نجيب محفوظ وبداية الحكي الجميل!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
- 1 -
ترجع علاقتي بنجيب محفوظ إلى سنوات طفولتي الأولى، حين كنت أستبدل رواياته المتعددة، واحدة تلو الأخرى، عند بائع الزريعة السوداء، أي بائع حبات عباد الشمس، وكنت ألتهمها التهاما كليا، جعلني أعيش عزلة سواء بين أقراني أو حتى داخل بيت عائلتي، كنت أنفرد بإحدى هذه الروايات وأعيش معها لحظات متوهجة بظلال الحكايات الجذابة التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، ولم يكن أي روائي آخر يستطيع في ذلك الحين أن ينقلني إلى مثل تلك الأجواء التي كان نجيب محفوظ يأخذني إليها، حتى وأنا لا أدري كنه فلسفته المنغرسة في ثناياها، ما كان يهمني منها، على الأقل في ذلك الوقت الطفولي الخلاب هو سحرها، هو عملية نقلها للواقع العربي بفنية تكاد تجعل من خيالات نجيب محفوظ وقائع لا يأتيها الباطل من أي جهة كيفما كان نوعها. من هنا توطدت علاقتي هاته بهذا الكاتب العالمي الكبير، إذ بالرغم من انغماسي في التهام كل ما تقع عليه يدي من كتب، كانت لكتبه مرتبة خاصة عندي، لعل السبب في ذلك يعود إلى أنه أول كاتب عربي أعرفه معرفة جيدة، إذ إن باقي الكتاب الذين كنت أقرأ لهم أو على الأصح، أقرأهم، كانوا أجانب، كانوا بعيدين عني، وإن كنت أقرأهم منقولين إلى اللغة العربية، إذ كانت الترجمة اللبنانية لأمهات الروايات العالمية إلى اللغة العربية تغزو العالم العربي ومن بينه المغرب العربي، في سنوات طفولتي، كما أن السير الشعبية والتي شدتني إليها، لم يكن لها مؤلف معلوم.
- 2 -
تمضي السنوات ويكبر الطفل ويتعلق تعلقا كبيرا بنجيب محفوظ، تعلقا كاد أن يؤثر على باقي اهتماماته الأخرى من لعب وسفر ومشاداة مع أقرانه، لولا انتباه أفراد عائلته إلى هذا التعلق الغريب بالكتب، فحاولوا أن يبعدوه عنها ولو مرة في الأسبوع ويأخذونه معهم في نزهة بعد أن يحرصوا تمام الحرص على أن يحولوا بينه وبين حمل أي كتاب من كتبه اللعينة معه، حتى يجد الوقت الكافي لعملية استجمامه المرجوة، إلا أن ما كان يحدث في الغالب، هو أن الطفل كان لا يحمل معه أي كتاب فعلا، إذ ان حروف الكتاب تكون قد رسخت في صدره، بعد أن قرأه مرارا وتكرارا، فيحاول أن يعيد كتابته انطلاقا مما علق بذهنه من أحداث، فتكون هذه النزهة فرصة لا تعوض لبدء المحاولة والذهاب بها، بعيدا نحو حدها الأقصى، الذي قد يتمثل في خلق حكاية جديدة لا تمت إلى مصدر الحكاية الأصلية إلا بخيوط واهية، كخيوط العنكبوت، أو مجرد إعادة للحكاية التي قد سبقت قراءتها، ولكن بأسلوب شخصي لا يمت إلى أسلوب نجيب محفوظ بأية صلة، سوى محاولة الاستعانة ببعض مفرداته الجميلة التي تكون قد تسربت إلى ذاكرة الطفل بلا وعي منه.
- 3 -
مع نجيب محفوظ إذن، وربما انطلاقا منه أساسا، أصبح الشاب مولعا بالأدب العربي تحديدا، لقد كان الشاب متفوقا في المواد العلمية لاسيما الرياضيات (ما زال الشاب يحتفظ بأوراق نتائجه لمن يشك في الأمر) إلى درجة أن أستاذ هذه المادة قد غضب منه أشد الغضب، حين علم باختياره لشعبة الآداب على شعبة العلوم، وأنه قد وصل به الأمر إلى اتهامه بالطوباوية، انطلاقا من هذا الاختيار. إلا أن السفن، سفن هذا الشاب، قد كانت تريد أن تجري، وقد جرت فعلا، بما لا تشتهيه رياح هذا الأستاذ الغيور على مستقبل تلامذته، فسارت في اتجاه غير مأمون، مليء بالأشواك، لكنه جميل، مغر، مثير حتى أقصى درجات الإغراء، هذا الإغراء الذي دفع بالشاب إلى الإمساك بالقلم وتركه حرا، يفعل بجسد الورقة البيضاء ما يريد.ولعله في هذا الوقت بالذات، بدأت المسيرة الحقيقية لهذا القلم حتى وإن كانت وما زالت لم تبدأ بالشكل المبتغى بعد. إذ إن كل ما يخطه قلم الإنسان في يومه، لا يرضى عنه في غده. هل هذه سنة الحياة، أم أن رغبة مجنونة تسكن في قلب هذا القلم وتدفع به بعيدا، نحو مغامرة لا تقنع إلا بما هو فوق النجوم على حد تعبير شاعر العربية العظيـم أبي الطيب المتنبي ؟ لا أستطيع جوابا، كل ما أستطيع البوح به، هو أن وجود هذه الرغبة إن كان وجودا حقيقيا سيكون من أهم دواعي سروري، وأهم دوافع استمـراري في عملية الكتابة.
- 4 -
إن كتابة نجيب محفوظ، قد شكلت البداية الحقيقية للفن الروائي، فرغم عظمة رواية ldquo;زينبrdquo; لمحمد حسين هيكل، ورغم كتابات طه حسين وتوفيق الحكيم الروائية، الرائدة، ما في ذلك شك، يبقى النص الروائي المحفوظي، هو منطلق شعلة هذا الفن الذي أصبح بلا أدنى ريب، ديوان العرب الجديد، فانطلاقـا من الثلاثيـة الخالدة، ومرورا بـ ldquo;ثرثرة فوق النيلrdquo; وrdquo;أولاد حارتناrdquo; ووصولا إلى ldquo;الحرافيشrdquo; وrdquo;أفراح القبةrdquo; وأخيرا ldquo;أصداء السيرة الذاتيةrdquo; برهن نجيب محفوظ على إخلاصه المستميت لفن الرواية، وتشبثه اللايهاضى بها. هناك أيضا مسألة أخرى قد استطاع نجيب محفوظ أن يحققها، وهي لا تتحقق إلا مع كبار الأدباء في كل العصور، تلك المسألة هي القدرة العبقرية الجامعة بين السمو الفني الكبير وتحقيق اللذة النصية الشاملة لكي متلقي أدبه، بحيث يستطيع حتى القارئ العادي الاستمتاع بهذا الأدب، وتذوقه بل والهوس به. لقد صدق رولان بارت حين أعلن:rdquo;كلما كان هناك مزيد من الثقافة، كلما كانت اللذة أكبر وأكثر تنوعاrdquo;.
إن ثقافة نجيب محفوظ لا يستطيع أحد أن يجادل في سعتها وعمقها وتنوعها، بين الفلسفة والاجتماع والأدب شعرا ونثرا وموسيقىhellip;
إن هذا الأديب، قد ترك بصماته الواضحة في الأدب العربي، بصمات قوية لا يمكن لأحد أن يشك في قيمتها أو يشكك فيها، مهما تشابكت الأمور وتعقدت، وبالرغم من أن أجيال الروائيين الذين توافدوا من بعده، قد استطاعوا، أو على الأصح، قد استطاع بعضهم أن يحقق لهذا الفن الروائي، إنجازات كبيرة، استطاعت أن تخترق مكتبات العالم بأسره، وأن تفرض نفسها على جمهورها المتعطش لهذا الأدب المختلف، إلا أنه يبقى لنجيب محفوظ فضل تعبيد الطريق وفتح الفرص أمامه، إن على مستوى العالم العربي، أو حتى على المستوى العالمي قاطبة.
- 5 -
جائزة نوبل التي حصل عليها كانت مفيدة له بقدر ما كانت مفيدة للأدب العربي، إذ إن هذا الفوز حرك الاهتمام بهذا الأدب، ودفع دور النشر العالمية إلى محاولة نقله إلى لغاتها، ونشره على أوسع نطاق، بالرغم من أن عملية الترجمة إلى اللغات الأخرى (الفرنسية والإنجليزية تحديدا ) قد كانت معروفة، إذ ان جل أعمال توفيق الحكيم ومحمود تيمور، قد تمت ترجمتها إلى تلك اللغات، إلا أن ذلك كان يحصل بشكل محتشم وتطوعي. لكن الآن بدأت الترجمة تأخذ أبعادا أخرى، أصبح الأدب العربي يأخذ مكانه الحقيقي بين الآداب الناضجة الأخرى، وينتزع الاعتراف الصريح بأهميته وغناه وتنوعه اللايهاضى.
- 6 -
لقد استطاع نجيب محفوظ أن ينتزع اعتراف النقاد العرب الأوائل - الذين ابتدأ حياته الأدبية في عصرهم - بعد السكوت عن إنجازاته طويلا وعدم الاهتمام بها، بل ملاقاتها باللامبالاة، لكن هذا التجاهل وهذا الصمت علمه أن زمنه آت في مستقبل الأيام، مع بروز الأجيال الجديدة التي حتما ستشعر بأهمية أعماله وتعانقها بفرح لا نهائي، وهكذا كان. فلقد ألف غالي شكري، وهو آنذاك ما يزال شابا يخترق ميدان النقد الأدبي، كتابه ldquo;المنتميrdquo; وكرسه بأكمله للحديث عن التجربة المحفوظية في المجال الروائي، كما توالت دراسات أخرى تشيد بأعماله الأدبية وتدعو للترحيب بها، وإعطائها ما تستحقه من عناية. وهكذا قدم الزمن نفسه اعتذاراته إليه (hellip;).
نحيل هنا إلى الدراسة القيمة التي كتبها الأستاذ محمد برادة، الجامعة بين الحوار والتعقيب والتحليل واستشراف آفاق الكتابة المحفوظية بشكل خاص والكتابة العربية الجديدة بشكل عام، والحاملة لهذا العنوان الجميل ldquo;نجيب محفوظ: معه وعنهrdquo; كما نشيد بالملف الخصب الذي قدمته مجلة ldquo;آفاقrdquo; التي يصدرها اتحاد كتاب المغرب، عن هذا الروائي الكبير، والذي حمل عنوانا له:rdquo;نجيب محفوظ والرواية العربيةrdquo;، هذا الملف الذي خلف أصداء إيجابية كبرى في مختلف بقاع العالم العربي. وأصبح منذ لحظة ولادته مرجعا أساسيا في دراسة تجربة نجيب محفوظ الروائية، لا يمكن الاستغناء عنه أبدا.
حقيقة، لقد كان نجيب محفوظ الأب الرمزي لي في فن الحكي.هل أقول له شكرا .نعم أقولها و بالفم المليان.
مستل من "هكذا تكلم أورفيوس"؛ كتاب قيد التشكل يتحدث فيه الكاتب نورالدين محقق عن علاقته بالكتابة وبالفضاءات التي انبثقت فيها، وببعض الأسماء الإبداعية التي رافقت مسيرته.
- نورالدين محقق
Mhakkak Noureddine-