تاركوفسكي.. رحلة إلى عالمه الداخلي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"نوستالجيا أو الحنين إلى الوطن"
ترجمها عن الروسية: علـي كامـل
ـ
".. كان تاركوفسكي أشبه بمعجزة.. أحسست فيه بمن يشجعني ويحثـني, بمن يعبّر عما كنت أريد أن أقوله دائمـاً، ولكن من دون أن أعرف كيف أقوله.. تاركوفسكي، بالنسبة لي، هو الأعظم.. لقد إبتدع لغـة جديـدة.." (بيرغمان)
باخمـان:وددت في البدء أن أسمع إنطباعاتك عن العمل في الخارج..
تاركوفسكي: فيلم "الحنين" هو أول فيلم وبداية أول تماس لي بطقوس العمل في الخارج. إن عملية تصوير فيلم هو أمر عسير في كل مكان بلا شك، لكنني أظن أن الصعوبات يمكن أن تتغير. أصعب مأزق هنا في الغرب، وعلى الدوام، هو شحة التكاليف المالية لإنتاج فيلم، كذلك ضيق الوقت. الجانب المالي، على وجه الخصوص، يضع عراقيل كثيرة في طريق إنتاج العمل الإبداعي. وبسبب شحة التكاليف المالية وعدم كفايتها في تغطية العمل الفني، تبرز معضلة عدم كفاية الوقت. كلما صوّرتَ كثيراً، كلما زادت الكلفة. المـال هنا في الغرب، يلعب دور المستبد. في بلادنا لم أفكر مطلقاً في شيء إسمه الكلفة!. حين وجّهت شركة التلفزيون الإيطالية دعوة لي لتصوير فيلم في إيطاليا، كانت متعاونة معي، ولكن في كل الأحوال، كانت الميزانية المرصودة لإنتاج الفيلم تكاد تكون شحيحة. فضلاً عن ذلك، لم تكن لديّ أية خبرة مسبقة للعمل خارج البلاد. كل ماكنت أملكه، هو موافقتي على العمل فقط.
إن تصوير فيلم، هو عملية عسيرة وشاقة في كل مكان، بغض النظر عن الظروف. لقد إقتنعت أن ثمة تبعية إقتصادية مباشرة هنا في الغرب، وإذا ما سادت هذه التبعية، فإنها ستكون ذات نتائج خطيرة على مستقبل السينما وشكلها الفني.
باخمـان : إن فكرة النزاع العنيف بين الإنسان والعالم المحيط به، تشكل محتوى أفلامك الخمس، التي أخرجتها خلال مايقارب العشرين عاماً. فهل تتجلى هذه الفكرة أيضاً في فيلم "الحنين"؟
تاركوفسكي : على العموم، وكما يبدو في النتيجة، فإن النزاع دائماً هو أقوى من الإنسان. الأبطال الرئيسيون يكاد يكونوا غالباً، هم الناس الضعفاء، أولئك الذين يتفجر الجبروت من ضعفهم. النزاع بين الإنسان والمجتمع قائم على الدوام بين مزايا هذا الإنسان ومحيطه. بمعنى، أن ثمة علاقات متناحرة تسود بينهما بإستمرار، تلك التي نسميها "النزاع". وفي حالة غياب تلك العلاقات المتناحرة فلا وجود، في هذه الحال، لشيء إسمه النزاع . إنني أشعر بمتعة هائلة في العمل مع أبطال كهؤلاء، تكون علاقاتهم بالمجتمع وإرتباطاتهم به، هي الصفة المميزة لهذا النزاع. إنهم يعيشون في هذه الظروف العاصفة، المحيطة بواقعهم، وبناء على كل ذلك، يبرز لديهم النزاع مع محيطهم. بودّي دائماً أن أرصد، وبإستمرار، على أي نحو يحسم هؤلاء البشر نزاعاتهم. هل سيرضخون، أم سيظلوا أوفياء لمبادئهم وقيمهم.
باخمـان: هل لك أن تحدثنا عن كيفية ظهور فكرة فيلم "الحنين".
تاركوفسكي: لقد قمت برحلات وجولات إلى إيطاليا، وفي عام 1980 عزمت أن أعمل فيلماً، سوية وصديقي الكاتب والشاعر والسيناريست الإيطالي تونينو غوييرا****.
في هذا الفيلم، أردت أن أوظف مجمل إنطباعاتي عن تلك الرحلات، لهذا الفيلم . البطل الرئيسي "غورتشاكوف " الذي لعب دوره أوليغ يانكوفسكي، هو مثقف روسي يسافر في مهمة إلى إيطاليا، وتسمية الفيلم جاءت من كلمة " نوستالجيا " أي، الحنين. وهذه الكلمة لاتعني بالضبط، الشوق إلى ذلك العالم الذي يقف بعيداً عنا، والذي لم نستطع أن نتوحد فيه، وإنما تعني أيضاً، ذلك الشوق إلى الوطن الأم، إلى منزل الطفولة النائي، إلى إنتمائنا الروحي.
لقد أجرينا تطورات جوهرية على الحدث ولمرات عديدة في مرحلة كتابة السيناريو وفي مرحلة التصوير. أردت أن أعبّر في هذا الفيلم، عن إستحالة العيش في عالم منفصل.
غورتشاكوف، أستاذ تأريخ ذي شهرة عالمية ومعرفة بتأريخ الآثار الإيطالية، تتاح له ولأول مرة، إمكانية مشاهدة الأبنية المعمارية والآثار الإيطالية، تلك التي أصبح خبيراً بها من خلال الصور الفوتوغرافية والرسوم فقط. إلا أنه، وبعد وقت قصير من وصوله إلى إيطاليا، بدأ يدرك إستحالة أن يكون الإنسان وسيطاً أو مترجماً أو مختصاً بالإنتاج الفني، مالم يكن هو نفسه جزءاً من هذه الثقافة التي أبدعت وخلقت هذا الإنتاج الفني .
إن هدف رحلته إلى إيطاليا، على وجه الخصوص، هو العثور على أثر لأحد الموسيقين الروس القليلي الشهرة، والذي عاش في القرن الثامن عشر، وهو قن سابق تابع إلى كونت روسي، كان قد بعثه إلى إيطاليا ليتعلم هناك موسيقى البلاط . لقد درس ذلك القن في الكونسيرفاتور " معهد عال للموسيقى " عند جان بلتيستي مارتيني، وأصبح في ما بعد موسيقاراً شهيراً، وعاش في إيطاليا حراً طليقاً . إن أحد المشاهد الهامة في الفيلم، هو المشهد الذي يُطلع فيه غورتشاكوف مرشدته الشابة، والتي تنحدر من أصل سلافي، على الرسالة التي كتبها ذلك الموسيقار وبعث بها إلى روسيا، وفيها يعبّر عن شوقه وحنينه إلى الوطن . قال الجميع في ما بعد، أن ذلك الموسيقار عاد إلى روسيا، لكنه أصبح مدمناً على الكحول ومات منتحراً.
هذا الإحساس فجّر لديه شعوراً بالحزن، خاصة حين أدرك أن ليس بإستطاعته نسيان تلك الإنطباعات، وإستحالة إستنتاج شيء جديد من المعارف التي حصل عليها في إيطاليا. لقد أصبحت هذه الحالة تزيد وتضاعف من وجعه الروحي.
الحنين، يتضمن في وعي غورتشاكوف، عدم قدرة أصدقائه وأقربائه، أن يشاطرونه إنطباعاته، وهذا ماجعل بقاؤه في إيطاليا معذباً، لكن ذلك في نفس الوقت، أيقظ فيه ضرورة البحث عن صلة قربى بالروح، تلك الروح التي سوف تشاطره معاناته.
فيلم "الحنين" هو نوع من الجدل حول طبيعة الحنين، أو عن طبيعة المعاناة التي تسمى " نوستالجيا " والتي تتضمن معنى أوسع من مفهوم " الإكتئاب ".
إن هذا الإنسان الروسي غورتشاكوف بمقدوره أن ينفصل ويفترق، بعناد كبير، عن أصدقائه أو معارفه الجدد، ولكن شوقه إلى إيطاليا صار جزءاً مكوّناً لذلك الإحساس الذي لديه، والذي هو الحنين .
باخمان:كيف تجسّدت في الفيلم روح القربى تلك، التي كان يبحث عنها غورتشاكوف؟
تاركوفسكي:لقد حاول غورتشاكوف أن يكشف عن إنطباعاته في أول لقاء له مع أحد الإيطاليين، وهو معلم رياضيات اسمه دومينيكو "لعب الدور الممثل السويدي أورلند جوزيفسن" والذي يعتبره أهالي المدينة الصغيرة الواقعة في توسكانيا، رجـلاً مجنوناً. دومينيكو هذا كان قد إحتجز عائلته في منزل منعزل لقرابة سبع سنوات، مهدداً أياهم بحلول نهاية العالم. هذا المجنون الصغير، الحالم الغامض، أصبح كما لو أنه شريك لغورتشاكوف. لقد كان دومينيكو واعياً لأحاسيسه وشكوكه، وكان يعي أيضاً أقصى حالات القلق الروحي لغورتشاكوف، بل كان مدركاً لكيفية تضخم ذلك القلق!. دومينيكو كان يبحث بإستمرار عن مغزى للحياة، ذلك المغزى الذي يكمن في مفهوم الحرية والجنون. من جانب آخر، كان يمتلك إحساساً طفولياً، وعاطفية غير مألوفة، وتلك صفات لاتوجد لدى غورتشاكوف.
إن صدقه الطفولي في معاشرة العالم المحيط به، يذكرنا بصدق ويقين الطفولة. دومينيكو، كانت تشغله فكرة إنجاز طقس ما، وهو أن يحمل بيده شمعة مضيئة ويسير في حوض ماء ساخن، في حمـّام روماني قديم وضخم يقع في قلب ريف توسكانيا. وقد حاول غورتشاكوف القيام بذلك في وقت متأخر جداً بدلاً عنه، أما دومينيكو فقد كان يعتقد بأن المعضلة بحاجة إلى فعل أكبر، إلى وجوب تقديم تضحية أكبر. وهكذا سافر إلى العاصمة روما، وإعتلى تمثال الأمبراطور" ماركوس أفريلي " الفيلسوف الوحيد الذي جلس على عرش روما، والذي كان يدعو الناس ألى التكافل والتفاهم المشترك، ومن هناك ألقى خطبته المؤثرة وسط جمع من المجانين، عن محنة البشر وعدم قدرتهم على التوحد، ومن بعد صّب الزيت على جسده وأحرق نفسه، منجزاً ذلك الطقس بإيمان هادىء في الخلاص.
باخمان:هل ثمة ميزات محددة لدى أبطالك الرئيسيين، تجعلك تقارن بينهم؟
تاركوفسكي:دعنا نقول هكذا، إن أكثر ميزة أعشقها في الناس، هي الثبات الذي يمتزج بالجنون والعناد، في محاولات للوصول إلى صفاء أكبر، هذا العناد الذي ينبغي أن يوصف بالأمل .
باخمان:ألا تجد أن العلاقة التي تربط بين بطلين، هي حصيلة لأحاسيسك الذاتية؟
تاركوفسكي : غورتشاكوف ينظر إلى دومينيكو المجنون على أنه شخصية متماسكة ومنطقية. دومينيكو كان يؤمن في كل ما يفعل، في حين كان ينقص غورتشاكوف ذلك الإيمان، لهذا تجده مشدوداً إلى دومينيكو. وهكذا، وبفضل تطور علاقتهما، أصبح دومينيكو شريكه الذهني . إن أشد الناس قوة في الحياة، هم أولئك الذين نجحوا في أن يحفظوا الصدق الطفولي والثبات الوجداني في أرواحهم حتى النهاية.
باخمان:من الواضح أن لديك أسساً ما إعتمدت عليها في تصوير فيلم كهذا، حيث يبرز وبجلاء، مغزى الإنعتاق من التوتر الداخلي؟
تاركوفسكي:الجوهري عندي، هو أن أظهر للناس وبإستمرار عظمة وقدسية المعاشرة. حين ينزوي الإنسان في ركنه، فإنه يحيا فقط لذاته، وما الهدوء الذي يغزو كيانه إلا محظ خداع. فقط، حين يرتبط إثنان في تماس ما، عندئذ تبرز مشكلة ما إلى السطح: كيف يمكن تعميق هذا الإرتباط ؟إن فيلمي يعالج أولاً، وقبل كل شيء، طبيعة النزاع بين شكلين من الحضارة، أسلوبين مختلفين للحياة، نمطين مختلفين للتفكير. كما يتحدث هذا الفيلم ثانياً، عن تلك العقبات التي تبرز في العلاقات بين البشر، ومثال على ذلك، العلاقة التي تنشأ بين غورتشاكوف ومرشدته الشابة، والتي تكاد تكون قصة حب غير مكتملة، بسبب أن قيام علاقة حب بينهما هو أمر مستحيل. لقد أردت أن أظهر تلك الإستحالة في قيام علاقة أو صعوبتها مع " الآخر "، بسبب أنك لاتعرف عنه سوى القليل!. من السهل إقامة علاقة بين إثنين، إلا أن الصعوبة تكمن في جدلية فهم أحدهما للآخر. إذا كانت هذه الفكرة قد عولجت تحت تأثير وجهة نظر كهذه، فهذا يعني أن الفيلم أظهر إستحالة توريد وتصدير الثقافة أيضاً!. نحن في بلادنا نبالغ حين نعتقد إننا نعرف " دانتي " أو " بيترارك "، لأن هذا شيء غير صحيح.
الإيطاليون يرتكبون الخطأ نفسه، حين يظنوا أنهم يعرفون " بوشكين ". فإذا إفترضنا إن مسألة " المعرفة " هذه، هي مسألة غير جوهرية، فهذا يعني أنه لاتوجد إطلاقاً، إمكانية لنقل ثقافة شعب إلى ثقافة شعب آخر. إن عذابات غورتشاكوف تبدأ فقط، حين يصبح لديه يقين تام بإستحالة قيام علاقات حقيقية بين الناس، لذا نجده يقوم في البحث عن شريكه الذهني دومينيكو، الذي يعاني من حالة فصام داخلي، والذي يضحي بحياته من أجل البحث عن الخلاص. الجميع ينظر إلى دومينيكو على أنه مجنون، وربما هذا هو الواقع. إلا إن أسباب جنونه، أحاسيسه وردود أفعاله، كلها مألوفة وطبيعية تماماً بالنسبة لغورتشاكوف. لقد بدت لنا شخصية دومينيكو، خصوصاً في أوقات التصوير، قوية ومحسوسة جداً، وقد جسّد قلق غورتشاكوف بوضوح تام، وجسد أيضاً، إستحالة قيام علاقات حقيقية بين الناس. لقد إستطاع دومينيكو، وعلى درجة محددة، أن يعبر عن "الخوف" الذي نشعر به جميعاً، والذي نحن مكرهون على أن نحياه. الخوف الذي نقع تحت هيمنته، ونحن بإنتظار زمن مقبل آخر. الجميع قلقون حول المستقبل، وفيلمنا يتحدث عن هذا القلق وعن "لامبالاتنا". إنه دعوة إلى السعي لتطوير مسلكنا الإعتيادي. ومع ذلك، وعلى الرغم من كل قلقنا هذا، فإننا لم نصنع شيئاً، وما أنجزناه هو قليل جداً، ويلزمنا أن نتابع العمل أكثر.
باخمان:هل تشاطر أنت شخصياً، آراء دومينيكو عن العالم ومنهجه في التفكير؟
تاركوفسكي:الجوهري في شخصية دومينيكو ليست آراؤه عن العالم، والتي كلفته تلك التضحية، بل ذلك الأسلوب الذي إختاره في حل النزاع الداخلي . لذا فإنني لا أقيم إعتباراً خاصاً لنقطة الإنطلاق التي إبتدأ منها النزاع . المهم بالنسبة لي هو أنني أردت ان افهم كيف تولد لديه إحتجاجه هذا، وكيف إستطاع أن يعبّرعنه.
إن كل أساليب الإحتجاج التي يريد الإنسان التعبير بها، هي على غاية كبيرة من الأهمية.
باخمان: هل تعتبر جاذبية أفكارك لجمهور واسع، مسألة هامة بالنسبة لك؟
تاركوفسكي:أنا لاأؤمن بوجود شكل فني محدد لفيلم يستطيع أن يفهمه الجميع. أردت أن أقول، أنه لايمكن تصوير فيلم كهذا. وفي كل الأحوال، فإن فيلماً كهذا في إعتقادي، لايعتبر عملاً إبداعياً. العمل الإبداعي لايمكن أن يُستوعب دون أن يترك في إثره إحتجاجاً.
إن أفلام مخرج مثل سبيلبيرغ ***** مثلاً تجلب جمهوراً واسعاً وتدر أموالاً خيالية، لكن سبيلبيرغ نفسه ليس فناناً، وأفلامه ليست أعمالاً إبداعية. لو قدّر لي أن أعمل أفلاماً كهذه، عن أشياء لا أؤمن بها، فإنني سأموت من الرعب حتماً. الفن أشبه بجبل، تعلوه قمة، وفي أسفله يمتد سهل فسيح. إن الذي يقف في أعلى القمة لايمكن أن يفهمه الجميع.
أنا لاتشغلني ولا تقلقني كثيراً مسألة الجمهور. لكن، هل يعني هذا أنني أستخف بإدراكه؟ أنا لا أفترض أن الجمهور هو جمع من الأغبياء، ثم أنني واثق بأنه لاوجود لمنتج سينمائي واحد في العالم لديه الإستعداد أن يوظف خمسة عشر كوبيكاً لأفلامي، فيما إذا أوعدته بتصوير روائع فنية. إنني، و ببساطة، أوظف في كل فيلم، كل طاقاتي وإلتزاماتي، وأظن أنني وبطريقتي الخاصة، إستطعت أن أجتذب إنتباه الجمهور، من دون أن أغيّر من مبادئي.
أنا لست ذلك النموذج الذهني الذي يتبخر في الهواء، ولست من سكنة كوكب آخر. على العكس من ذلك، إنني أحس بإرتباط حميم يشدني إلى الأرض وإلى الناس.
بإختصار، إنني لا أريد أن أبدو أكثر أو أقل من ذلك المثقف الذي فيَّ.
إنني أقف على رصيف واحد حيث يقف المتفرج، لكن، لديّ وظيفة أخرى. والمهمات التي لديّ مختلفة عن تلك التي لدى المتفرج. والشيء المهم لديّ، هو ليس أن أصبح مفهوماً من قبل الجميع. إذا كان الفيلم هو أحد الأشكال الفنية، وأنا واثق أننا متفقون على ذلك، فهذا يستلزم منا أن لا ننسى، أن الإنتاج الفني لايمكن إعتباره سلعة إستهلاكية، بل على العكس، إنه ذلك الحد الأقصى من الإبداع، الذي يتم فيه التعبير عن الغايات المثلى المتباينة لعصرنا.
الإنتاج الفني، هو الذي يقوم بتشكيل الغايات المثلى للزمن الذي نحيا فيه. ومن غير الممكن إطلاقاً، أن يبلغ الجميع تلك الغايات بيسر. إن بلوغها أو محاولة الإقتراب منها، يستدعي من الإنسان أن ينضج ويتنور روحياً في الأقل. وإذا كانت العلاقات الجدلية بين المستوى الروحي للأنسان ومثـاله، تلك التي يعبّر عنها الفن، هي علاقات زائلة، فهذا يعني أن الفن قد فقد جوهر وظيفته. إننا في أحيان كثيرة، للأسف الشديد، نضطر إلى الإعتقاد، بأن الأفلام ينبغي أن تبلغ مستوى التسلية المحضة. إنني أُثمّن عالياً أفلام مخرجين أمثال " دوفشينكو، آلميسا، بريسون "، نظراً لميزاتها البسيطة والزهيدة، كما أُقيّم فيها أيضاً أمانتها. إذا أراد صانع الفيلم أن يوصل أفكاره إلى المتفرج، فينبغي عليه أن يثق بجمهوره. عندذاك وجب عليه أن يقف وأياه على رصيف واحد. أما أن ُتكره الجمهور على إستيعاب فيلمك، فهذا فعل تافه تماماً، حتى وإن كان موضوع الفيلم يتحدث عن شيء ما معروف للجميع. من الضروري جداً أن يؤخذ التقـبّل الجمالي للمتفرج بنظر الإعتبا. أما الركض خلف الذائقة الإستهلاكية للمتفرج، فهو أمر غير مسموح به على الإطلاق.
"الخاص".
إنني أبحث عن شكل كهذا، ينطلق من الحالة المطابقة للواقع والوضع الروحي للأنسان. بمعنى، أنه ينطلق من تلك العوامل التي يظهر تأثيرها على الإنسان. وهذه هي الشروط الأولى للتعبير عن الحقيقة السيكولوجية.
باخمان:هل إن منطق الذات، هو "الحدث" ذاته في الفيلم؟
تاركوفسكي:ثمة سؤال يُطرح عليّ بإستمرار وهو، ماذا تعني تلك الأشياء والحاجيات الشخصية اليومية، اللوازم الصغيرة، وغيرها، التي أستخدمها في أفلامي؟ هذا السؤال يثير فزعي حقاً. الفنان غير ملزم إطلاقاً في الإجابة عن مقاصده, وأفلامي لاتتمخض عن إدراكات أو معان ما.. أنا لا أعرف كيف يفسرون رموزي. الشيء الوحيد الذي أسعى إليه، هو إيقاظ المشاعر والأفكار إزاء الحياة التي نحياها، أياً كانت، ومحاولة دفعها نحو المحبة والحنان في عالمكم الداخلي. في أفلامي، هناك على الدوام، محاولة للعثور على أسرار للفكرة. من الصعب تصوير فيلم ومحاولة إخفاء فكرته، وأفلامي لاتعني أي شيء سوى الشيء الذي تحتويه. لكن، في بعض الأحيان، يستحيل سبر أغوار ما إستطعنا أن نعّبر عنه، والكشف عن أبعاده البسيطة.
باخمان:في أفلامك، غالباً ما تستخدم "الرحلة" كمجاز. وهذا مايمكن أن نجده متجلياً في فيلم "الحنين" أكثر من أي فيلم آخر من أفلامك. هل تأملت نفسك كرحّال؟
تاركوفسكي:يوجد نوع واحد فقط من الرحلات.. إنها الرحلة إلى العالم الداخلي.
أنا لست من أولئك الذين يؤمنون بأن كل رحلة تنتهي دائماً بالعودة. لايمكن للإنسان على الإطلاق، أن يعود إلى نقطة الإنطلاق، ذلك أنه في غضون هذه الفترة، يكون قد تغيّر هو نفسه. وطبيعي، أن من المستحيل الهرب من النفس ذاتها. إنه ذلك الشيء الذي نحمله في ذواتنا، منزلنا الروحي، الذي هو مثل السلحفاة وصدفتها. الرحلات عبر العالم كله، ماهي سوى أسفار رمزية. وأينما وجدت نفسك، فإنك سوف تستأنف رحلة البحث عن روحك.
باخمان:من أجل البحث عن الروح، ينبغي على الإنسان أن يمتلك إيماناً قوياً بروحه. يبدو لي بأن الجميع، اليوم، مرهونين بشروط خارجة عنهم، بتلك الأفكار التي تظهر في الخارج.
تاركوفسكي:نعم، أنا أيضاً لدي هذا الإحساس. إن البشرية قد كفت عن الإيمان بنفسها. أردت القول، ليس البشرية نفسها، بل كل فرد على حدة. حين أتأمل إنساننا المعاصر، أجده مثل منشد في جوقة، يفتح فمه ويغلقه على إيقاع الأغنية، لكنه، هو نفسه، لايطلق صوتاً. الآخرون كلهم يغنّون، أما هو فإنه يحاكي الأغنية، مؤمناً فحسب، أن الآخرين يغنّون!. في حالة كهذه، لم يعد هو ذاته، مؤمناً بمغزى أفعاله. إن الإنسان المعاصر اليوم، يحيا دون أمل تماماً، دون إيمان في أنه يستطيع، عبر أفعاله، التأثير على المجتمع الذي يعيش فيه.
باخمان:إذاً، في وضع كهذا وفي عالم كهذا، أي مغزى يمكن أن يقدمه الفيلم؟
تاركوفسكي:المغزى الحقيقي للحياة ينحصر، في السعي المطلوب من أجل إغناء أنفسنا روحياً، في أن نتغير ونصبح أناساً آخرين غير الذي كنا عليه بعد ولادتنا. إذا إستطعنا بلوغ هذا، في الزمن الفاصل بين الموت والميلاد، مع إن هذا صعب وفرص النجاح فيه ضئيلة، نكون حينها قد قدمنا فائدة ما إلى الأنسانية.
باخمان:هل تعتقد أن مفهوم " الزمن " اليوم، هو آلة قياس للتعبيرعن إدراك الوجود؟
تاركوفسكي:أنا مقتنع أن الزمن لايعتبر مقولة موضوعية. لاوجود للزمن بدون إدراك الإنسان له. نحن لا نعيش اللحظة، وهذه اللحظة قصيرة وقريبة من الصفر، ولكن لا يمكن إعتبارها صفراً، لسبب واحد هو، أنه لاتوجد لدينا، ببساطة، إمكانية لإدراك هذا.
إن الأسلوب الحقيقي لإجتياز هذه اللحظة، هو فقط حين نسقط في الهاوية. نحن نحتل موقعاً كهذا يقع بين اللحظة، الحياة، المستقبل، النهاية. لذا فإن الحنين هو ليس إشتياقاً إلى زمن ماض. الحنين، هو إحساس بالشوق إلى حيز من الزمن ولىّ عبثاً، بسبب أننا لم نستطع الإعتماد على قوانا الروحية، وبسبب من أننا لم نسعى إلى تنظيم هذه القوى، لكي تنجز واجبها.
فيلموغرافيا أندريه تاركوفسكي. راجع الجزء الأول للموضوع:
** أجرى هذه المقابلة، الصحفي السويدي جيديون باخمان، ونشرتها المجلة السينمائية السويدية "شابلن". كانت بداية لقاء باخمان بتاركوفسكي عام 1962 وهو العام الذي تسّلم فيه تاركوفسكي جائزة "السعفة الذهبية" عن فيلمه "طفولة إيفان". وقد تابع هذا الصحفي مسيرة العشرين عاماً من عمل المخرج، تلك التي شكلت رحلة تاركوفسكي الإبداعية، من خلال مشاهدة أفلامه ولقاءاته معه في المهرجانات السينمائية. سافر باخمان عام 1982 إلى روما، في الوقت الذي كان تاركوفسكي هناك يقوم بالتهيئة والتحضيرات لفيلمه " الحنين "، وقد لازمه باخمان طوال فترة التصوير، وهناك أجرى معه هذا اللقاء.
*** فيلم " الحنين " 1983
( الفيلم مهدى إلى ذكرى والدته )
سيناريو: أندريه تاركوفسكي، تونينو غوييرا
تصوير: جوسب لانتشي
تصميم المناظر والديكورات: أندريا كريزانتي
تصميم الملابس: لينا نيرلي تافياني
موسيقى: ديبوسي، فيردي، فاغنر
تمثيل: أولغ يانكوفسكي ( غورتشاكوف )، دوميزيانا جوردانو ( يوجينيا )، أرلند جوزيفسن ( دومينيكو )، باتريسيا تيرينو ( زوجة غورتشاكوف ).
اخراج: أندريه تاركوفسكي
انتاج: القناه الثانية للتلفزيون الإيطالي RAI ... مدة الفيلم 130 دقيقة.
**** تونينو غوييرا، هو أحد أهم كتاب السيناريو في السينما الإيطالية. شارك غوييرا تاركوفسكي في كتابة سيناريو " الحنين ".( راجع الجزء الأول من الموضوع )
***** ستيفن سبيلبيرغ، مخرج سينمائي أمريكي، إشتهر بأفلام الخيال العلمي والفنتازيا.
أشهر أفلامه:
فيلم " الفك " المقتبس عن رواية ميلفل " موبي دك " عام 1975
فيلم " المنطقة المعتمة ـ السينما " عام 1983.
فيلم " إمبراطور الشمس " عام1987.
فيلم " المصيدة " عام 1991 .
فيلم " قائمة سكندلير" عام 1993.
فيلمه الشهير " المنتزه الجوراسي " 1993 وهو من أفلام الخيال العلمي، والذي يتمحور موضوعه حول إثارة الرعب من خلال الغوص في عالم الديناصورات، وقد حقق الفيلم أرباحاً خيالية وقياسية ( 200 مليون دولار في ثلاث أسابيع عرض! ).
Amistade عام 1999
Saving Private Ryne عام 1998
Minority Report عام 2002
Catch me if you can عام 2002 ( كوميدي )
The Terminal عام 2004
Revenge 2005
( الجدير بالملاحظة أن تاركوفسكي كان يتحدث عن سبيلبيرغ قبل فترة صعوده السريع سلالم هوليود... )