خبز المدينة (3)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
واصلت لقاء سالم كل مساء. اللحظات التي كنت تقضيها بمفردك اثناء فترة الغروب عند اطراف الغابة وجدت شريكا يقضيها معك. جاء في اليوم التالي ضاحكا مستبشرا:
- امروني اليوم ان اقف على ساق واحدة لمدة ساعة كاملة، فغافلتهم ووقفت لمدة ساعتين.
- لا ادري متى ينتهي مسلسل المهانة والادلال.
افرحك وجود سالم بجوارك ليقينك بان وجوده معك في هذا المكان كان ضروريا لعافيتك النفسية، كما ان وجودك مفيد لعافيته وصحته. كلاكما يعين الاخر على تحمل هذا العناء، ويجد قريبا منه انسانا لا يتحرج في ان ينقل اليه هذه الشحنات الانفعالية الغاضبة التي تضغط على القفص الصدري، ويطرح امامه اسئلة تخنق الحلق، ليس فقط عن معنى وجودكما في هذا المكان، ولكن ايضا عن معنى الحياة ذاتها.
رآك تسأل عن جدوى هذه الحياة، فالقى امامك بسؤاله الحائر، باعتبارك اكبر منه سنا واكثر علما، لماذا اختار الله بلادنا دون بقيةالبلدان لابتلائها بهذه الحلقات المستمرة المتواصلة من حكم الغزاة، منذ فجر التاريخ والغزو يتلوه غزو آخر دون هدنة صغيرة. لاشك ان الله حق، فلماذا يرضى بهذا الظلم، ولماذا لا يستجيب للدعاء الذي ترسله القلوب من اعماقها، قلوب هؤلاء البسطاء الانقياء من اباء وامهات يسألون في كل صلاة ان يرفع سخطه وغضبه عنهم، ويبعد هؤلاء القوم الظالمين عن طريقهم، وينجيهم من شرهم، فيعيشون هانئين آمنين راضين بما كتبه لهم من رزقه، ويعبدونه بقلوب خاشعة مؤمنة متفانية في حبه وتقواه، ثم ينامون في انتظار شروق رحمته، فلا يجدون في اليوم التالي الا مزيدا من الظلم والعذاب والقهر." فقل لي بالله عليك اين يذهب كل هذا الدعاء؟"
انه سؤال طالما طرحته انت ايضا على نفسك، حتى وانت تقرأ كل صباح تسابيحك واورادك، باحثا عن جدوى هذه التسابيح، الا انك هنا في هذا الموقف، وامام هذا الفتى الذي يثق في علمك، ويؤمن بانك تملك الاجابات على الاسئلة الحائرة التي تدور في ذهنه، لابد ان تقول شيئا غير الوقوف الحائر امام الاسئلة الحائرة. لابد ان تسعى للعثور على تفسير يرضيه، آملا ان يرضيك انت ايضا.
- كيف يصرفهم عنا، ويستجيب لدعائنا فيهم وهم جزء من ارادته.
وتجده ينظر اليك بعينين تملأهما الحيرة، فتحاول ان تصل معه الى رأي اكثر وضوحا:
- اليس الشيطان رمزا لكل شر في الدنيا؟ فهل نستطيع ان نسأل الله ان يهلك هذا الشيطان؟ واذا سألناه ان يهلكه فهل سيستجيب لنا؟ انه لن يفعل لان ارادته شاءت منذ الازل، ان تكون الحياة الدنيا صراعا بين الخير والشر، ولابد من وجود العنصرين كضرورة لوجود الحياة واستمرارها، فانت لا تستطيع ان تقول ان الزلازل والبراكين والفيضانات والاوبئة والامراض التي تفتك بالبشر ليست جزءا من الارادة الالهية.
لن يستطيع سالم ان يذهب معك اكثر من ذلك خوف الضلال، ولذلك فهو بطريقته الساخرة يجد معبرا نحو الموضوع:
- الزلزال لا يدوم اكثر من دقيقة او بضع دقيقة، والفيضانات تاتي يوما وتمضي، والطاعون قد يدوم اسبوعا او شهرا، يحصد أي منهم ما شاء من الارواح ويمضي، اما البلاء الاخير الذي ابتلانا به الله وهو الاستعمار الايطالي، فعمره الان اكثر من ربع قرن ولا يزداد الا قوة وعنفا، حاربناه حتى هلك نصف اهلنا، كما حاربنا قبله اعاجم آخرين لا حصر لهم، دون فائدة، فهل ترانا سنجد هذه الفائدة عندما نذهب ونحارب تحت راية المحتل، كما نفعل الان، بدل ان نحاربه؟
سمعت صوت البوق يأذن بوجبة الطعام التي يعقبها النوم ويأمر بانتهاء هذه الفسحة، فلم تشأ ان تترك الحديث معلقا عند هذه النقطة. قلت تواسيه وتواسي نفسك:
- لقد هجا العلماء والففهاء هذه الحياة الفانية، وما وجودنا في هذا المكان الا هجاء عملي لهذه الحياة.
احلت الموضوع الى حياة اخرى علها تكون اكثر عدلا وانصافا، وما مجيئك الى هذا المعسكر وانضمامك الى جيش عازم على الذهاب الى الحرب في مجاهل القارة الافريقية الا تعجيل بلقاء هذا المصير، او هكذا اردت تبرير مجيئك الاختياري لهذا المعسكر.
هاهو العنبر يحتويك كجوف الحوت الذي احتوى النبي يونس. مظلما، رطبا، ساخنا، كريه الرائحة، ويونس في بطن الحوت، لا يحيا ولا يموت، كما يقول النص الديني. فليكن لك في هذه الدنيا المثل والقدوة. نعم، نعم، وسواء جئت الى عالم البق والقمل والبراغيث بارادتك، او بارادة عليا تسوق البشر الفانين الى مصيرهم المحتوم، فانت الان هنا. هذا هو عالمك الذي لا عالم لك سواه، فلماذا تتكلم كثيرا عن رغبتك في تحقيق الاندماج معه، دون ان تفعل شيئا لتحقيق هذه الرغبة، لماذا تبقى ساخطا متدمرا، كان السخط والتدمر سيضع حلا لمحنتك؟ انك تختلف عن الاخرين الذين جاءوا الى هنا مسحوبين بالسلاسل، تنغرس في ظهورهم سناكي البنادق. الايطاليون ايضا يعتبرونك انسانا مختلفا، وتحظى بتقدير خاص لديهم، فهم يقدرون عاليا حقيقة انك جئت اليهم باختيارك واقتناعك، فلتكن على مستوى هذا التقدير، ولتبدأ مسيرة الاندماج مع روح المكان، وبذل اقصى ما تستطيع من جهد للانتماء اليه. ولتكن منذ هذه اللحظة جزءا اصيلا من مؤسسة الرعب والموت التي يمثلها هذا المعسكر.
هاهو عراك ينشب في عنبرك بين احد المجندين وبين المشرف على العنبر، وهاهو الشاويش عنتر ياتي ومعه احدالحراس لتطبيق اللائحة التي تأمر بضر ب المتمرد على النظام ثلاثين جلدة على قدميه. يطلب الشاويش باثنين يمسكان المذنب لكي يتمكن الحارس من تنفيذ العقوبة، فتتقدم لتكون واحدا من الاثنين اللذين يمسكان به، ويبدأ الحارس في الجلد، الا انه حارس بليد، خامل، لا يجيد استخدام السوط، الى حد انه اثناء احدى الضربات رفع السوط عاليا حتى ضرب به وجه رئيسه الشاويش عنتر الذي افتك منه السوط وضربه به فوق ظهره ثم اراد ان يباشر بنفسه تنفيذ العقوبة، فوجدتها فرصة لان تتقدم وتعرض عليه خدماتك، ترجوه ان يسمح لك بان تتولى انت المهمة. تأخذ منه السوط، وتكمل ضرب زميلك، قائلا لهذا الزميل فيما بعد، انك لم تأخذ السوط الا رغبة في ان تنقذه من ضربات الشاويش عنتر القاسية، بينما كانت ضرباتك في الحقيقة اكثر قسوة، لانك كنت تريد ان ترضي الشاويش عنتر، وكنت تنظر اليه بعد كل جلدة لترى مدى رضاه عنك. لا يهمك ان يصدق الزميل قولك او لايصدقه، فقد قررت ان ترتفع درجات عنه وعن بقية قاطني العنبر، وان تعلو قليلا فوق مستوى القاع الذي يلتصفون به. تريد ان يكون لك شأن مثل شأن الشايش عنتر. انه هو مدخلك الىعالم النفوذ والسلطة. هاهو يبتسم اعجابا بمهارتك في استعمال السوط، وهاهو يلقاك في اليوم التالي بكلمات الترحيب، وياخذك من ذراعك ليدنيك من رئيسه الايطالي اثناء طابور الصباح، قائلا له، انك عنصر يمكن الاعتماد عليه، مذكرا اياه بانك الجندي الذى دخل الى الجيش باختياره. وهاهي النتائج تأتي سريعا في نفس المساء، عندما تحولت حشية القش الى التي تنام فوقها الى سرير ومرتبة، في مكان متستقل عن الاجسام المتكدسة فوق ارض العنبر، بمفردك قرب الباب، فقد اختارك الشاويش عنتر لتكون عريفا للعنبر ومشرفا على ضبط النظا م فيه بعد ان اخذ المشرف السابق الى عنبر آخر. كلمتك الان هي الاولى في هذاالعنبر الذي يضم مائة وخمسين مجندا. وفوق هذا صار من حقك ان تنال حصة اكبر من مواد التنظيف بما في ذلك المطهر المستخدم في قتل البق والقمل والبراغيث والصراصير. ها قد بدأت اولى خطواتك في تحقيق الاندماج. تضاءلت لحظات التذنيب شيئا فشيئا حتى اختفت، ثم تضاءلت ايضا ساعات التدريب نفسها، فقد صار الشاويش عنتر يصطفيك لترافقه في بعض المهمات التأذيبية، فانت وحدك من اظهر مهارة في استخدام السوط والعصا ايضا، يحسدك عليها اكثر الجلاوزة خبرة وقسوة. ومكافأة لك على هذه المهارة صار لك سوط تأخذه معك اينما ذهبت، جاهزا للاستخدام كلما جاء الامر من الشاويش عنتر بذلك، بل لك حق استخدامه دون الرجوع الى الشاويش في بعض المناسبات، كتلك اللحظات التي يتاخر فيها احد المجندين في العنبر عن الاستيقاظ في الوقت المناسب، فتذهب تطرقع به فوق راسه او تضربه جلدة على ظهره حتى يقوم، فهو سوط لا يفارقك، وتعلقه اثناء النوم فوق راسك كانه عنوان وشعار، مثلك في ذلك مثل طاقم الحراسات، دليلا اكيدا على مكانتك المتميزة في هذا المعسكر.
قال لك سالم هازلا:
- ها قد بدأ نجمك يسطع في هذه الربوع، فهنيئا لك يا ابن بلدتي.
- على الانسان ان يختار ين ان يكون الضحية او الجلاد. وانت تعرف الى أي مدى يكره اولاد الشيخ، القيام بدور الضحية. لقد اختاروا حياة القحط والجفاف في تلك الصحراء، هروبا من سيطرة الحاكمين في الاراضي الخصيبة.
- لا تجعل اثامك الشخصية اثاما لاهل اولاد الشيخ. فهم مازالوا بشرا ولم يتحولوا الى وحوش. دعني ارى ان كانت قد نبتت لك براثن وانياب. لماذا تكذب على نفسك. لماذا لا تقول ان نفسك هانت عليك حتى لم تعد تعرف للهوان حدا. انني افضل الف مرة من اكون ضحية استقبل الضربات، من ان اكون سوطا يستخدمه الطليان في ضرب ابناء وطنه.
وكان لا بد ان تواجه اللهجة الغاضبة التي تكلم بها سالم، بلهجة اكثر حدة وغضبا. عليك ان تلبس دورك الجديد حتى وانت تواجه اقرب الناس اليك، وانت تمضي متقمصا شخصيتك المستعارة حتى النهاية، اذا اردت تحقيق ما تصبو اليه من نجاح، واي ضعف لن يكون غير شرخ في البناء الذي مازال في بدايته:
- اذا كان في الامر مهانه، فانها مهانة من هم على شاكلتك، وهي مهانة اكثر فداحة وبؤسا. انها عار لم اعد اقوى على احتماله. نعم، سأكون سوطا يضرب، لا جلدا كجلد البغل او الحمار، لا يأنف من تحمل الضربات.
وغاضبا تركت سالم جالسا تحت اشجار الصنوبر، وعدت للاحتماء بسيدك الجديد الشاويش عنتر. فانت بجواره تحس وكأنك لم تعد جزءا من هذه الكتلة الهلامية. هذه الديدان التي كانت بشرا. للسلطة بريقها ونشوتها، ولها قيمتها التي لا يعرفها بدوي ساذج، لا يريد ان يخرج من اقمطته القروية، مثل سالم. انت تعرف ان ما يحدث لك ولوطنك وللدنيا من حولك هو جزء من ارادة عليا لا تملك له ردا. دورة من دورات التاريخ لابد ان تمضي في طريقها حتى النهاية. وانك مهما فعلت فلن تستطيع لارادة الله تبديلا ولا تغييرا، فما العيب في ان تكون جزءا من هذا السياق وهذه الكينونة أيها الاخ سالم العنيد البليد.
وفي اليوم التالي لم تصبر على فراقه ومقاطعة هذه الجلسة المسائية معه، فذهبت تتجول بين اشجار الصنوبر تنتظر مجيئه. لكن سالم لا ياتي. ولم تكن تظن وانت تراه يغيب لمدة اربع امسيات متواليات انه يدبر لك مكيدة، حتى جاء الشاويش عنتر يسألك ان تترك حصة التمرين على فك السلاح، لتأذيب واحد من العصاة. ولم يكن هذا المجند الذي شق عصا الطاعة، والذي استحق الجلد بالسوط، غير صاحبك سالم. لقد افتعل عراكا مع احد مدربيه، ورفض ان يستجيب له عندما امره ان يقف في طابور المذنبين رافعا يده يجوار الجدار تحت شمس الظهيرة، فاستحق العقوبة الاكبر التي تنص عليها اللائحة وهي الجلد. وجاء صوت الشاويش عنتر يحرضك على جلد صاحبك الذي بدا ظهره عاريا امامك، يلمع تحت شمس الظهيرة، قائلا:
- هيا، ثلاثون جلدة من جلداتك التي تعيد العقل الغائب لصاحبه.
وقفت حائرا، والسوط في يدك، لا تدري ماذا تفعل. نداء القوة والسلطة يأتي هذه المرة متعارضا مع نداء الشرف والصداقة. انها مهانة الانسانيتك ورجولتك، فالرجل صاحبك وقريبك، وهي رابطة تدعوك لان تدفع الاذى عنه ظالما او مظلوما، لا ان تكون يد البطش التي تفتك به.
جاء صوت الشاويش عنتر مزمجرا:
- ما الذي تنتظر يا عثمان. اذقه من ويلات هذا السوط حتى يعرف ان الله حق.
انه يتكلم بلسان الشيطان، متنكرا في صورة رجل يعرف الله ويعرف الحق. كانت عينا سالم عندما التفت اليك تمتلئان تحديا وقوة، كأنه يق-ـول لك:
- هيا اضرب لتعرف مهانتك وسقوطك.
رفعت يدك بالسوط، مغمغما بكلمات اردت سالم ان يسمعها:
- اجلدك انا خير من ان يجلدك غيري.
فرقع السوط في الهواء دون ان يلامس ظهر الضحية، وعندما لامسه في الضربة الثانية كان لمسا هينا ضعيفا، جعل الشاويش عنتر يتميز غيظا:
- ما هذا الذي تفعله؟ انك تلاعبه ولا تجلده. هات السوط.
اخذ منك السوط، وامرك بلهجة حانقة ان تعود الىحصة التمرين على فك وتركيب السلاح التي اخذك منها. ودون سوطك ذهبت الى العنبرليلا. كان الخبر قد انتشر بين سكان عنبرك الذين رأوك تعود اليهم بلا سوط. فصاروا يتضاحكون ويرمقونك بنظرات الاستنكار والاستهانة. عرفوا انك انت الان مطرود من جنة سيدك، ولن تمضي سوى لحظات حتى يأتي لينزع المرتبة والسرير من تحت عجيزتك، ويعيدك دليلا حقيرا الى حشية القش. وجاء الشاويش عنتر يقف على رأسك ويبدي اعجابه لان كل شيء على مايرام داخل المعسكر الذي بدا مثالا للهدوء والنظام. كان يقولك ذلك بلهجة ساخرة هازئة، فقد كان الصخب والفوضي والمناكفة والمناقرة بين المجندين باصوات عالية، تجعل المعسكر مثالا لكل ماهو عكس النظام والهدوء والانضباط. كنت قد فشلت فعلا في فرض سيطرتك على الجماعة، وكان صراخك يضيع في فضاء العنبر، فلا احد يأبه لك. ان اخشى ما تخشاه الان هو ان يأمر احدا غيرك بان يتولى الاشراف على العنبر. ويكون عليك صاغرا ان تمنحه موقعك المتميز وسريرك ومرتبتك، وتعود لتصبح جزءا من الكتلة الهلامية لساكني العنبر، بل اكثر منهم جميعا ضعة وهوانا. انك لن تلومه اذا فعل بك ذلك، فالنظام يريد حسما وعزما وانت اول من يعترف بتقصيره في ابداء هذا الحسم والعزم، ولكنك لن تستطيع بعد ذلك ان تبقى في المعسكر. الشيء الوحيد الكريم هو ان تقفز هاربا خارج السور وليأت بعد ذلك رصاص الحراس يرديك قتيلا، فهذا افضل من رعب المهانة التي ستعيشها بين هؤلاء الناس الذين لا يحملون لك غير الحقد والاحتقار.
ادهشك ان الشاويش عنتر لم يفعل شيئا مما كنت تتوقعه. زمجر في اهل العنبر ان يدخلوا تحت اغطيتهم، وطرقع بالسوط فوق رؤوسهم، فامتثلوا جميعا لتعلمياته، ثم خرج من العنبر دون ان يقول لك شيئا.
في اليوم التالي ذهبت اليه تطلب عفوه ورضاه. تقبل يديه، وتسأله ان يصفح عنك، وتشرح له كيف ان المذنب الذي ابيت ان تضربه بقسوة كان ابن عم لك.
جاء صوته حاسما:
- الواجب لا يعرف اخا ولا صديقا. لا يعرف ابن عم اوخال اوخالة. هذا اول درس يجب ان تتعلمه في مهنتك هذه.
وهو كما يقول لا يصفح عنك الا انك مازلت صغيرا في طور التدريب والتعليم، وقال لك بانه لن يتكلم معك بعد الان باللغة العربية لان احدى مؤهلات النجاح ان تتقن اللغة الايطالية التي يجب ان تبذل اقصى ما لديك من جهد لاتقانها وسيساعدك هو قدر استطاعته، فادعيت انك لا تطمح لشيء الا ان تكون تلميذا في مدرسته، تستفيد من خبرته وتجاربه. فاعاد لك السوط واصطحبك في مشوار من مشاويره لتأذيب المارقين.
استعدت بسرعة سيطرتك على العنبر بعد اليوم الذي اهتز فيه النظام. اقتضاك الحال ان تكون اكثر قسوة في معاملتهم، فتعمدت جلد كل من اساء ادبه معك عند ايقاظه من النوم صباحا بادعاء انه اراد ان يستمر في النوم، واستأذنت الشاويش عنتر في حرمانهم لمدة ثلاثة ايام من رش ملابسهم بدواء البق والقمل والبراغيث، حتى يستجدونك ويطلبون العفو، وصرت اكثر صرامة في تطبيق النظام بحيث حرمتهم حتى من تبادل الحديث بعد اطفاء النور والدخول تحت الاغطية.
قال لك سالم بعد ان عاد لصحبتك بعد انتهاء ايام القطيعة:
- اردت فقط ان اريك كم هي مهينة مهنة الجلاد.
- المهانة داخل هذا المعسكر ليست اختيارا. انها اسلوب حياة. انها مادة اجبارية في منهج العمل والدراسة هنا.
- لا ادري كيف تقاومك نفسك باداء هذه الدور الغريب على شخصيتك التي عرفتها في القرية.
- دعنا لا نعود الى الحديث عن هذا الموضوع لكي لا يفسد صداقتنا.
- اعرف انه شيء عارض وليس شيئا اصيلا في شخصيتك والا ما حرصت على هذه الصداقة.
بالغت، فيما تلا ذلك من ايام، في اظهار الود والولاء للشاويش عنتر، بامل ان يبالغ هو ايضا في الاشادة بك لدى رؤسائه الطليان في التقاريرالتي يكتبها لهم وعرفت فيما بعد انه لم يقصر في تقديم هذه الاشادة وتعريفهم بانك بين قليلين جدا يجيدون القراءة والكتابة باللغة العربية ويجتهد في تعلم اللغة الايطالية. وجاء الاحتفال بانتهاء مرحلة التدريب الاساسي، في نهايةالشهر السادس، مناسبة لان تحصد نتائح ما زرعت، وان تحقق هذه المرة اعترافا ايطاليا بمهاراتك، وذلك بنيلك شريطا يضعونه فوق كتفك، وينقلك الى عالم ارقى من عالم المجندين، الذين لا شرائط فوق اكتافهم، ويتصادف ان يأتي الجنرال بالبو نفسه، الحاكم الايطالي لليبيا، ليحضر الحفل، ويشاء حظك ان تصافحه وتأخذ التصاوير معه وهو يضع لك الشريط. لقد تم تعميدك من اكبر رأس في البلاد، دليلا على ارتفاع مكانتك وعلو شأنك، وانك اصبحت منذ اليوم عضوا في الدائرة الاعلى التي تحيط باصحاب السلطة والنفوذ. لم يعد الامر مجرد سرير ومرتبة بجوارالباب، وسوط معلق بمسمار فوق رأسك، وهي اشياء يمكن ان يسحبها منك الشاويش عنتر متى اراد، وانما شريط، يمنحك اسبقية على كل هذه الكائنات التي تزحف على ركبها اثناء ساعات التدريب والتذنيب، ولا احد يستطيع ان يسلبه منك، ولو كان بالبو نفسه، الا بحكم من محكمة عسكرية.
ولم تمض سوى ساعات قليلة على تقليدك الشريط، حتى اكتشفت ان له مزايا اخرى لم تكن تعلم عنها شيئا. انه يفتح امامك عالما كان مغلقا على امثالك، ولا سبيل لدخوله الا لمن زين ذراعه شريط كهذا الشريط، هو عالم النادي المخصص للضباط وضباط الصف الايطاليين. فقد صار بامكانك الان ان تدخل اليه لا كعضو من اعضائه، فهذه العضوية حكر على الايطاليين، ولكن كخادم من الخدم المحظوظين بدخول هذه الاماكن ويستمتعون باجوائها الاحتفالية الفرائحية، ويأكلون من ذات الصحاف التي يأكل منها الاعضاء، ويشاهدون معهم الحفلات الراقصة، والعروض السينمائية، وينعمون مثلهم بانغام الموسيقى واستنشاق عطور النساء الجميلات اللاتي يزرن النادي، كما اتاح لك الشريط ان تخرج في مهمات خارج المعسكر وان تعبر البوابات الكبيرة لترى الدنيا الفسيحة الرحيبة خلف الاسوار العالية. لقد صار بامكانك الان ان تتولى مهمات حمل الرسائل وجلب المؤن والمشاركة في عملات البحث عن مج ندين جدد والقبض على الهاربين.
وقفت في اول هذه المهمات خارج المعسكر، تستنشق هواء جديدا تعرف ان احدا من زملائك لم يستنشقه منذ ان اختفى خلف هذه الاسوار، يخالجك احساس بالفرح وكأنك حققت انعتاقا كاملا من عالم المجندين، وراودتك وانت ترى نفسك بعيدا عن الحراسات واجهزة الرصد والمراقبة، احلام العودة الى قريتك، والىان ترى امك المريضة، وان تهرب من كوابيس هذا المعسكر. كان ذلك مجرد خاطر عابر، فانت تريد اليوم ان تكون محل ثقة هؤلاء الاسياد، لانك تعرف ان لا فائدة من الهروب، وكما كان يقول احد الشيوخ المتعاونين مع الطليان لاهل قبيلته الخارجين عن طوعهم بانهم مثل الطائر الذي مهما نقلته جناحاه في الاجواء فانه لابد عائد الى الارض، والطليان هم هذه الارض، هكذا تقول حقائق الحياة، حتى وان نجحت في هروبك لبعض الوقت، فما فائدة ان تقضي ايامك سجين جدران البيت الذي ستختبىء فيه؟ ما فائدة ان تستبدل سجنا جماعيا بسجن انفرادي. طردت الفكرة من رأسك، معترفا بحقيقة انك الان اصبحت داخل المصيدة، مصيدة الحياة العسكرية في جيش المحتلين، حيث لا فكاك ولا نجاة الى ان تنتهي الحملة ويتم صرف الاحياء والسماح لهم بالعودة للحياة المدنية، وخير وسيلة للتعامل مع هذه الحالة، هو الحرص على تحسين ظروفك المعيشية داخل هذه البيئة، وتحت هذه الشروط، وها انت الان تنعم بمكانة افضل من زملائك، وتلقى من الايطاليين معاملة لا يحلم بها احد مهم، فلا تجعل الوقت يضيع اكثر من ذلك، وانطلق سريعا لقضاء حوائج الاسياد، كي يزدادوا اعجابا بك. لم يعد الشاويش عنتر هو سيدك. لقد اصبحت من اصحاب الرتب انت ايضا، وايطاليتك تحسنت كثيرا بحيث صارت تسعفك لفهم ما تسمعه والرد عليه، فلا حاجة لك به، ولا حق له عليك الا اداء واجب الاحترام لرجل اكبر منك رتبة.
جعلت هذا اليوم الذي عبرت فيه بوابة المعسكر لاول مرة الى العالم الخارجي، عيدا من اعياد الحرية. كانت المهمة هي ايصال رسالة الى مركز المدينة، فسرت مسرع الخطى الى الشارع الرئيسي وقفزت الى عربة كارو تستخدم في نقل الراكبين، وقفزت الى العربة لتي يجرها حصان يخب خببا، اوصلك بسرعة الى المركز واكسبك بعض الوقت الاضافي للتسرية على نفسك. القيت الرسالة بسرعة لموظف الاستعلامات في بنك روما، ودخلت شارع الكورسو حيث المحلات الايطالية التي تزين واجهاتها الاضواء والمرايا والديكور الجميل. وجدت حانوتا يبيع الجيلاتي والحلويات، فلم تتردد في دفع نصف فرنك وشرا قالب تلعقه و انت تمشي في الشارع بملابسك العسكرية، غير عابىء ان كان ذلك مخالفا للاوامر والنواهي العسكرية. ووقفت امام سينما الاوديون، حيث يعرض فيلما ايطاليا، وقد امتلأت الواجهة الزجاجية بصور النساء الجميلات والمشاهد الغرامية، فقررت صرف مزيد من النقود على مشاهدة الفيلم. انها ساعة القيلولة في المعسكر ولن يكثرت احد لحضورك اوغيابك. هذه هي المرة الاولى التي تدخل فيها السينما. لقد سمعت عنها دون ان تراها. دخلت وكدت تخرج هاربا، صارخا، عندما رأيت قطارا يأتي من عمق الشاشة ليداهمك. وقفزت مفزوعا، ثم سيطرت على اعصابك وتسمرت في مقعدك ما نعا نفسك من الهروب، وانت ترى الناس بجوارك، في عتمة السينما، يلعقون الجيلاتي، ويقزقزون اللب، غير مكترثين بالاندفاع الجنوني للقطار. انهم يعرفون ااكثر منك انها مجرد اخيلة على الشاشة. كان الشيء الذي اثار انتباهك اكثر من الفيلم نفسه، النشرة الاخبارية المصورة التي تعرض قبل وبعد الفيلم، الدوتشي في روما، بملامح وجهه الغليظة، وفكه القاسي الذي يبدو منحوتا من الصخر، يقف خطيبا في واحد من ميادين روما الكبيرة وسط حشود بشرية تتلاطم كامواج البحر تصرخ باسمه وترد على كل فقرة من خطابه بالهتافات وصيحات الاستحان. ايتالو بالبو يقود طيارته الصغيرة وبجواره امرأة شقراء، يتفقد المناطق الداخلية في ليبيا حيث يخرج له في كل منطقة اهلها في جموع كبيرة مرحبين هاتفين باسمه وهو يلوح لهم بيده. احتفال كبير يقام على رصيف الميناء، لسفينة ايطالية تحمل ثلاثة الاف مهاجر من باليرمو، يهبطون من الباخرة، ليجدوا المارشال بالبو واقفا مع رجال التشريفات يرحبون به، صحبة فرقة موسيقة تعزف الاناشيد، وعدد من سيدات المجتمع الراقي الايطاليات يحملن باقات الزهور ترحيبا بالوافدين الجدد. تذكرت وانت تشاهد المواقف الغرامية التي امتلأ بها الفيلم ثريا، وندمت لانك اضعت هذا الوقت في مشاهدة الصور المتحركة، بدل ان تمضي لزيارتها. وتركت الفيلم قبل اكماله، وخرجت من السينما بقصد الذهاب اليها، واكتشفت وانت في الشارع انك تأخرت اكثر من ساعة عن موعد عودتك الى المعسكر، فأخذت عهدا على نفسك الا تسمح بانقضا ء دقيقة واحدة من وقتك، في المرة القادمة التي تخرج فيها من المعسكر، لا تكون مسخرة لهدف واحد هو زيارة ثريا.
كانت مفاجأة وانت تخدم الايطاليين في سهرة نهاية الاسبوع بنادي الضباط، ان تجد بين الجالسن في النادي امرأة ليبية. لم يكن هناك شيء في مظهرها ينبى بمنبتها العربي الليبي. فهي ترتدي فستانا كثيراللمعان يكشف عن جزء من جسمها اكثر بريقا ولمعانا، هو ظهرها وكتفيها وصدهرها حتى منبت النهدين، مثلها مثل اكثر النساء الايطاليات اناقة وتحررا، وبشرة بيضاء حمراء شديدة النقاء، لا يملكها الا قلة من اهل البلاد، القاطنين بالمدينة، وتصفف شعرها الفاحم السواد على شكل تاج من تيجان ملوك روما، وتضع في عنقها قلادة من الذهب، محلاة بفصوص من الاحجار الكريمة، لا تشبه قلائد الذهب الشرقية التقليدية التي ترتديها النساء الليبيات، وفوق هذا وذاك، فقد كانت تفعل شيئا مهولا، لم تسمع بان امرأة ليبية اقدمت عليه من قبل، هو احتساء كؤوس النبيذ، وتبادل الانخاب مع من حولها من الضباط، فكان شيئا مستحيلا، رغم جمالها الشرقي، الذي تبدى واضحا في عينيها الواسعتين السوداوين، ان تهتدي الى هويتها الليبية.
كان المحترفون من قدماء الخدم، الذين يعملون طهاة وجرسونات، هم الذين يقومون بخدمة الضيوف وتلبية طلباتهم، وكانت مهمتك ادنى من ذلك قليلا، مثل نقل المناضد من مكان الى آخر وجلب الكراسي من المخزن واعادتها اليه، والاهتمام بنظافة المكان، وكنت قد جئت حيت تجلس المرأة تضع شموعا جديدة في الشمعدان الفضي الكبير الذي يزين اركان النادي، تصادف ان جلست المرأة قريبا منه، فقد كان النادي ورغم اضاءة الكهرباء يستعين بالشموع لتنوير بعض الاركان لخدمة غرضين الاول اضفاء لمسة شاعرية رومانسية على هذه الاركان والثاني انه في حالة هروب الكهرباء، وهي كثيرا ما تهرب في هذه المناطق، يبقى المكان مضاءا بالشموع فلا تحدث حالة فزع بين الزبائن، وجدتها تنظر اليك ووجها يفيض بابتسامة مبهجة، ثم سمعتها تقول لك بلغة عربية لييبة، خالية من اية لكنة:
- عربي، اليس كذلك؟
- عربي من اولاد الشيخ، واسمي عثمان.
كنت قد ظننت في البداية انها احدى الايطاليات ممن يجدن الحديث باللهجة الليبية، وكانت مفاجأة مذهلة عندما اخذت نفسا من سيجارتها، عبر المبسم الطويل، ونفتت الدخان في الهواء وقد كورت شفتيها بشكل شديد الاغراء، وقالت وهي تضع هباء السيجارة في المنفضة بحركة رشيقة.
- وانا ايضا عربية من طرابلس.
امعنت فيها النظر، ترفع بصرك وتهبط به وكانك لا تصدق ما تقول هذه المرأة، من مشبك الذهب في اعلى رأسها، الى الفصوص البيضاء المتوهجة تحت مسقط النورالتي ترصع اساورها، الى منطقة السحروالاغراء في الجزء العاري من صدرها، الى الفستان الاسود الذي تزين حواشيه خيوط الفضة، كل ما فيها ينبيء بانها امرأة تنتمي الى ارقى طبقات المجتمع الايطالي، فكيف تأتى لها ان تكون عربية من طرابلس تحظى بانحناءات هؤلاء الضباط الذين تسارعوا لاشعال سيجارتها وهؤلاء الجراسين الذين يقفون بانتظار اشارة منها فيخدمونها كانها ملكة، كيف يمكن لاي كائن، ذكر او انثى، ينتمي الى دنيا العرب الليبيين المساكين، ان يصل الى هذه المراتب العالية في مجتمع الايطاليين. بل كان واضحا انها تتعامل باحتقار مع كل هؤلاء الضباط، الذين قطعت الاستماع اليهم وانصرفت للحديث معهم، كانها تريد ابلاغهم رسالة بهذه الالتفاتة لعامل الشموع الذي هو انت.
كنت قد ازلت بقايا الشموع المطفأة من الشمعدان، ووضعت بدلا منها شموعا جديدة، واشعلتها، وطأطأت رأسك منسحبا وانت تقول في لهجة هامسة:
- تشرفنا اعظم الشرف يا سيدتي.
سألتك السيدة باشارة من يدها ان تبقى، قبل ان تقول لك:
-ـ انه شمعدان جميل وانيق، اريد واحدا مثله في بيتي، فهل تعرف كيف احصل عليه.
- من المخزن طبعا يا سيدتي.
- انني اتحدث عن السوق. اريد ان اشتري واحدا مثله. فهل تعينني على ذلك؟
- بكل فرح.
- اذن اعرف لي ثمنه، ثم احضر الى بيتي لاعطيك النقود. اريد واحدا مثله تماما. منزلي بشارع البريد رقم 7، الدور الثاني. سانتظرك غدا صباحا.
- الامر يحتاج الى اذن من الضابط المناوب في المعسكر.
- اخبرهم فقط انك ذاهب لاداء خدمة تخص السنيورة حورية.
عندما عدت الى المطبخ لتخبر العرب الاخرين، باكتشافك المدهش، وجدت ان امر السنيورة حورية ليس جديدا بالنسبة لهم، فهم جميع يعرفونها لانها كثيرا ما جاءت لحضور الحفلات التي تقام بنادي الضباط، وكثيرا ما تبسطت مع العرب الذين يخدمون الطليان في النادي، واحيانا تسألهم عن احوالهم وتوصي بهم رؤساءهم خيرا، تأكيدا للصلة التي تجمعها بهم، فهي رغم حياتها مع الطليان، وعلو مكانتها بينهم، لا تنكر اهلها واصلها، مما زاد من محبة هؤلاء الخدم لها. وكان اخطر ما ابلغوك به هامسين ن هو ان السنيورة حورية ليست الا المحظية الاولى، لحاكم البلاد، المارشال ايتالو بالبو نفسه، ولذلك فان الكثيرين يعتبرونها ثاني اقوى شخصية في البلاد، لان المارشال لا يرد لها طلبا، ولهذا فقد مضى بعض الخدم الليبيين يهنئونك على هذه الفرصة التي جعلتك تحظى برضا السيدة حورية الى حد ان تطلب خدمة منك، وتدعوك للمجيء الى بيتها، وهي التي يتزاحم على خدمتها كبار القوم من عرب وايطاليين ولو طلبت هذا الشمعدان من جنرال ايطالي لذهب سعيدا يلبي لها هذاالطلب.
برغم هذا الكلام الجميل، فقد امتلأ قلبك كدر وضيقا، ولم تر في هذه المهمة التي كلفتك بها السيدة، سوى مازق جديد قد يقودك الى ما هو اكثر شرا. فانت تعرف مما سمعت وقرأت خطورة الاقتراب من نساء الحكام، خاصة اذا كانت العلاقة بين الحاكم وامرأته على هذه الدرجة من التحرر والاباحية. انك وان عشت في المدينة عاما كاملا قبل التحاقك بالمعسكر، فانت قروي ما تزال، تحمل مايحمله اهل قريتك من احتقار لاي امراة ترتبط بعلاقة آثمة بالرجال، فكيف وانت ترى امرأة من لحمك ودمك، ليبية مثلك، تبيع لحمها رخيصا لرئيس الغزاة الطليان، وعليك بعد ذلك ان تذهب الى بيتها، خادما دليلا يقدم لها آيات الطاعة والولاء.
تمنيت في اليوم التالي وانت تطلب اذنا من الضابط الايطالي المناوب، ان يرفض طلبك، ولكنه خيب ظنك، ومنحك تصريحا تغيب بموجبه عن المعسكر حتى الساعة السادسة مساء، أي انه منحك نهارا كاملا لتقديم هذه الخدمة التافهة للسنيورة حورية.
تركت المعسكر وخرجت الى فضاءات العالم الخارجي.
بين يديك اثنى عشرة ساعة بالتمام والكمال حتى يحين موعد عودتك الى المعسكر، فما عساك ان تفعل بهذا الوقت كله وامرالسنيورة حورية لا يقتضي اكثر من ساعة واحدة، ورأيت انه لا قيمة ولا اهمية لكل هذا القدر من الحرية ان لم يكن سبيلا للقاء ثريا.
قررت ان تعطي الاولوية لثريا، ولم تشأ اضاعة الوقت بالمرور على دكانة الحاج المهدي، تتسقط اخبار ثريا، فانت تعلم علم اليقين انها تقيم الان في بيت والدها بعد ان غاب عنها زوجها، واشتريت فاكهة من دكانة قريبة وصعدت السلالم تحمل قرطاس الفاكهة وتطرق باب البيت. سألت عنها الصبي الذي فتح لك الباب وذكرت له اسمك، فذهب وعاد مسرعا يخبرك بانها قادمة. ثريا قادمة. اليس هذا في حد ذاته مجلبة للفرح، فلماذا اذن تعذب نفسك بالاسئلة عن لماذا جئت تركض وراءها، وما الذي تريده منها، وما الذي يمكنك ان تقوله لها وتختلقه كذريعة للسؤال عنها؟ وما حاجتك للعثور على اجوبة لهذه الاسئلة؟ يكفي ان تراها، وتطفىء هذه الحرقة التي تملأ القلب والوجدان.
جاءت ثريا..
وانت لا تكاد تصدق بان المرأة التي ما عشق القلب سواها، هي الان امامك، بقوامها الانسيابي ووجهها المستدير الجميل وعينهيها العسليتين، ترتدي ثوبا قطنيا ينسكب فوق جسمها انسكابا ويظهر بشكل فاتن استدارة نهديها.
يضيء وجهها القمحي الابتسام رغم محنتها. كيف لك ان تسكت هذا الهدير الذي يصنعه جريان الدم في عروقك، هذا الدوي الذي تصنعه دقات القلب في صدرك، واذا لم تسمع حقا هذا الهدير وهذا الدوي فكيف لا تسطيع ان ترى هذه الرعشة التي تهز بدنك كله، انك مفضوح امامها ولا شي يستر عري عواطفك. كنت غائبا عن الدنيا، وراء اسوا ر المعسكر لمدة ستة اشهر، وحدث احتقان للعواطف والانفعالات فلم تجد انفراجا الا في هذه اللحظة التي ترى فيها الدنيا. ثريا هي الدنيا. تلخيص موجز وعبقري لكل ما فيها من مباهج وملذات وفرح، وما فيها من حسرة واسى وحرمان. ها انت تمد يدك لتصافح يدها، ولكي تكون هذه الملامسة اتصالا سحريا مع اكسير الحياة الذي يتحول الى الى سائل نادر يجري مجرى الدم في العروق، يصنع عيدا للجسد والروح. توارت قليلا خلف الباب وهي تخاطبك:
-ـ اهلا عثمان. امازلت على قيد الحياة.
قالتها بطريقة مرحة، ازالت جهامة الموت المضمر داخل الجملة. وبرغم الاندهاش الذي مازال يعقد لسانك، فقد وجدت نفسك تقول بذات الطريقة التي تهزأ بالموت:
- وهل جاءكم الناعي يحمل اخبار موتي؟
قالت مفزوعة:
- ابعد الله عنك الشر.
ثم استأنفت حديثها:
- الناس يقيمون المناحات ويعتبرون كل من شملته حملة التجنيد في عداد الاموات. كيف استطعت الخروج؟ هل هربت؟
- لم اهرب. انني اقوم احيانا باعمال خارج المعسكر.
- ماذا يفعلون بكم هناك؟ هل حقا يضربونكم حتى تشرفون على الهلاك؟
لم تقل لها انك انتقلت من خانة المضروبين الى خانة حاملي السياط لضرب الاخرين. بدلا من ذلك سألتها مستنكرا ما قالته:
- من قال لك هذا الكلام الفارغ؟
- هذا ما يقوله الناس.
وقبل ان تجد فرصة لتفنيد كلام الناس، سالتك ثريا بشيء من اللهفة:
- هل رأيت فتحي؟
- لم اره. الا تعرفون انتم اخباره.
- غريبة انك لم تره، لان كل ما نعرفه عنه انه محجوز بواحد من هذه المعسكرات التي لا يزورها احد ولا يخرج منها احد.
- هناك معسكر آخر في تاجوراء، لعله هناك.
- سأل عنه والدي كثيرا دون فائدة. قالوا بانهم سيسمحون لهم بالخروج لزيارة اهلهم قبل الرحيل الى بر الاحباش.
كنت تستطيع ان ترى تشوقها لمعرفة اخبار زوجها. لعلها حقا تحبه، ولكنك كنت دائما على يقين من انها تحمل لك انت وحدك عاطفة لا تحملها لاحد سواك. مهما تكن هذه العلاقة فلعها اصبحت شيئا من الماضي بالنسبة لها، بعد ان ساقتها الاقدار للزواج من هذا الرجل. الزوج يبقى دائما هو الزوج. انه الانسان الذي ربطتها به علاقة قدر ومصير، هي هذه الرابطة الشرعية التي تباركها الملائكة في السماء، واحالت اية علاقة اخرى تربطها باي رجل اخر الى ظلام النسيان، واذا اطلت برأسها فهي علاقة اثمة موكول امرها الى الشيطان، والعياذ بالله. هكذا تفهم المرأة الشريفة في مجتمعنا الليبي العربي الاسلامي، الزواج. لم يعد لك مكان في حياتها. فلماذا تتعب نفسك عبر الطرق المسدودة. ما فائدة ان يركض الانسان خلف جنازة حبه. فهو لن يحصد الا النواح، ولن يزيده الجري الا مزيدا من العذاب.
سألتها ان كان بامكانك ان تقدم اية خدمة تحتاجها ولكن ماذا بامكانك ان تقدم لامرأة تنتظر عودة زوجها من معسكرات الحرب؟ دفعت اليها بقرطاس الفاكهة وهبطت سلالم البيت مسرعا.
هل هذه آخر مرة ترى فيها ثريا؟ كان هذا السؤال يملأك فزعا، ولكن هاتفا ظل يهتف بك قائلا، لا تفزع، فان كل محنة مهما كانت كبيرة لا بد ان تصحبها مكافأة، وربما كان حجم المكافأة بحجم المحنة نفسها. كان الهاتف يقول لك بان ثريا امرأتك انت ويجب الا تكون امرأة سواك، مهما قالت مواثيق الزواج وعقوده الباطلة الكاذبة. المشكلة، قلت لنفسك، ان ثريا لم تعطك اية اشارة ولو صغيرة تنبىء بمثل هذا الكلام. انها زوجة لفتحي، ومن حقه عليها، وحقها على نفسها، ان تحفظ عهده وتصون نفسها له. الهاتف يلح عليك بان هذا ليس هو نهاية الطريق مع ثريا. لعله يقول لك ذلك لمجر المواساة والتمني. آه لوكنت متأكدا من ذلك، اذن لجعلت هدفك الوحيد اثناء الحرب، ان تبقىحيا حتى تعود اليها. بل ان هذا هو ما ستفعله لانك واثق من ذلك الحدس الذي يقول بانكما لم تخلقا الا لبعضكما سوف لن يخيب.
- ثريا، شكرا لله لانه اوجدك في هذه الدنيا.
تركت بيت ثريا في الجزء القديم من المدينة وانطلقت مسرعا الى بيت السنيورة حورية في الجزء الجديد منها، وكانك تلقي بنفسك الى التهلكة.
مررت سريعا بمغازة التاجر اليهودي الذي يبيع الادوات المنزلية المصنوعة من الفضة بشارع الكورسو، وعرفت ثمن الشمعدان الذي تريده الهانم، وسرعان ما ذهبت الى شقتها بشارع البريد. وجدت بباب العمارة سيارة عسكرية، وجنودا ايطاليين، يسألك احدهم وهو يراك تهم بدخول العمارة عما تريد، وعندما تخبرته يقودك الى باب الشقة، فيفح الباب صبي اسود في منتصف العقد الثاني من عمره، يتكلم العربية بلكنة افريقية، يسمع اسمك فيقودك الى الردهة الواسعة بالداخل. غاصت قدماك في البسط السميكة التي تغطي ارضية البيت وانت تدخل الى حيث الارائك والكراسي الفوتيل ذات القماش الوبري الازرق وقد طليت حوافها الخشبية بماء الذهب، والمرايا التي تغطي اجزاء كثيرة من الجدران، واصص الزهور التي تفوح بروائح زكية والموزعة في اركان الردهة والصالون، وصورة شمسية كبيرة للمارشال بالبو بلحيته الصغيرة الانيقة، كانها مرسومة بالحبر الشيني الداكن السواد، وبزته العسكرية المرقشة بالنياشين، معلقة على جدار الصالون، بجوار صورة اخرى له وهو يصافح الدوتشي، ومن وسط السقف، تدلت بيضة نعام كبيرة، مشدودة بسيور من الجلد الاحمر. ورأيت عندما جلست صورا اخرى على الجدار المقابل، تضم حورية وبالبو في لقطات ذات طابع حميمي، تسند، في احداها، رأسها على كتفه، وتجلس في الاخرى بجواره وهو في مقعد القيادة بالطائرة الصغيرة التي يتولى دائما قيادتها بنفسه، متنقلا بين بيوته الكثيرة في المدن الليبية، وبين هذه الصور والمرايا تتوزع في ترتيب جميل مجموعة من جلود الحيوانات، نمر وغزال واسد وحمار وحشي، وفوقها اكثر من رقعة تحمل سن الفيل، معلقة بها قلائد من العقيق الازرق، وفاحت في ارجاء البيت رائحة بخور كالمسك، غطت على رائحة الزهور، واضفت على جو البيت شيئا من الالفة، لانك تحب هذه الرائحة منذ ان تنشقتها لاول مرة في احدى الاحتفالات الدينية بالقرية يعطر بها شيخ الزاوية المحتفلين، الا انها لم تفلح في ازالة شعورك بالقلق والارتباك، ودون ابطاء جاء ت حورية، ترتدي في قدمها خفا له سيور ملونة، تظهر منه اصابع قدميها المخضبة بالحناء، وتلف جسمها في روب ابيض، تجفف شعرها وتغطيه بفوطة الحمام، وقد تساقطت بعض قطرات الماء فوق وجهها الوردي، فزادها ذلك جمالا وفتنة. وقفت لحظة ظهورها تستقبلها في وضع انتباه، فضحكت حورية ضحكة لها رنين. ارتفع معها رأسها وانثنى جسمها الى الخلف، فبدا صدرها اكثر بروزا، وانحسر الروب عن جيد مصقول شديد التوهج واللمعان. ادركت انك وقعت في شراعمالك، وان حالك الان يشبه حال سيدنا آدم وهو يقف امام شجرة الفاكهة المحرمة، وان بالبو لم يترك نساء الطليان ويختار هذه المرأة،عبثا. لقد عرف كيف ينتقي اجمل جوهرة انجبتها صحراء الشمس والرمال الحمراء. قالت بعد ان فرغت من الضحك:
- انني لست جنرالا فلا تقف متخشبا هكذا. استرح وانزع عن وجهك هذا القناع العسكري.
جلست حورية، ودعتك، في مرح واريحية، الى الجلوس في المقعد الذي يجاورها. انها امرأة تعاشر عسكريا مخضرما شارك في الاستيلاء على روما، وتعرف كيف تنفذ بسحرها الى قلوب الرجال كبارا وصغارا.
جلست على طرف المقعد تستحلب لعابك لترطيب الجفاف الذي تحس به في حلقك، وكأنك في حضرة ساحرة من ساحرات الاساطير، تستطيع بسحرها ان تقلب الانسان حجرا او ضفدعة.
ليس هناك ما تخشاه، فانت على دراية بما ينتظرك في هذا البيت، ولكن حجم المفارقة كان كبيرا، فهذه السيدة بعد كل شيء امرأة من اهلك، ليبية مثلك، تعاشر رجلا بالحرام، وتعيش في بيت من بيوته، مما يجعلها بحكم التقاليد والاعراف التي يرجع اليها الناس في تقييمهم لابناء وبنات مجتمعهاتهم، امرأة سوء، لا تستحق سوى الاحتقار. اضف الى ذلك ان الرجل الذي تعاشره، ليس سوى رئيس جيش الغزاة، وجلاد هذه البلاد، هكذا سيراه الناس دائما حتى لو ظهر في ثياب المصلحين، ومعنى ذلك انها تستحق احتقارا اكثر من ذلك الذي تستحقه النساء الساقطات اللاتي يبعن الهوى في اكواخ خارج السور. المفارقة،ان هذه المرأة الساقطة،التى جئت تخدمها، وتقدم لها فروض الولاء والطاعة، اضحت، وبسبب سقوطها هذا، اقوى شخصية عربية في بلادها، بل ان بعض خدم النادي، يتناقلون باكبار واعجاب، مختلف الحكايات عن كرمها، واعمال الخير التي تقوم بها لصالح المعوزين والفقراء.
- اذن فاسمك عثمان، وتقول انك من..
- اولاد الشيخ، منطقة القبلة والحمادة الحمراء.
- ايتالو يحب الواحات كثيرا. جعلني احبها انا ايضا. وكثيرا ما نقضي العطلة الاسبوعية في غدامس. لدينا بيت هناك يطل على عين الفرس. اجمل وقت هناك هو الصباح الباكر. شروق الشمس هناك شيء فظيع، مدمر.
لم تكت تنقصك النباهة لتفهم ان ايتالو الذي تتحدث عنه، ليس الا المارشال بالبو نفسه. فقد اضحت علاقتها به علاقة علنية، تعرفها ليبيا كلها، والرجل لا يبالي ان يراها الناس معه اينما ذهب، بدخل بها الاحتفالات، ويسافر بها الى مدن الدواخل , ويتنقل معها في سيارته المكشوفة في شوارع طرابلس. اللكنة التي تتكلم بها تنتمي الى المدينة، ولكن ما هذا الذي تراه فظيعا ومدمرا في مشهد الشروق؟. لقد اقتضى الامر ان تسمع المزيد من حديثها، لتدرك ان هذه هي طريقتها في التعبير عن اعجابها بالاشياء، فلا يعادل فظاعة الشروق في غدامس، الا فظاعة ورعب الغروب في جزيرة فروة من شرفة الاستراحة التي شيدها المارشال بالبو هناك، وهكذا فان الانتقال بين الصحراء والبحر، يتيح للانسان فرصةالاستمتاع بتعدد المشاهد الطبيعية وتنوع الجمال والوانه في بلادنا كما تقول حورية. انها لا تأتي على ذكر الشمعدان، الذي من اجله جئت الى هذا البيت، وكأنه سقط من ذاكرتها، وبرغم الكهرباء التي تنعم بها بيوت الحكام في طرابلس، الا ان الشموع لم تفقد بعض مكانتها حتى في هذه البيوت.
- كنت اتنمنى ان اشتري الشمعدان واقدمه هدية اليك، ولكن صاحب المتجر لا يبيع بالدين.
سألتك عن الثمن، وانت تقف استعدادا للخروج، فدعتك للبقاء حتى تنتهي من تناول فنجان القهوة الذي جاء بقه الصبي الزنجي مرجان، وظلت هي في جلستها الانسيابية وقد انحسر الروب عن جزء من ساقها فبدا تحت ضوءالنافذة لامعا كالبلور، وجاءت قطة تتهادى وتتاءب وتتمسح بها، فقالت حورية وهي تنحني تلتقط القطة، وتضعها في حجرها، ثم تمرر اصابعها بفروتها وانت تنظر في حسد اليها:
- اذن فستكون ضمن المسافرين الى بر الحبشة عند نهاية الشهر.
فاجأك ما سمعت. فانت لاول مرة تعرف ان السفر الى الحبشى سيكون في نهاية الشهر. أي بعد عشرين يوما. انك على ثقة من ان احدا في المعسكر لا يعرف تاريخ السفر، حتى الضباط الايطاليون انفسهم لا يعرفون، والا لما استطاع احد ان يمنع مثل هذا الخبر من الانتشار بين المجندين. كل ما يهمك الان، هوان تعود مسرعا الى المعسكر، لتكون اول من ينقل الخبر للناس هناك. انه سيضيف اهمية لاهميتك التي اكتسبتها حديثا. انك لا تطيق الانتظار حتى يحين موعد وصولك الى هناك لترى كيف سيكون وقع الخبر على الشاويش عنتر. سينسى الاثارة التي يحملها الخبر، لانه سيكون مشغولا بمعرفة كيف استطعت الوصول قبله الى مثل هذه المعلومات الخطيرة.
لاحظت المرأة اندهاشك فحسبته شعورا بالرهبة والخوف من المهمة، فقالت بلهجة حانية:
- ستنهون مهمتكم العسكرية بنجاح، وستعودون الى اهلكم سريعا باذن الله.
انها تعتبر الحرب مهمة سريعة ناجحة. لعلك حقا ستعود منها سليما، فالحياة تستحق ان تعاش طالما هناك في الدنيا نساء جميلات كهذه الحورية من حوريات الارض.
" ولكن يا للخسارة" قلت في نفسك وانت تقفل الباب وراءك ذاهبا لاحضار الشمعدان، متأسيا لوضع هذه الجوهرة الثمينة في اناء وضيع.
قبل انقضاء ساعة من غيابك عنها، عدت اليها صحبة صبي من صبيان المتجر يحمل عنك الشمعدان في صندوق من الورق المقوى، فقد رأيت ان وجود هذا الصبي يجعلك اقل ضعة وهوانا في مواجهة هذه السيدة.
وبسرعة قام الصبي بمهمته في تركيب الشمعدان ووضعه في مكانه المناسب بصالة المخصصة للطعام وانصرف، واكمالا لمهمتك اخذت الشموع الملونة التي يقدمها المتجر هدية مع الشمعدان، ورشقتها في مواضعها منه، فازداد منظر الشمعدان بهاء ورونقا، وما كان من حورية الا ان اخذت عود ثقاب واضاءت الشموع كلها وهي تضحك سعيدة بعراجين اللهب التي تتراقص وتصنع مشهدا مثيرا للبهجة وتغني معها الاغنية الشعبية التي يغنيها الصغار في مولد الرسول
-ـ هذا قنديل وقنديل
فاطمة جابت خليل
هذا قنديلك يا حوا
يشعل م المغرب لـ توا
وجدت ان مهمتك قد انتهت فاردت ان تستاذن وتخرج ولكنها استوقفتك واتجهت الى رواق يقود الى غرف النوم، تخاطب شخصا هناك، باللغة الايطالية ثم تعود، ولم يكن يخطر ببالك ان هذا الشخص الذي كان يستعد لمغادرة جناح النوم في الشقة لم يكن الا المارشال ايتالو بالبو نفسه. سمعت خطاه قبل ان تراه، ثم ظهر الرجل في كامل الابهة العسكرية، مرتديا بذلة المارشال، في يده القبعة وتحت ابطه عصا الشرف، بسراويله المنفوخة وحذائه ذي العنق الطويل، وقد بدا وجهه لامعا، وزادته لمعانا الشوارب الانيقة واللحية السوداء