ما بعد السماء الأخيرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أسامة العيسة من القدس:تسعى المخرجة الفلسطينية علياء ارصغلي من خلال فيلمها الوثائقي (بعد السماء الأخيرة)، لطرح قضايا القرى الفلسطينية التي دمرت عام 1948، وهجر سكانها إلى داخل إسرائيل يحملون جنسيتها ويسكنون بالقرب من منازلهم التي هجروا منها ولكنهم لا يستطيعون العودة اليها أبدا.
وخلال الفيلم ومدته 55 دقيقة، تصحب ارصغلي المشاهد، في رحلة مع بطلتها ناهدة من قرية (كفر برعم) المدمرة، والتي تعيش الان في قرية (الجش) وتروي علاقة جدها بالقرية التي هجر منها وكيف مات وهو يحلم بالعودة اليها، وكيف عاشت العائلة في بيوت مؤقتة على أساس انهم سيعودون بين لحظة وأخرى إلى قريتهم التي أقيمت على أنقاضها مستوطنة يهودية.
وقبل سنوات تلتقي ناهدة المسكونة بقريتها بامراتين يهوديتين في ورشة عمل، وتعرف نفسها بأنها من كفر برعم، وتفاجئ بذلك المرأتين اللتين تعرفان نفسيهما أيضا انهما من كفر برعم.
وترتبط النساء الثلاث بعلاقة صداقة وثيقة، وتتحدث إحدى الصديقتين اليهوديتين التي هاجرت إلى إسرائيل قبل 20 عاما، وسكنت في مستوطنة كفر برعم، كيف أنها لم تكن تعلم عن قصة المهجرين من القرية، وأنها عندما علمت بذلك واستمعت إلى حكايات الأهالي الفلسطينيين بدأت تتغير مفاهيمها حتى تعريفها إلى هويتها التي اخذت تعيد النظر فيها.
وبدأ سكان المستوطنة ينظرون إليها ولصديقتها بعين الريبة ولديهم شكوك بان جماعات ارهابية تقف خلفهما، ولكنهم في النهاية تقبلوا ما تطرحه الاثنتان، على أساس انه رأي شخصي وليس له علاقة باجندة فلسطينية.
وتحدثت إحداهن عن صعوبة تقبلها للحديث مع الفلسطينيين الأعداء في البداية، ولكن العلاقة التي تطورت مع ناهدة جعلتها كما تقول تختبر نفسها في القبول لحلول لم تكن تفكر بها سابقا مثل أن تكون إسرائيل دولة ثنائية القومية عربية-يهودية، بدلا من هويتها الحالية كدولة يهودية.
وأصبحت من خلالها عملها في المستوطنة، كمستقبلة للمستوطنين الجدد، تعرفهم على تاريخ القرية وتخبرهم بحكاية سكانها الفلسطينيين الذين هجروا منها.
وتطرح ناهدة حلا بان تعترف إسرائيل بالمهجرين الفلسطينيين وتقبل بعودتهم إلى القرى المهدمة، واعادة إحياءها من جديد، مع الحفاظ على المستوطنات الموجودة.
وتقول بان 90% من نواة القرى المدمرة لم يتم استخدامها، وان المستوطنات اليهودية أقيمت على أراض مجاورة لها، ومعنى ذلك انه يوجد متسعا للطرفين.
واذا كان الفيلم يظهر رحلة المرأتين اليهوديتين في اكتشاف النفس وحديثهن الصريح بشكل يبدو وكانه مراجعة فكرية او ترف تمارسه مثقفتان جاءتا من الغرب، فان المؤثر فيه هو أحاديث المهجرين من قرية كفر برعم الذين مازالوا يعيشون القرية وتعيشهم، ويقدم أحدهم قصيدة لشجرة التوت التي ولد بجوارها ومازلت موجودة.
وحولت إسرائيل قسما من غابة القرية إلى منتزه وطني، واستغل أهالي القرية المهجرين منها ذلك للعودة لقضاء أوقات فيها عن طريق زيارة هذا المتنزه، واقامة مخيم صيفي سنوي يشارك فيه أهالي القرية من مختلف الأعمار، يستعيدون الذكريات ويجددون عهدهم مع القرية، والحفاظ على المقبرة والكنيسة.
وتختتم المخرجة فيلمها بقصيدة للشاعر محمود درويش، اسمها (تضيقُ بنا الأرض) استوحت منها اسم الفيلم:
"إلى أين نَذهبُ بعد الحدودِ الأخيرةِ
أين تطيرُ العصافيرُ بعد السماءِ الأخيرة
أين تنامُ النباتاتُ بعد الهواءِ الأخير؟"
وعرض هذا الفيلم ضمن فعاليات مهرجان شاشات الثاني في عدة مدن فلسطينية، وعرض لنفس المخرجة فيلما أخر مدته 14 دقيقة اسمه (حبل الغسيل) وهو يشكل رحلة في نفسية امرأة تسكن في شقة مقابلة لمقر ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية الراحل، والمسمى المقاطعة.
ويتناول الفيلم القصير عزلة هذه المرأة ووحدتها خلال اجتياح مدينة رام الله في شهر آذار (مارس) 2002، حيث تعيش يوميا القصف والخوف والذعر في شقة انقطع عنها الماء، واحتل الجنود الإسرائيليون البناية المجاورة للبناية التي تسكن فيها، وحولوها إلى نقطة عسكرية يتم منها قنص المواطنين في الشوارع.
وتتحول شقة المرأة إلى عالم معزول وعار من أي سند اجتماعي، شقة ذات اباجورات مغلقة اختلط فيها النهار والليل، والنوم واليقظة، والواقع والخيال، في جو رعد وقصف وبرق وقلق مستمر.
ويبقى الغسيل الذي غسلته المرأة قبل الاجتياح شاهدا على ما يجري في الخارج، بينما ليس لديها قدرة إلا على التخيل، من خلال الأصوات والأضواء، حول ماذا يجري هناك، خارج الشقة.
ويصور هذا الفيلم حياة ثماني نساء فلسطينيات من خلفيات دينية واجتماعية مختلفة، وكيف يعشن ظروف الحرب، ويطمحن إلى السلام، في ظل واقع فظيع من المعاناة والآلام التي تعصف بحياتهن.
والنساء التي يتحدث عنهم الفيلم، نساء عاديات يعملن في الإعلام والمسرح والزراعة وطالبة جامعية وأخرى ثانوية وربات بيوت، حياتهم تصنع الأخبار، مع أن الأخبار تهمشهن.
وتتحدث هؤلاء النساء بمرارة ولوعة وغضب ومساءلة، فهن يرين أن حياتهن مفعمة بالكرامة، إلا أن الحرب اختصرتها في الماسي والمخاوف والصدمات، فهن يتكلمن عن خسارة فادحة في رزقهن وأرضهن ومنازلهن وموت أحبائهن وضياع راحة بالهن وأهدافهن.
ويظهر الفيلم أن ما يعبرن عنه بقوة وعمق هو إصرارهن على حياة ذات معنى، فيها مشاركة وعطاء وطقوس وعظمة الحياة اليومية العادية، وليس حياة الحرب المهينة المرعبة.
وتم عرض هذا الفيلم، الذي حاز على جوائز في اكثر من خمسين مهرجانا دوليا من بينها مهرجان ميونخ الدولي للأفلام الوثائقية، ومهرجان اوبرهاوزن الدولي، ومهرجانات قرطاجة والإسماعيلية والرباط، وفي مسابقة الفيلم العربي في باريس، ومهرجانات ملبورن وساو باولو وجاكرتا وميلان، ونسالويكي وسبليت وغيرها.
وعلياء ارصغلي، مخرجة ومنتجة أفلام وثائقية، وباحثة وناقدة سينمائية، تحمل شهادة الدكتوراه في علم اجتماع الثقافة.