنه سيضعها في مكتبة تابعة لمدرسة يعمل بها.. تماماَ كما كتب، عقب الرفض، في صحيفة الثقافية: أحمد العواضي صاحب الشعرية البلهاء.. وإن كنت أستغرب كيف اكتشف قيمته الشعرية الليلة فقط، بعد أن تجاوز صاحب هذه البلاهات الخامسة والأربعين. وهكذا فقد بادرني محمد ناجي بالقول: ممم، إن اللقاء الذي أجراه معك شاعرٌ لا أتذكر اسمه في صحيفة الثقافية منذ عام تقريباً، كان لقاءً سطحيّا وأشبه بالحديث العادي. هززت رأسي موافقاً: أنا شخص عادي، ولا يمكن أن أصدّر خوارق للعالم. فتحّول مباشرةً إلى قائمة طويلة من الشعراء والكتاب، وجعلهم قاعاً صفصفاً، في خمس دقائق. فمن بين الذين لا يكتبون شعراً أحمد الشلفي وفتحي أبو النصر وحشد آخرون. أمسكت باسم فتحي، وسألتُ ناجي: كيف تنظر إلى تجربة هذا الشاب؟. ضحك بعنف، حسبته لم يضحك طيلة الليلة الماضية. وهو يضع رجله اليسرى في باب الحافلة عاتبني: تجربة! تجربة! فتحي لم يكتب إلا نصّاً واحداً وحسب، ولا أظنه سيكتب غيره. ذكر لي عنوان النص، وبدا لي أني لم أكن قد قرأته على عكس نصوص فتحي الأخرى. وبعد ما يزيد على الساعة، التقيت بفتحي وناجي معا. أخبرت فتحي بما يسوّقه ناجي عنه، على أمل أن يؤكد ناجي مقولته وبالمرّة يقدم نصيحة مفصلة لفتحي، لحتى يتوقف عن كتابة ما يعتقد أنه شعر، كما يعتقد ناجي. فرد فتحي ببرود: أنا لا أكتب شيئاً مهمّاً، ابصق على نصوصي ولا تأبه. بينما غمغم ناجي بما فهمت منه أنه يتهمني بتبييت نية إثارة فتنة بينه وبين فتحي " الشاعر". نعم، هكذا: الشاعر فتحي.. فجأة!
السبت، العاشرة صباحاً، 24 أبريل 2006، بدأ الشعراء ( الذين لم يحضر معهم الشعر، كما صارحهم أحمد السلامي) المبارزة على المنصّة. وبالطبع، كانت الحلقة الأولى الأكثر حضوراً وحساسيّة؛ فكثيرون حددوا نوعية النصوص التي سيلقونها بعد سماعهم لنصوص الصباحية الأولى. وعليه فأنا أتوقّع مقداراً كبيراً من النميمة ضُخ أثناء عمليات الإلقاء وبعدها. غير أن حرصي على مراقبة الأحاديث من بعيد لم يمكنّي من التقاط شواهد كثيرة. تقريباً، كثيرون سمعوا تعليقاً ألقاه أحدُهم " يبدو أن الشاعرة تقرأ الأسماء الحسنى لأمها ".. فقد تردد طيلة ذلك اليوم، حتى أني سمعته بعد بيومين من تصنيعه، صباح الاثنين، في المحويت، ونحن مندسون بين أطباق غداءٍ بدا لي أكثر معقولية من الكلمات الافتتاحية. كانت هدى الدغفق ضحية هذا التعليق، إثر إغراقها في قراءة نص مباشر، كعابر الكلام، وجهته إلى أمّها. وبعد ذلك النص، بالتحديد، بدأت قصص " كيفية اختيار الشعراء المشاركين" في النشوء والارتقاء، فصمدت تعليلات، وتلاشت أخرى، ومع كل إصدار جديد لقصّة تعليلية فقد المُلتقى جزءً من حضوره في المستقبل، حتى تلاشى الملتقى في نهاية الكلام.
مساء نفس اليوم، سمعت عبد الحكيم الفقيه يتحدث بصوت مسموع، ربما كان مسموعاً على نحو مقصود. كان ذلك بعد انتهاء الأمسية الأولى. بدا الفقيه غاضباً، بصورة مدرّة للضحك. ومن بين كلام كثيرٍ لا أفكر بروايته الآن، سمعته يقسم بالله ( لا أدري هل حدد لفظ الجلالة) أنه لن يصافح طلال الطويرقي، مبدياً ندمه البالغ لأنه فكر في تأسيس علاقة وديّة مع طلال. ولم يكُن تبريره معقّداً، فقد قال: دعونا نتصور والد طلال، للحظات. إن صاحبنا ( يقصد طلالاً) أحضر معه جهاز اللاب توب، ووضعه على المنصّة، وقاطع نفسه أثناء قراءة النص بإدراج مقاطع غنائية كانت هي، طبقاً للنص، المقاطع التي يلجأ إليها والدُه حين يغضب من والدته، وكانت أمّه تفعل الشيء نفسه. وبصورة كاريكاتورية صرخ الفقيه: ماذا لو كان والده، مثلاً، يملك طاحونة في الريف يلتجئ إليها في الأوقات العصيبة.. هل كنا سنشاهد الطاحونة على المنصّة! استمرت تعليقات الفقيه حتى آخر أيام الملتقى، وبعض تعليقاته بلغت حدّا في السخرية جعلها تحضرُ بصورة دائرية على مدار الوقت. ففي صباح اليوم التالي، الأحد، اعترض الفقيه على الجلسة النقدية المعنونة بـ " آفاق التجربة الشعرية لشعراء التسعينات وما بعدها في اليمن" بقوله: العنوان الحقيقي للجلسة "آفاق التجربة الشعرية للشعراء أعضاء اللجنة التحضيرية".
وفي جلسات الاستراحة، حلقات القات، كان كلام كثيرٌ يُقال يفترض أصحابه أهمّيته القصوى، وإن لم يكن في أغلب تفصيلاته سوى نميمة لا تدخل في باب " أناجيلهم في صدورهم ـ تنطق ألسنتهم بالحكمة" كما هو الفرض التاريخي لنموذج الشاعر عند وهب بن منبّه. فشاعر مغمور مثل " فيصل البريهي" تأخذه نشوة القات إلى ما بعد إمكاناته المعرفية، وفجأة يحلف بمعبوده الأسمى (نعم، ثمّة نموذج نقدي شائع اسمه النقد باستخدام اليمين الغموس) على أنّ كل ما سمعه لم يكُن شعراً، وأنّه سيردد نفس المقولة في التلفزيون. صحيحٌ أني لم أكن أعلم حينها ماذا يعني بالتلفزيون. بيد أنّي، بعد مشاهدتي لحلقة تلفزيونية أدارها جميل عز الدّين وحضرها عبد الله البار وحاتم الصكر - تلك الحلقة التي بدا فيها عزالدين كشيخ تكفير من الدرجة العاشرة - ساعتئذ أدركتُ ماذا يعني " البريهي" بالتلفزيون!

" يبدو أن صاحبنا في حالة ولاده".. عدت خطوة واحدة إلى الخلف لأتأكد من مصدر هذا التعليق، فتعرفت في تلك اللحظة على محمد عبد الوهاب الشيباني.وفيما بعد تيقّنتُ من أنه يمتلك قدرة عالية على طرح تعليقات كهذه، وإن كان الحارث الشميري، الرجل الطيب صاحب أعلى صوت إلقاء، ضحية تعليقه هذه المرّة. هيلدا اسماعيل، الشاعرة التي تثير ضجيجاً ذكوريا عقب كل فعالية شعرية تحضرها في المملكة السعودية، غادرت القاعة أثناء إلقاء الحارث لنصه الطويل. وفي الخارج عندما أرادت أن تقول لمجموعة من الشعراء أنها وافدة للتو من القاعة، وبالمرّة لتقول أشياء كثيرة بحركة واحدة، فقد قامت بوضع سبابتيها في أذنيها، هكذا 1001!
بالإمكان القول أن الأمسيات والصباحات انعجنت ببعضها وباستثناء قلّة من الشعراء الذين لا يميلون إلى اعتبار القات أو الجعة أو السجاير من مكونات، أو اشتراطات، النص الشعري - مثلها مثل الوزن والقافية - فإن كثيراً من الفعاليات غاب عنها معظم الشعراء المشاركين. نحن هُنا لنراقب سيرة حياة النميمة، غير الشعرية، كما تقدم. فعندما وقف بسام علواني على المنصّة وكان يدير لقاء يومئذٍ الشاعر (نسيتُ اسمه) قال الأخير للأول: حاول أن تتكيف مع الوقت القصير المتاح. ويبدو أنها كانت إشارة بالغة الإهانة، هكذا فهمها علواني، مما دفعه إلى أن يمسك بأوراقه بين يديه بطريقة فُهمت أنها قرار نهائي بمقطاعة الألقاء، وهو ما لم يحدث. وبعد أن انتهى بسام من الإلقاء، همس الشاعر علي المقري في أذني: بسام لم يقل شيئاً مهمّاً، إذ بدا واقعاً في شباك درويش بصورة مكشوفة. المقري، دينامو الملتقى، تعرّض لنميمة علنيّة، أو لنقُل: تعرض لحالة تفسيق شعري من قبل أصولي لا يقيم الصلاة، هكذا سيكون التوصيف أكثر ملاءمة لحالة الهياج التي رافقت أطروحة الشاعر علي ربيع، في الجلسة النقدية. في الواقع: حالة الهياج التي امتلأت بها ورقة علي ربيع. وجدان الصائغ، الناقدة، كانت قد سبقت علي ربيع بتقديم ورقة نقدية، وفيها قدّمت عينة من نصوص وصفتها بأنها ذات حس كوني للزمان وعلاقاته المكانية.. وركزت أكثر على نص للمقري يختصر لحظة الحب في دقائق يدلك فيها جسم محبوتبه بالصابون. ومن الكونية، عند الصائغ، إلى اعتبار النص المشار إليه " شغل مدلكتيّة " في ورقة علي ربيع، هكذا هوى علي المقري في دقائق. وما أعرفه، على المستوى الشخصي، أنّ أحداً لم يكفّر المقري، غير أني سمعتُ فيما بعد عن حملة تكفير شاسعة نالته أو حصل عليها. وكنميمة مؤثّرة، فقد قرأت لعبد الحكيم الفقيه: أؤكد لكم أن المقري يدفع مالاً وفيراً لمشائخ مجهولين مقابل أن يتفرّغوا لتكفيره بصورة علنيّة، لأجل الشهرة.

بالعودة إلى الشاعر الأكثر انغماراً، فيصل البُريهي.. ها هو يقفُ في وسط الساحة المحيطة بالمركز الثقافي. يتصفح الوجوه باستعلاء. يضع كفّه اليسرى على كتف عموديّ آخر بمحاذاته: أممم، طلب مني وزير الثقافة أن أرفع إليه بأسماء الشعراء اليمنيين الشباب الذين يقدّمون تجارب مدهشة. وقد اخترتُ من مجموعة الأسماء، أنا وأنت والحارث. وعندما استلم البريهي دورَه نطّ إلى المنصّة بطريقة كاريكاتوريّة، وبدأ ببيت شعر تقريري ملخّصه: سأقول قصيدة لم يصحُ الدهرُ على مثلها.. وكما تقول العرب " للإنسان ثلث ما نطق" فقد قال الأفندم قصيدة لم يصحُ الدهرُ على مثلها، وللدهر في صحيانه ونومه أحاديث!
يظل أكرم عبد الفتاح نجم الملتقى المائز، باعتبار النجومية حالة من الإضاءة المباغتة. كنتُ رجوته أن يتنازل عن حس المحارب الأخير مؤقتا، قبل أن يتبوّل على المنصة، ليتمكن من إلقاء واحدٍ من نصوصه الفنّانة، وهو يحمل الكثير من الجميل الفاجع. فضّل عبد الفتاح دور أخيليس على أدوار أخرى كثيرة وممكنة. وهكذا كانت قصيدته شبيهة بقصة رجل وقف على رأس جبل لا يفعل أكثر من أنه يدحرج الصخور على مساكين موجودين في الأسفل. وللمصادفة فقد كان وزير الثقافة، السابق، أبا المساكين الضعفاء الذين انفطرت قلوبهم لهذه القصيدة. ولم يكد عبد الفتاح يلقي بظهره على بطن مقعده بجواري، حتى جاءته تعليمات مباشرة على هيئة نصائح غليظة. كان أول من بادره بواحدة منها هو جميل مفرّح، الشاعر. طبعاً، بعد تعقيب الوزير على المنصّة ووصفه لمجموعة أكرم عبد الفتاح بالمخرّبين ( وهو وصف أمني على كل حال ). وبالمناسبة، لم أكن قد تعرّفت على جميل مفرّح من قبل، ولا حتى من بعد، وعندما سمعت اسمه لأول مرّة ضحكت بحق، وقلتُ: يا للتفاؤل. في تلك اللحظة بادرني علي المقري كالطلقة: أرجوك اختر اسماً آخرَ غير هذا الاسم، لأجل السماء. دفنتُ استغرابي تحت ادعاء جديد بالرغبة في مواصلة المرَح، وتساءلتُ ساعتئذٍ: كيف يمكن لشاعر أن ينقم على آخر لدرجة تفوق قدرته على سماع اسمه، وتعيقه حتى عن اتخاذ الإجراءات اللازمة لحصر الأمر في مستوى " الشخصي جدّاً ". من المنطقي أن أعود إلى ما قلته منذ قليل: أكرم يتبوّل على المنصّة. فأنا لستُ صاحب هذا التعبير، وعلى كل حالٍ فقد سمعتُ توصيفات أكثر دقّة لما فعله الرجل في نصّه، ومعظمها من ناشطين سياسيين. لكن ما لم أفهمه - حتى اللحظة الراهنة - هو مقالة سمير اليوسفي، مدير عام مؤسسة الجمهورية، في صحيفة الثقافية عقب الملتقى بأسبوع، تحت اسم مستعار. في المقالة، كانت إشارات اليوسفي كلها دينية وسياسية تبطنُ تهديداً ما وتشهيراً أخلاقيّاً من قبيل " بدت رأسه ثقيلة وصوته متهتّكاً " وربما اعتمد على سكرتيره الفنّي، الكمالي زكريا، في تسريب المعلومة اللازمة حول الاسم الحقيقي لكاتب المقالة، لتحدث التخويف المطلوب في قلب المواطن البشع، أكرم عبد الفتاح. وعموماً، فأكرم عبد الفتاح فقد شخصيته كشاعر، وسحبت منه رخصة قول الشعر إلى الأبد. هذا ما قاله الشاعران، جميل وجميل. فالأوّل، مفرّح، وضع يده اليمنى على صدر عبد الفتاح وبلهجة مهشّمة باللعاب اللزج (وهو لعاب الكر والفر، كما يصفه الفسيولوجيون) قال له: أنت لستَ شاعراً ولم تقل شيئاً يستحق حتى مجرّد الإنصات. لكنّك لم تكن مخطئاً بقدر خطأ الوزير الذي رفع قدرك حين صعد على المنصة ليقول كلاماً، للأسف، اعتُبِر تعقيباً من معاليه على أمثالك. يا للنعمة التي أصابت عبد الفتاح، وياللقدر العظيم! لستُ متأكداً مما إذا كانت تعقيبات الوزير السابق لا تزال قادرة على منح النعمة ذاتها، وترفع القدر بالسرعة الصاروخية إيّاها! ليس مهمّاً، فأخلاق العرب علّمتنا أن نذكر محاسن موتانا. فقط أخشى أن يكون أكرم عبد الفتاح قد استجاب لموعظة التكفيري الشاب جميل عز الدين. أعني تلك النصيحة التي ساندت تقبيح الشاعر جميل مفرّح. عز الدين بطريقة أداء زعاماتية: أتمنى لك حظّاً أوفر في مكان آخر غير الشعر. وفي المشهدين، كان عبد الفتاح يضحك وهو يهز رأسه "الخفيفة جّدّاً ": شكراً. وعلى كل حال، فأحدٌ لم يعِر كل الإشارات الأمنية، الصادرة عن شعراء مقرّبين من السلطة الأمنية، شيئاً، باستثناء خطيبته التي انفرطت حلقات دمعها، بمزيج من المباهاة والخوف. ولكي يهدئ حبيبها الشرير من روعها، أكّد لها أنه سيكون بخيرٍ دائماً، وعلى الفور أفشى إليها بسرّه الخطير " أنا من المنظرين إلى يوم الدين، يا أرنبتي الجميلة". لكنها لم تصدق ذلك، فهل تصدق أنت يا مروان؟.. قلتُ له: بالطبع أصدق أيها المرحوم. لكن "دخيلك ألله " احذر أن يتسلّق على دمك بعض المرتزقة، فهُم أكثر من أعمدة الإنارة في محافظة الحُديدة.
يخيّل إليّ أن الملتقى لم يكن جادّاً من أساسه. فالوزير، بفكرة الملتقى، أراد أن يهرُب من مشاكله الجمّة، إلى الأمام. واختيار المشاركين لم يكن خاضعاً لأي أسس علمية أو أكاديمية. وبدا الأمر، في نهايته، كحفلة رقص كبيرة يتقي بها الوزير غائلة الأيام، كما تفعل أسراب الأيل والدببة. هذا الظن الحسن هو ما يفسّر سرور الوزير بعشرات القصائد التي مجّدته باعتباره أبا اللغة وآخر فرسان الذائقة والفن، طبقاً لأقل النصوص إغراقاً في المديح. وربما استشعر الكثيرون هذه المعادلة الرخيصة، فاكتفوا من الملتقى بالتعارُف المنتخب. وبدت علامات الاسترخاء على استعداداتهم للتلقّي أو الإلقاء. فمثلاً، بعد أن فرغ عبد الله ثابت من إلقاء نصّه البديع " الفقراء " سرى في القاعة تصفيق باهت. شيءٌ ما كان لافتاً للأسماع. تصفيق حار من أحد صفوف المقدّمة، حار ومنفعل جدّاً. في اللحظة نفسها أحنى صلاح الدكاك رأسه على كتف عبد الحكيم الفقيه. وبلهجة يغلب عليها الشرود المحض: تُرى ما الذي أدهش هذا الذي يصفق بحرارة ؟ هل تعتقد يا حكيم أنه فهم شيئاً من النص ؟ الفقيه، بخفّة مذهلة، رد على الدكاك: ممم لا أدري، ربما كان المصفق يتيماً، وفهم من النص أنه معني بدرجة ما! بيد أن قليلين ظلّوا متماسكين حتى الرمق الأخير. واحتفظوا بحضورهم الوجداني والذهني مع النصوص عند مستوى الوعي الكامل. التقطت هذه الملاحظة بينما كنت أدرس خيارات الخروج من القاعة أمام الهجمة الشرسة التي نفذها الحارث الشميري في واحد من نصوصه المجاوزة - ربما - للمائتي بيت شعري. ففي تلك اللحظات، وقبلها أيضاً، تناهى إلى صدري صوتٌ مكتوم: آخ يا حارث. قتلتني يا حارث. كان الصوت يرتفع عقب كل بيت يكرره الحارث، كعادته، مرتين وثلاثاً. لم أتعرّف على مصدر الصوت، غير أني رأيت في مصادفة ما شاعراً مهندماً، وردت الإشارة إليه أعلاه، يحكي بصوت مرتفع عن قصيدة الحارث التي قتلته بفتنتها الطاغية. قلتُ لنفسي: أها، إذن فلم يكن الحارث هو الذي فعل القتلة. لقد كان نصّه هو الجاني ممم. وقبل الحارث كان شاعر، لم أتعرف على اسمه، يلقي نصّاً عموديّاً به بعض الجمال المبتكر. وربما كانت بعض جمالات النص هي التي دفعت سعد الجويّر إلى مساررتي، بينما الشاعر لا يزال يهتف بصوته العالي: النص متداخل، أو قل مسروق، من قصيدة للمتنبي. قلتُ للجويّر: أها، أي قصيدة تعني؟ قال لي بثقة: لا أتذكّر، لكن بالتأكيد هناك قصيدة ما!... و إلخ إلخ.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف