النغمُ والمَشهد: زمنُ السينما الرومانسيّة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
1
في بدء عهدها، عندنا في المشرق على الأقل، عُدّت السينما كإحدى المعجزات الخارقة، المنتمية لعالم الجنّ لا الأنس . فها هي ذي صالة مغلقة تماماً، غامضة، عَتِمة ـ كمغارة الأشباح، متهيئة لرشقات من النور، المسددة من كوة في الجدار نحو صدرها ؛ أين الشاشة الكبيرة الما تلبث أن تتفجّر دماً ودموعاً وأهوالاً جساماً . وهاهُمو شخوصٌ " أغراب " يتوالدون من رحم تلك الشاشة، رائحين غادين في مشاغلهم ومحادثاتهم، غير مبالين بمن في الصالة، ولا بما يعتورها من وجوم وتوجس أو صخب وصفير : فالبعض من حضور الفيلم زمنئذٍ، كان على إعتقاده بعدُ بأنه يشهد مسرحية ما، غرائبية المَشاهد، مرافقة بالموسيقى المتواترة، الحالمة أو الكابوسية على السواء . والبعض الآخر من أولئك الحضور، الأقل حظاً، كان مبهوتاً بما يرى ويسمع، وهوَ على بهتان الظنّ بكونه في مقهى ؛ حيث الحكواتيّ، المُفترض، ربما دبّر لمريديه مقلباً ما، مرعباً ! من جهته، كان والدي ـ الذي رحلَ قبل بضعة أعوام، عن سنّ معمّرة ـ قد قص علينا طرفة ً من فتوته، حينما رافقَ ذات مرة بعض أصدقائه إلى " سينما دمشق "، العريقة، التي كانت تعرض فيلماً مصرياً ما . والدي وعصبته هذه، الصديقة، كانوا إذاً في الصف الأمامي من الصالة، حينما إندفع بطلُ الفيلم بسيارته، خلال أحد المشاهد، في سرعة قصوى، دونما أن يرعوي حتى في إقترابه، الخاطف الخطر، منهم ! وبطبيعة الحال، قدّر لهم النجاة من مركبة الموت تلك، مع أنّ أحدهم كان ما فتيء مرمياً على أرضية الصالة، مذعوراً مهتاجاً، إثر قفزته من الكرسيّ الذي كان يقتعده، و المتأثرة بذلك المشهد السينمائيّ .
عاماً بعد الآخر، إعتاد الناس لدينا على ولوج تلك " المغارة السوداء " ؛ المنعوتة بالصالة السينمائية . هذا على الرغم من حقيقة، أنّ إرتياد ذلك المكان زمنئذٍ، كان منذوراً للذكورة قطعاً . وهي الذكورة، التي ضرَبَتْ حظراً، إجتماعياً غالباً، على الجنس الآخر، المستضعف في الأرض . على هذا، ندركُ أهمية جهاز المذياع، بالنسبة لـ " حرملك " مجتمعنا، والذي كان يُتيح للنساء خصوصاً فرصة الإستمتاع بآيات الفنّ طرباً وتمثيلاً، دونما الحاجة للمغامرة، الخطرة، المتمثلة بإختراق أسوار المنزل . بدورها، ذكرت لي والدتي شيئاً عن أيام صباها، وكيف كانت ولدّاتها يستمتعن بالإصغاء إلى هذا الفيلم المصريّ أو ذاك، والمبثوث كاملاً آنئذٍ من الإذاعة : " كنا نفهم الفيلم، كما لو أننا نراه أمامنا على الشاشة . كنا أيضاً نتخيّل وجوه الأبطال .. والرجال منهم بشكل خاص ! "، تؤكدُ أمي وهيَ تشرد بعيداً بنظراتها الحالمة . يبدو أنّ أفلام عبد الوهاب وفريد الأطرش، الغنائية، كانت المرجّحة في ميزان مراهقة تلك الأيام، الرومانسية ؛ بدليل حفظ الأم لكثير من الأقاويل المتداولة أيامئذٍ، عن عشق الملكة الفلانية لهذا أو خطبة ذاك للأميرة العلانية . تلازُمُ التمثيل بالنغم، كان فتحاً آخر، بالغ الأهمية للسينما، عربية كانت أم فرنجية . تأثير هذه الأخيرة على الأولى، ما كان واضحاً بعدُ لإدراك جيل أمهاتنا ؛ بما تهيأ بشكل عام لإمكاناته الضعيفة، الثقافية والمعلوماتية . معرفة أنّ الأفلام العربية ـ والمصرية تحديداً ـ كانت زمنئذٍ تستنسخ أعمال هوليوود قصة ً وموسيقى وحتى طريقة أداء، بقيتْ حقيقة غير متداولة، حتى في أوساط النقد الفني . ولكننا، في وقتنا الحاضر هذا، نستطيع الجزم، مثلاً، بتأثر عبد الحليم حافظ، الممثل، بما كانه فرانك سيناترا على الشاشة الكبيرة : هذا، دونما أن نغفل تلك الحقيقة الأخرى، عن أصالة " حليمنا " في أدواره السينمائية ؛ حتى ليجوز القول، أنه كان نجماً متألقاً في مجاله ذاك، لا يقل في الواقع عما كانه ـ كمطرب عظيم . وهذا الأمر، بإعتقادي، ينطبق أكثر على الفنانة شادية .
3
إزدلافُ النغم للفيلم، إبتدُه لدينا في واقع الأمر مع بدايات السينما الرومانسية ؛ مع إزدهار أسماء كثير من نجوم الطرب في مصر، خصوصاً ـ كأم كلثوم وعبد الوهاب ومحمد فوزي وليلى مراد .. وغيرهم . تنتج كوكب الشرق، لحسابها، أربعة أفلام على التوالي، كان أنجحها " دنانير " ؛ المستلهم قصة قيّنة، رائعة الصوت، كانت مملوكة لجعفر البرمكي، الوزير الخطير لخليفة زمانه، هارون الرشيد . في هذا الفيلم، وفي غيره أيضاً، كانت موهبة أم كلثوم في التمثيل جدّ متواضعة . وبالمقابل، فإنّ مطربتنا هذه، كانت تؤدي الأغنيات المطلوبة في الفيلم ـ وجلها أدوار ـ بشكل مؤثر، منسجم ومتفاعل مع المشهد : لكأنما العبقرية " الكلثومية "، المتجلية خلف الميكروفون بأبهى حلة، كانت تأبى إلا أن تعيد ذاتها أمام الكاميرا السينمائية . يمكننا هنا، إلى حدّ ما، تأكيد التوصيف نفسه بالنسبة لجيل كوكب الشرق ذاكَ ؛ وبشكل أكثر أو أقل مع الأجيال التالية . يجدر القول، بأنّ السينما في عقلية ذاك الزمن، الرومانسي، ما كان لها أيّ غاية غيرَ إشاعة المرح والتسلية في نفوس مرتاديها . وعلى ذلك، نفهم إذاً مدى أهمية الأغنية للفيلم زمنئذٍ، بما كان من تحقيقها لتلك الغاية من جهة، والأهم، من جهة أصحابه، ضمان أفضل تسويق له تجاريّ، داخلياً وعربياً . ثمة عامل آخر، على قدر كبير من الأهمية، عاضدَ من مكانة القاهرة ـ كمركز للفنّ في العالم العربيّ : إنه الهجرة التي شهدها البلد، منذ نهاية القرن التاسع عشر ؛ وخصوصاً من أولئك الذين أضحوا معروفين فيها منذئذٍ بـ " شوام مصر " . ثمة أسماء عديدة، شهيرة، من رعيل الهجرة تلك، إحتفى بها الفنّ الغنائيّ، المزدهر وقتذاك في وادي النيل ؛ مثل فريد الأطرش وأسمهان وصباح ونور الهدى وفايزة أحمد ونجاة .. الخ . وعلى الرغم من حقيقة، أنّ هؤلاء قد أدوا أغنياتهم باللهجة المصرية التي إتقنوها كأهل البلد، فإنهم أوجدوا تنوّعاً ضرورياً في الحياة الفنية للبلد المُضيف، أسهمَ بالتالي في إغناء الطرب بألوان جديدة ما كانت معروفة قبلاً ـ كالعتابا اللبنانية والقدود الحلبية . كذلك الأمر بخصوص السينما، والتي شهدتْ جمالاً جديداً، مميّزاً في فتنته ومقاييسه، فضلاً عن نزعة الإغراء والغواية وخفة الظل، المستهجّة به، والمرتبطة منذئذٍ بأولئك " الشوام " ؛ وكان من أكثرهم شهرة ًعمر الشريف وسعاد حسني .
ثمة أغان، خالدة، تواشجتْ بالمشهد السينمائي، حدّ أننا نتعشقها في في كل حين ولا نملّ من تكرارها على الشاشة الصغيرة، سواءً بسواء أكان ذلك ضمن برامج معينة أو خلال إعادة أفلام زمان، الرومانسية . لكل منا، إذاً، أغانيه الحميمة من ذلك الزمن، المعيدة لذاكرته موقفاً ما، في رحلة الحياة الحافلة ؛ موقفاً فرحاً متألقاً، أو آخرَ متأسياً كامداً . بين هذا وذاك، أجدُ عبراتي منهمرة ً دونما إرادة مني، في كل مرّة أعود فيها بعض الأفلام الكلاسيكية، المضّرمة بشعلة النغم الأغر، المذيبة جليدَ غربتي هذه . أجدني هنا، أشير إلى ثلاثة من أغاني الأفلام تلك المسجّلة ـ بحسب ذائقتي، طبعاً ـ في مجلد المجد . وكنتُ قد أشرت إلى النجمة شادية، في مستهل المقال، واضعاً موهبتها التمثيلية على المستوى ذاته، الرفيع، من موهبتها تلك، الغنائية . وأضيف أيضاً، بأنه ربما من الصعب أن يتكرر نموذج نجمتنا هذه، في حاضر الفنّ أو مستقبله : فعلاوة على كونها مطربة أصيلة، رائقة الصوت، وقدرتها المُدهشة ـ كممثلة عظيمة، فقد إمتلكت حسناً فتاناً وخفة دم وظرافة ؛ حدّ نعتها إعلامياً بـ " دلوعة الشاشة " . قدّر لفيلم " إنتَ حبيبي "، المُنتج عام 1957، أن يكون ناجحاً بكل المقاييس، الفنية والتجارية . فإضافة لكون الفيلم إحدى بواكير المخرج يوسف شاهين، كان هناك عملاقُ الطرب العربي، فريد الأطرش، الذي قاسمَ شادية البطولة . إنه الفيلم الذي سيُخلد، أبداً، أغنية " زينة " ؛ وكانت من نوع ( دويتو ) بين بطليْه هذين : ففي رحلة بالقطار، تنطلق من إحدى الفركونات الأنغامُ الفرحة، المُحتفلة، كما لو أنها أحلامٌ هائمة فوق غفوة هنيّة ؛ هناك، أينَ تعانق الحبيبان في كلمات جدّ بسيطة، رفقة ( كورَس / كومبارس) عفويّ من فلاحين مسافرين معهما . أربعة أعوام تمضي على الأثر، ثمّ تتناهى أنشودة اخرى ؛ وهيَ " بيت العز يا بيتنا "،، لم تكن أقل تأثيراً في محبّي الطرب، الأصيل، عن الأولى، الموسومة آنفاً : إنها لفايزة أحمد، السورية الأصل، ومن وصف عبد الوهاب صوتها الشجيّ بـ " الكريستال المكسور " . أديتْ هذه الأغنية في مفتتح فيلم " أنا وبناتي "، من إخراج المبدع حسين كمال . وضمير المتكلم في عنوان الفيلم، يستحضرُ لنا إسماً آخر، لا يقل إبداعاً ؛ إسم زكي رستم، الذي لعب دورَ أبٍ موظف، متوسط الحال، يقع ضحية ظروف قاهرة تبعده عن منزله، حيث بناته اليتامى الأم ـ وفيهم مطربتنا نفسها ـ ولا يُقدّر له العودة إليهم إلا وقد تشتت شملهن في كل طريق . هذه الأغنية، البهيجة، أستعيدُ فيها دوماً منزل عائلتي الأول، الدمشقي، كلاسيكيّ الطراز، والمافتيء منتصباً كنصب خرافيّ وسط هولات الإسمنت المسلح، الفظة . إنه " بيت العز "، إذاً، الذي غادرته دونما رجعة منذ قرابة العقدَيْن من أعوام المنفى ؛ إنه الآن بيتٌ للأشباح والأطياف والذكرى، بعدما هجره أيضاً معظم ساكنيه . فيلم " الخطايا "، من إنتاج العام 1962، هوَ المختتم، على رأيي المتواضع، ثالثة أثال الفنّ السينمائي، الغنائي . هذه المأثرة، المعبّرة أكثر من غيرها عن عصر الرومانسية عندنا، إجترحها بعضٌ من كبار صانعي الصورة والصوت، على السواء : لا ريبَ أنّ إسم عبد الحليم حافظ، كان الجامع لصفتيْ الفنّ هاتيْن ؛ ما دامَ هوَ نجمُ الفيلم، الساطع . نادية لطفي، الممثلة الرائعة، قاسمته البطولة بدور " سهير " ؛ الحبيبة الشابّة، المتعيّن عليها تحدّي أعراف عائلاتها، المتبخترة بلقب الوجاهة . يقررُ بطلنا، يائساً، وبعدَ مناوشات حامية مع الأب بالتبني ( عماد حمدي )، أن يختطف حبيبته تلك . هوذا هنا، في مكان اللقاء، المحدد، ينتظر مجيئها فاقدَ الصبر . تشتعلُ الموسيقى لحظتئذٍ : كمنجاتٌ شجنة، مصّاعدة الرنين ؛ نايٌ يعلنُ، على الأثر، الحضورَ الحبيب ؛ طبلة تقرعُ رويداً، مترافقة مع إلتفاتة بطلنا نحوَ " سهير "، الواصلة على حين بغتة، متعجلة، مكتسية لباس العروس الأبيض . ولكنّ " حليمنا "، في حيرة النظرات القلقة، المتبادلة مع حبيبته، يخرق أخيراً هذا الصمتَ المستغرق ثوان حسب، مبتدهاً مطلع أنشودته، الخالدة : " قولّي حاجة " . أرجو ألا أكون مغالياً في تأكيدي، بأنّ هذا المشهد، المعجّز، الفائق الروعة والتعبير، هوَ قمة ما وصلت إليه السينما الغنائية المصرية، في عمرها الرومانسيّ بأسره . الطريف في الأمر، أنّ عبد الوهاب، ملحن أغنيات الفيلم، كان قد دخل في مشادة عنيفة مع مخرجه، حسن الإمام، على خلفية المشهد الإفتتاحي نفسه لأغنية " قولّي حاجة " . إذ عمد المخرج، وفق حِرَفيته المعروفة، إلى قطع موسيقى الأغنية لبضعة ثوان، حينما تتلاقى نظرات الحبيبَيْن في المشهد ذاكَ، الموصوف آنفاً . وهذا لم يرض، بطبيعة الحال، موسيقار الجيل، مما تسبب في إعادة مونتاج الفيلم .