هائم في ثلاث متاهات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
اليها وهي تجتذبني للخروج
أ
في أول نيسان يكتبون حياتي في حجرة المصائر ويحتفلون. يقولون في مصادفة غامضة لا نظير لها، صارت له حياة، حياته ُخطأ لشخص آخر، يغريه بآخرةٍ ويمنـّيه بجنـّة العبيد، العبيد يذكـّرونه برعب المسوخ. كيف يعبرهم والمخالب تحيطه من كل مكان؟ ممرات تدور به. كيف ينساها وكل خط في كفـّه جرح؟ جرح البيت، حتى الحارس لم يستطع بفانوسه أن ينير الطريق، لم يفتح له قلعة كان فيها يتلاشى، يمشي دون وميض. من دار إلى دار. من ممر إلى ممر، أتلف أيامه. يهيم في دورة لا رأس لها، يبحث عن مقر أخير ليرى مالا يرون. أتلف أيامه. يهيم في هذا الطريق وفي ذاك. لم يشرب زرقتها. سقط في التيه.استوحش. وبقي في انتظار يسير.
ب
ما الذي يفعلهُ؟ ما الذي يفعله ُعند عويل الأرامل قربه؟ ما الذي يفعلهُ عند شد ّعيونه أمام الوشاة، أشباه الرجال؟ ما الذي يفعله ُعند وضعهِ في حجرة ٍتحت المسدس الحر؟ الموت جاهز. ما الذي يفعله ُعندما يسمعُ موسيقى الجنائز. ما الذي يفعله إذ تحاصرهُ الجدرانُ؟ ما الذي يفعله عند مجيء الأرامل إلى رغبةٍ من قرنفل وجفاف؟ ما الذي يفعله إذ تسأله الأشجارُ عن جذور الشغف المفقود؟ ما الذي يفعله حين لاتصله رسائلُ من الأسوار،من البرق أو الطريق؟
- 1-
هل أبقى بلا فعل أحصي الأسماء؟
- 2-
بلا قيثارة أهبط على الطريق، أنتظر عاصفة من صقور تأخذ السواقي من بداياتها حتى لو أضيّع كل الأشياء.
- 3-
أخرج من المدينة.أهيم ُ. أهيم ُ، أتـّبع ُ قيثارة ضائعة،أدير ظهري للصحراء، صحراء وراء الكلمات. أحصي أفاعيها، أهبط في كتب خفيـّة في كل طيـّة منها، كنت أشم رائحة الجنون الذي قاد لساني إلى دكة المذبحة. أرى في طريقي أشباه رجال قالوا :لم نكن قادرين على الخلاص. كم كرهنا أنفسنا، كم كان الطريق ملتويا الى إنقاذها. كان معنا القطيع يتيه، بغال محملة، يا للعذاب قالوا... وقالوا.....
-4-
كرهت الأيام، اقفلت الأبواب، ورميت مكتبتي الى النار، كرهت الأشياء والناس، المعارك والطواغيت، السجون والمسرح، الممثلين والمداحين، القريب والصديق، يا لعذاب التكرار.
- 5-
أية حياة، أي فقدان هذا؟ متى ينزل المجانين من على ظهر السماء؟ أخرج إلى شرفتي وانظر إليها، هل أصعد إلى مجرة أخرى؟ أجد قيثارتي، أجد لها كلمة، بين زغب أشقر ينتشرُ في كل مكان ٍمن جسمها يتلمسُ طريقه، ينسجُ اوتاره بين أدغالها. هائم يختطفُ الثمرة ويبحر في زورقها الرشيق، يرفع شراعه هي لا تسهم على الإمساك به. لكل غيمة تخترقها الصارية ُرغبة ٌ وأحلام، غرقى وجنون، في زورقها يرى أمله الوحيد ينتظر عاصفة تهب على النهر. البلور ساق. البريق عيون. الكف فخاخ للطير. المرجان شفتان.الريح نسيان طرق في موجة زرقاء.أصابع السماء تمسك ريشه وهو يطير. الهدهدُ وهمٌ، فخ لتضليل العشاق قبل الانباءات التالية :
-6-
لم أهمل ِ النظرَ إلى موجتي لهذا فكرت ْ به طويلاً وفاجأتني بالكلام.
-7-
قلبي يقوى على التحليق، صقر جائع ينهش كبد الغيب .
-8-
في كل ليل ٍأسمع لحنها، أطوي الأشرعة، وأندفع في أعماقها، أعماقها ظلام، لأشرب الصوت.
-9-
قيثــارتي وأنغامها في مجرة أخرى، فلماذا لا أنثر روحي على الكون. وأهيم من أين إلى أين.
ج
يقف في الطريق أمام مدينة الشك فوق غيومها يرى نجوما صارخة، بلا أمل يقف طويلا أمام لهيبها، يملي أحلامه على نافذة في شوارع اللغة، يصاحبه أحد الهائمين، يشك بتأملاته، يشك بالفرق بين حشائش المستنقع وحشائش الفضاء، يشك بضوء الزيتونة، يشك بوعوده ليمام الظهيرة، يشك بكلمات عن غربان تتمشى في منازل القمر، يشك بعربات تحمل تفاح الحرية. في مجرة ما يرى جثثا مدفونة في الغيوم، قبورها عالية. وغابتها مقفلة، فمن أين يدخلها؟ ربما هناك طريق ثالث. أين؟
-10-
جاءت عاصفة سوداء على قيثارتي، لم تكن أوتارها مستسلمة للذبح.
-11-
أصابعي تمطر، تمطر دما،دما على لهب النار.نار لفرق الموت .بأمل عنيد، أعزف، أعزف، لشهب الشك حتى تخمد النار، تبرد، تبرد فأختفي هائما وراءها.
د
في الطريق إلى حانة الضباب،إلى حانة الصحو، إلى فتيان القلعة، محو هناك، لا طريق في الميدان، لا طريق له، لا طريق لقيثارة ضائعة، سوى العناكب التي تمتص ضياء الكلام،لا طريق للشاطئ الذي يمسك نجمته، لا طريق لقمر في دمه،سيبقى في طريقه حتى يسقط التمثال الخفي.لا طريق لأينه، عين عليه أشباه الرجال. هم يعلمون ذلك. لذلك سيبني قرية في كأس الجنون ويرى أوتار قيثارته تعزف لفتيان يخرجون من نهر الغرّاف إلى الصحراء.
هـ
له رياح تمحو الضباب من على المرآة، يلبس قناعا، فيلبسه الطريق إلى صبيته،إلى حانته، إلى صحوته حتى يغوص في انهار القلعة، هو والقيثارة والريح. لبقاء ينسجم مع رياحه كان خروجه، يهيم، يكسر أصناما يموت تحت طينها المرضى. ينادي لتوحيد القرى، لتوحيد الصور. ينادي لهدم حواجز الحراس،فأسه يتقارب من لمعان الأمل. يسمي الأيام منفى. يسمي الدموع نجوما ً صارخة، يسمي البلاد غابة من سخام . يبقى في حالته، يصل حتى حافة الندم، في سرير الخوف، يشبث أظفاره في ظهر العدم. يجتاز مدينته إلى مدينة أخرى، تحاصره بأحلام من نحاس، يعزف أغنية البقاء في هذا السرير في جوف قلبه. هل يبقى في حالته من طريق الى طريق، يتعارض مع كلام عن الينابيع بين الحروب، يتعارض مع كلام عن مرمى الاختيار، مع كلام عن بقايا امرأة عبدة، يجتاز خراب المدينتين، يخيب عيون الطريق الى منفى الكلام. يحلم مع قيثارته برياح، ليرى اكتمال القمر، القمر نفسه.
و
في طريقه الى مدينة أخرسها زحفٌ كبير، كانت المرأة في قلبه والذهول في حياته. حكاية سوداء تقود ُعنقه إلى حفرة في وادي السلام، تجره إلى أنياب تنهشه، أصواتها تشق ّ ُللحياة انهارا من دماء، تتشظى المدينة، تتناثر أقدامها واذرعها وعيونها وأحشاؤها وعظامها، تتحول إلى كلمات، إلى خيول تهرب مع الهاربين. آنذاك عزف كلامه، وأغمض عينيه على قيثارة تلمع، قيثارة من ملح، لغة من حناجر مختنقة. وقال: ها هي حياتي معزوفة للتيه، معزوفة للموجة الشاملة، معزوفة لحليب الأرض، معزوفة ضد الزحف الكبير، ضد القطيع التائه، معزوفة لملح السماء الذي لم يفسد ولم يخرس، معزوفة لعاصفة سوداء.
-12-
علّقتُ الأوتار واختفيتُ لا تراني عيون الأشباح. كم أنا بعيد في الطريق الذي منه تنظرُ إليّ الوردة؟ صرخت : ماذا هل تبقى حياتي تندب ُ ريحاً وتنتظر ُنهرا؟خرجتُ وحفرتُ رأيتُ ينابيعها. اصطحبتُ الأوتار وظهرتُ. في المقهى رأيتُ الكراسي تتحدثُ عن الندى بإشارات غامضة، عن وردة وحيدة في عالمي. الكراسي تتحدث ُعن الهائم وهو يسلي فؤاد الأرملة بقيثارته. الكراسي تتحدث عن الوعود التي ليس لها لهب سوى الموت، ولان الأرملة في هذا العالم لم تكن هناك، الكراسي تجلس فوق الرؤوس وتهذي عن الأسى الشاهق وتجاعيد الحلم الذي يعانق العميان.في المقهى أظهر ُوأختفي، ألتزم ُالصمت وأتظاهرُ بالعبث، لان عيون الأشباه تنسج خيوط المكيدة من جمر ٍوأيد من نار، جبهة من حديد وإخطبوط سؤال. عدتُ علقتُ الأوتار واختفيتُ، فاختفتِ القيثارة. هل تسمعني؟ قلت : إني أتحدث لأولئك الذين يسمعون قيثارتي عندما أطير من نافذة البرج. في أسفلِ الحافات، في أولِ الليل، وفي اشد الساعات ظلمة، تأتيني أنفاسها، حشد ٌ من خيول مغيرة على شاطئ النوم وتملي علي ّ: ستدخل ممراً ضيقاً، لترى انك تعزف لأرنب من الرمل مذعوراً فاجأته بالبرق، أنت تحتضن قلباً، وتخفي كتابا له، ستدخل شارعاً ضيقاً، تكثر فيه النساء اللواتي، فقدن أزواجهن في النار الأخيرة، نار أكلت أشجارهن صعدت إلى أهداب الأرق، وتعلقت كآبة صفراء في وجه يهيم في متاهاته الثلاث، حياته، واللغة، والحياة. سأدخل شرفةً في العمارة الأخيرة لأرى تحته نساء النبع بلا لهاث، بلا طيّة أنام على الشاطئ، حولي تدب الزواحف ُ، العناكبُ حبـّاتُ مطر تحت أوراق التين، تعششُ وتبيـّن لي مظلات الانتظار طرقا للرعب،طرقا للنساء اللواتي فقدن ورودهن في ساحة الميدان. هنا يكون الموت مقتصرا على الهائمين الذين نسوا خيولهم وقيثـاراتهم على ساحل النوم.
ز
يهبط من مخبئه على جناحه قيثارة. يدخلُ ينثر أحلامه على الورق بذورا بيضاء وبذورا أخرى، يستبدل ُبعد أن يشقَّ صدرَك، يستبدل القلبَ بالفانوس، يخيطه ويشيرُ إلى الحكاية الملتحمة بحليب الأرض وهي تهذب الندم، تذللُ الصدمات في وجه الورق النازف وكان يقالُ قديماً إنه من نسل السماء وقد عنيت الهائم. الهائم ملاك. الملاك خيالي الذي يصير حجرا، يصير نهرا، يصير شجرا، يصير حفيفا يملي علي ّ كلماته الجديدة، هو يعزف، يعزف ما يهمس: في منتصف الليل،في أعلى الحافات، كان يعرفُ إنه يدوزن أوتاره كان يعزف، لا أحد يرى أبواب متاهاته الثلاث. لثلاث، حياتي ولغتي والحياة. حياتي عاصفة سوداء. لغتي قيثارتي. الحياة حفرة في وادي الخراب. الخراب أشباه الرجال. الرجال عبيد في جنـّة المسوخ. هل يفلت من فخاخها. ما من جدار يبرهن على بيته. متاهات نسج مستقبلها مكر الطريق. بلا معنى لا شكل لها. طريق تشعبت مسالكها وصبتِ فيها المصادفات وحل ماضيها. ما من احد يصل حتى يهرب من رعبها. لا أحد يقبض على روحه في مدينة الفقدان، فقدان البراءة والزمن. من يمسك برق الحياة، يلوي عنق النهر ليدرك سر النبع؟ كل شيء هنا تحاصره الحبال، حبال كثيرة لا رأس لها ولا ذيل. هي قبضة رمل تتسرب بين أصابعه.هي عفطة عنز مصيرها رذاذ في الهواء تنتظر النزول. هي جناح بعوضة تنتظر الطيران. فيها ليل طويل أنتـنته الحروب. فيها ممالك غارقة بدم أبنائها. أخرج إلى شرفتي وانظر إليها، لا وصل السماء ولا انفصالها. أضاعت نفسها وطوت سجل الأمل. لا عناية من احد ولا احد يعتني. لا سواد الأبدية ولا بياض الزوال يخلـّصه منهن، تاه، سقط في فخاخها وتشرد في الوديان وما وصل هو الهائم الذي اشترك مع العميان بكتاب واحد كلهم كتبوه. ما من أحد كتب هذا المصير ولم يقض عليه الزمن.