القصيدة وهواجسُها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
هناك شعراءُ الشعرُ، بالنسبةِ إليهم، وسيلةُ تعبيرٍ لا غير. وبما أن الموضوعَ الذي يستخدمون الشعرَ وسيلةً للتعبير عنه سيئٌ، فإنّ أيةَّ قصيدةٍ مهما كانت براعتُها الوزنية، اللفظية والإيقاعية، تبقى سيئةً عاجزةً عن الذهاب أبعدَ من مضمونِها الذي جاءت لخدمتِه... ها هي، في أزمنة المعنى الخوالي، مجرد رمز لبَطالة الكلمات. القصيدةُ هذه يأسرها الذوق العام، إكراه الحقبة التي ترتعد من كل شعر ترى فيه نهايتها المحتومة.
شعراً، اللغة العربية ميدان لهذا الشعر - وسيلة التعبير حيث مقدارُ ضيق أفق شاعرٍ ما يكون على مقدارِ ما في القراء، الذين يتغنى بهم، من آفاق ضيقة. بعض هذا الشعر، ربما، ناريٌّ، لكنه لا يضرم نار الرؤية، وإنما يحترق فيه الشاعر نهائيا.
الشعر، تركيبة الإنسان، تختلط فيه الأجناس كُلاً يحافظ فيه إلى الأبد على نواته الكوسموبوليتية. إنه فعلٌ لغويٌّ، ولأنه "شكل من أشكال ترائي اللغة"، كما شخصه تسيلان عن حق، فتصميم كل قول شعري يضمن للتعبير إقامة كونية. وبما إنه كلام موجه إلى لا أحد، إلى قارئ مستقبلاً، فإنه دائماً في مكان ما:
في قبلة
في صرخة طفل
في لافتة
أو في شارع خلفي
إذ يكفي أن يأتيَ الليل
فتنهض كلمةٌ
رجلٌ ينام
امرأة تغادر فراشها
والعالَمُ قصيدةٌ
الشعرُ قَدَرٌ. مكانٌ يلتقي فيه الممكن والمحتمل. لا يمكن لأحدٍ اختيار الشعر. كلُّ شخصٍ له سيرتُه/ سيرورتُه الداخلية؛ لغتُه/كينونتُه الحقيقية التي لا تتجلى إلا كإشارات غريبة في حديثه/ معيوشه اليومي. شيطانُ الشاعر تاريخُه. أما ذاك الذي لايدرك الحَيْرةَ التي فيه؛ وزنَ طبيعته؛ قولَه،فإنّ الشعر لا يمكن أن يكون قدره، ربما النظم، الأرجوزة، لكن ليس الشعر؛ مبدأ اللغة الأعلى.
كتابة قصيدة واحدةشعورٌ بوجودٍ لكلمات وليدة... علامة ضرورية.
فالشعريمرّ بالمخاض الإنساني ذاتِه.. فما إنْ تُكتَب القصيدةُ، حتى يشعر الكلامُ ببشريته!
اللغة هذه التي ليس الشعر سوى"فرصتها المحتمّة"، لا تَخدعُ كائنا بوعود ولا حتى بوعود حريةٍ... وحتى عندما تبدو وكأنهادالُ إشكالية اجتماعية ومدلولها، فإنها،ملتاثَة التعبير غيرَ قادرة على الافصاح، ترتقي بنا إلى فعل التأمل، فنفكر في ذاتنا... وها هو دور القراءة الصعبة: الانزياح من التعبير عن المحنة إلى محنة التعبير: استنطاق ذاكرة الشاعر واستنفار حواسه من أجل دراك حاسته السادسة.ولأن القصيدة علامة ارتيابها الكلي، تبقى اللغة صامدةً أمام كل خسران... تشقّ طريقها عبر افتقارها للأجوبة، عبر صمت رهيب وسط آلاف الظلمات من الجمل المميتة. لا تقول ما يحدث، ومع هذا تجتاز الطريقَ ثريةً بكل ما جرى. لا أحد بريء في علاقاته بها.فالجميع ينثر مفرداتها عراء الصفحة عل تاريخ الواقع كله وخاصة ماضيهم، ينجلي، كصورة على مرآة.
الشعر،آت من تلقاء نفسه،يبدأ دوما.. من أي مكان؛ من اللامكان.شهقةَ الإنسان المرصودة، الشعرُ لا يلبث إلا في قواه الأولية: الكلمات... في الأثر وليسَ في الدليل. الأصل في نهاية الطريق:
خذني أيها الجانب الآخر
إلى شجرة البيت
إلى ماضي الكلام
إلى هذا الذي يُقاسمني
صمت المكان
إلى حيث تشاء الأقدام
أيها الجانب الآخر
لا أحد يملك مجدين
لكل فناؤه في أواخر النهار
اِنحتْني في الضوء؛
نهوضي اليومي من النوم
حتى لا تُصاب لُغتي بالدوار.
***
أريد أن أصعدَ إلى عالِيَةِ الكلام
أنْ أتمدّدَ في الظل
أنْ أضع جُملةً في فمي
أنْ أمضغَها
أنْ أشعُرَ في شدّةِ التيار
باطمئنان الحال
ما لي و"اللسان المبين"
أُريدُ أنْ تكونَ لي لغةٌ مهجّنةٌ
يَبرقُ منها انخطافٌ
يعودُ بي إلى يومٍ
قررتُ فيه
أنْ أكونَ شاعرا بلا دليل
قصيدتُه آلةٌ لتضبيط الزمان
أُريدُ أنْ أصعدَ الآنَ
أن أصعدَ وأصعد كلَّ الأنهار
إلى ثالثِ الضفاف
أن أكونَ الآخرَ
أن أبقى
في الأثر.
موضوع ذو صلة: