جريمة يوكو في العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"كان" يعرض لـ"جريمة" يوكو في العراق
ويحكي عن عنف الظلم والعبودية والتمييز العنصري
من صلاح هاشم موفد "ايلاف" الي مهرجان "كان": وتتوالي مظاهر العنف في افلام المهرجان، وتتزايد جرعاتها بمرور الايام والعروض، و كما رأينا في الفيلم الكردي"الكيلومتر صفر" لهينر سليم، الذي حكينا عنه في رسالتنا السابقة، لكنها تأخذ هنا اشكالا متعددة، وتنتقل من صور الحرب العراقية الايرانية في الفيلم المذكور، الي الشارع الياباني في فيلم "باشينج" للياباني كوباياشي ماساهيرو، الذي يحكي عن "يوكو"
تعود يوكو الي وطنها، الي بلاد "الشمس المشرقة"! فاذا بها تقابل بسيل من الاهانات والشتائم والتهديدات عبر الهاتف، وسحابات من غيوم وضباب، وتفصل في المشهد الاول من الفيلم من عملها كعاملة تنظيف في احدي الفنادق، وحين تتوجه الى احد المحلات،عند عودتها على دراجتها الى بيتها حيث تعيش في غرفة صغيرة مع والدها العامل في احدي المصانع وزوجته، كي تشتري طعام لعشائها، اذا بها حين تغادر المحل، تتعرض لاعتداء من بعض الشباب الياباني العاطل، بعد ان ان كانت الصحف اليابانية، شهرت باسيرتنا، وعرفت العالم كله بقصتها، واثارت غضب وكراهية اليابانيين علي فعلتها، والكل يريد ان يفش فيها غله وغضبه وكراهيته، لانها ارتكبت" جريمة" في حق الوطن، بلاد الشمس المشرقة، أو هكذا كان يطلق علي اليابان، عندما كنا صغارا في المدارس، الا انك لن تجد بصيصًا من هذه الشمس المشرقة ابدا في تلك الجزيرة السوداوية الكئيبة في الفيلم، بشوارعها الخاوية واهلها، الذين صاروا اشبه مايكونوا ب" الروبوت " في ذلك العالم الصناعي البغيض الذي يقتل الروح في اليابان..
كانت جريمة يوكو في
كانت جريمة يوكو المشاركة، والتضامن مع شعب العراق، والتفاعل مع احداث ومشاكل عصرها وزمنها، خارج حدود بلدها، ولذلك استحقت لعنة اليابانيين وسخطهم، وصارت اللعنات تطارد يوكو اينما حلت، وتفسد عليها حياتها في بلاد" الشمس المشرقة"، وليس هناك في هذه البلاد " الانانية " المتخلفة، ليس هناك امام يوكو غير هذا الضباب الذي يغلف المدينة والبحر، ولم تعد الحياة بسبب ذلك العدوان والعنف تطاق، بعد ان طردت من عملها، وصار وجودها في اي مكان يجلب العار والدمار لاصحابه، حتي ان والد يوكو يضطر في مشهد جد مؤثر في الفيلم، يضطر للركوع ولاول مرة بعد خدمة ثلاثين عاما امام مدير المصنع الذي يشتغل به، كي يطلب منه ان يبقيه في عمله، بعدما طلب منه المدير ان يسارع بتقديم استقالته، وكان قبلها تلقي ايضا العديد من الاهانات والشكاوي، ولم يجد مايفعله سوي طرد الاب، بل ان حتي حبيب يوكو، راح يعاتبها ايضا على " جريمتها " بذهابها الى العراق، وعدم اهتمامها في المحل الاول بالشأن الياباني، وقبل ان تترك نفسها نهبا، في مابعد، للهم الانساني، والخدمات الانسانية..
وتزداد جرعات العنف المدني والاجتماعي الذي تواجهه يوكو، حيث يعتدي عليها كما رأينا في الطريق العام وينتحر الاب بعد ان قدم استقالته، ويهجرها خطيبها، وتصبح يوكو مثل كلب اجرب غريب، يكاد العنف الذي يمارس ضده، يحيله الي كائن هلامي بلا هوية من عدم، لا من لحم ودم، وبالطبع نتعاطف في الفيلم كثيرامع يوكو وناسف لحالها،وحال كل الاسرى اليابانيين، ويكون هذا الفيلم الطبيعي البسيط من دون زخارف او محسنات فيلمية بديعية، او مؤثرات خاصة، للابهار واسنعراض العضلات الاخراجية، يكون دلف بموضوعه الى افئدتنا، ومس فيها وترا حساسا، ولذلك نعتبره، على الرغم من بساطته ومباشريته، واعتماده في نسج فصته الخيالية على احداث حقيقية، تتبدي عبر مجموعة من المشاهد المؤثرة التي تكشف عن مأساة يوكو، وتدين جهل وبرودة اليابانيين، وجبنهم وتخلفهم وانانيتهم، وعلى الرغم من استسلام يوكو في نهاية الفيلم لكل تلك الضغوطات الاجتماعية التي تعرضت لها، و بكل مافيها من عنف وبغض وعدوانية، وقرارها بمغادرة وطنها والعودة الى عمان، ومنها الي العراق، عن طريق السفر جوا الى موسكو..
نعتبره من اقوي الافلام السياسية الانسانية التي عرضها المهرجان في دورته 58، حيث يطرح مشكلة الاسري في العراق بشكل غير مباشر، ويصدمنا بمعاملة اليابانيين لاسراهم، في مقابل التعبئة الفرنسية والاوروبية الشاملة للمطالبة باطلاق سراحهم، كما يكشف، من دون مراوغة او تحايل على التنظير، يكشف عن حساسية فنية انسانية عالية، ويهيب بنا من دون وعظ أوأرشاد زاعق، ان نتمرد علي الواقع مثل يوكو، ونخرج علي القطيع، ونرتبط اكثر، ومهما كانت التضحيات، نرتبط بمشاكل عصرنا ومجتمعاتنا الانسانية تحت الشمس، ونقف ضد العدوان علي الشعوب والقمع والظلم..
غير ان هذا العنف الذي بدا لنا السمة الاساسية في افلام المهرجان، اذا به يتكثف اكثر واكثر عبر الافلام الاخري التي شاهدناها ضمن افلام المسابقة الرسمية، واذا به يتفجر بالدم في وجوهنا، ويتوغل اكثر، مثل نصل خنجر حاد في افلام اكثر عنفا ودموية واثارة..
مثلا في فيلم "الخفي" للنمساوي مايكل هانكه بطولة جولييت بينوش ودانيال اوتوي، والذي نعتبره من اقوي الافلام المرشحة للحصول على سعفة المهرجان الذهبية، ضمن عدة افلام اخري، سنحكي لكم عنها في مابعد، يخرج " العربي " مجيد سكينا حادا كان يخفيه خلف ظهره، ثم ينحر نفسه مثل شاة في لقطة من الفيلم، وتصعقنا المفاجأة المباغتة، فنشهق من الرعب. ويناقش الفيلم، ضمن مايناقش، عقدة الذنب التي يستشعرها بعض الفرنسيين تجاه الجزائريين، ويعتبر بمثابة "غسيل ضمير" لهؤلاء، تجاه سكان المستعمرات الفرنسية القديمة، والجرائم، ومن ضمنها التعذيب، التي ارتكبت بحقهم..
وفي فيلم " انتخاب " لجوني تو من هونج كونج، الذي يحكي عن انتخاب زعيم من زعماء المافيا الصينية، وغادرنا القاعة بعد ربع ساعة من بداية الفيلم في " كان "واعتبرناه " كارثة " فنية محلية، وما كان لها ان تعرض ابدا في ذلك المهرجان الكبير، يقوم افراد العصابة بوضع شخصين في قفص من خشب، مثل اقفاص الحيوانات المتوحشة، ثم يدفعانهما من فوق قمة تل عال مثل جبل، ويمكنك ان تتخيل ما وقع لهما حين وصلا الي السفح..
وفي حين يعرض فيلم " ماندرلي " للدانماركي لارس فون ترايير
يعرض فيلم " عندما تولد لاتستطيع الاختباء " للايطالي ماركو توليو، يعرض لقضية المهاجرين في البحر من رومانيا الي ايطاليا وهم من كل لون وشكل وملة، ويحكي عن اوضاعهم وعذاباتهم، والمصير الاسود الذي ينتظرهم: الوقوع ضحايا لعصابات المافيا، والسقوط في عالم الدعارة، واحتراف السرقة والجريمة المنظمة..
ثم ان هذا العنف الذي وجدناه السمة الاساسية لافلام المسابقة، يتحول الي " كابوس " مخيف، في فيلم حقامخيف ، ونعتبره من احسن الافلام التي شاهدناها و حبست انفاسنا، وعبرت عن " الافتتان بالعنف " اكثر من اي فيلم آخر في المسابقة، كما بينت الي اي حد يمكن ان يكون هذاالعنف موضوعا لفيلم تقليدي شائق وملهم ومثير، ونرشحه ايضا للحصول أكيد علي جائزة، ان لم تكن السعفة الذهبية في المهرجان، الا وهو فيلم " تاريخ العنف " للكندي دافيد كروتتبيرغ، الذي اعجبنا به كثيرا..
يتبع..