غالوري الفنون

من معالم السينما المصرية : نهر الحب

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

1
الأدبُ وما تصرّفَ عنه من رواية وقصة وأمثولة، وجدَ له مكاناً أثيراً في الفنّ السينمائي. بيدَ أنّ الأمرَ، في واقع الحال، ما كان بتلك البساطة في مبتدأ خبر هذا الفنّ الجديد، الطاريء على حياتنا المشرقية. لم يُعترفَ بصفة "السيناريست" آنئذٍ، ما فتيء مخرجو السينما المصرية، الروّاد، يستأنسون بإقتباس حكاية هذا الفيلم الهوليوودي أو ذاك. ومن طرائف ذلك الزمن، ما رواه المخرج الواقعي صلاح أبو سيف، بخصوص بداياته في السينما، حينما إستدعاه المنتج ليسأله مستنكراً عن سبب إعتماد كاتب مصريّ لإعداد قصة وسيناريو للفيلم الجاري تحضيره: "من هوَ هذا نجيب محفوظ ؟! ولمَ ندفع له نقوداً، وعندنا عشرات الأفلام الأمريكية، الجاهزة !؟"، كان يتساءل ذلك المنتج، مستنكراً تبديد ميزانية العمل هنا وهناك. ولكن أديب نوبل، العربيّ، كان ثمة في الأستديو، أخيراً؛ كان هناكَ في الكثير من الأفلام مؤلفاً وكاتباً للسيناريو، على السواء. فمنذ مستهل خمسينات القرن المنصرم، جسّدَ محفوظ شغفه بالسينما عبرَ رفدها، المرة تلو الاخرى، بنصوص لأفلام لاقت نجاحاً منقطع النظير ـ كما كان حالُ " ريا وسكينة " للمخرج أبو سيف، نفسه، المأخوذ عن واقعة حقيقية، هزتْ مجتمع الإسكندرية في العشرينات من ذلك القرن. ثمّ تواصلَ تعاون المبدعيْن هذيْن، كتابة وإخراجاً، وكان من ثمراته أولى الأفلام من موجة الواقعية الجديدة ؛ مثل " شباب إمرأة "، الذي برهنَ على حجم الموهبة، الكبير، لبطلته تحية كاريوكا : حتى ليجوز لنا القولُ، بأنها كانت الممثلة الحقيقية الوحيدة، الفريدة، القادمة من ساحة الرقص الشرقيّ ؛ هذا دونما تجاهل زميلتها، سامية جمال، ولو بدرجة أقل. على أنّ الفن السابع، المصريّ الواقعيّ، كان بإنتظار شمسه الساطعة، المقدّر لها أن تغمرَ بإشراقتها النجومَ جميعاً ؛ كان على موعدٍ مع طفلة رقيقة، ولجَتْ حلبة التصوير مترددة، وجلة، بأعوامها السبعة لا غير.

فاتن حمامة

2
فاتن حمامة، إسمٌ فنيّ أشهرَ من أن يُعرّف. إنها سيّدة الشاشة العربية، وكفى. لم تتسيّد نجمتنا الشاشة الكبيرة، خلل كوّة شباك التذاكر ؛ ولم يك هذا من شيمة عبقريتها، المنصاحة ـ كوردة، منذ لحظة التفتح : كانت فاتن حمامة، وستبقى أبداً، نورَ قلبِ كل محبّ للسينما، يسير بهديه على طريق الإبداع الأصيل، الحقيقي. وكان من غرائب الإتفاق، أن يكتشفَ هذه الطفلة، المعجزة، إثنانٌ من عمالقة الفنّ في القرن الماضي ؛ هما المخرج محمد كريم والموسيقار محمد عبد الوهاب. الأول، هوَ رائد السينما المصرية، وقد قدّمها للثاني بدور كومبارس، في أحد أفلامه الغنائية : " إنها لتشبه شيرلي تمبل، أشهر أطفال السينما الهوليوودية، بل وتفوقها موهبة بمراحل "، يؤكد محمد كريم. على أنه بإنطواء صفحة دورها الصغير ذاكَ، ما عاد أحدٌ ليتذكر تلك الصغيرة، الموهوبة. ثمّ إنقضى ما يقارب العقد من الأعوام، قبل أن يُتاح لفاتن حمامة ولوج الأستديو، صبيّة مراهقة، هذه المرة. ستلعب أدواراً كثيرة ببطولة مطلقة، كان أهمها دور " آمنة " في فيلم " دعاء الكروان "، من إخراج هنري بركات، عن قصة بالعنوان نفسه لطه حسين. بدوره، يتذكر أديبنا العالمي نجيب محفوظ ذلك الدور، واصفاً إياه بقوله : " كان شيئاً رهيباً ورائعاً " ( مجلة " نصف الدنيا " القاهرية ـ العدد 674 لعام 2003 ). نحن في الخمسينيات من القرن الماضي إذاً، حيث يتتالى دفقُ إبداع فاتن حمامة مع أفلام عظيمة اخرى، من قبيل " لكَ يوم يا ظالم "، " لا أنام " و " الزوجة العذراء " : الفيلمان الأول والثاني، كانا من إخراج صلاح أبو سيف عن سيناريو لنجيب محفوظ. هذا الأخير، كان من التواضع وبساطة الخلق أنه قد أعدّ سينمائياً رواية " لا أنام " من تأليف إحسان عبد القدوس، وكرر الأمر ذاته في روايات اخرى له ؛ مثل " الطريق المسدود " و " إمبراطورية ميم ". لقد تضلع ببطولة كل منهما نجمتنا فاتن حمامة ؛ هذه التي ما عتمتْ أيضاً أن واصلت سيرها على السراط الموصل لعقد الستينات، والمطلّ على " نهر الحب ".

فاتن حمامة وعماد حمدي

3
كانت فاتن حمامة في سنّ المراهقة، حينما إلتقت المخرج عزالدين ذو الفقار، في فيلم " بين الأطلال " المنتج عام 1948. ثم ما لبثت أن تزوجته، رغم الفارق الشاسع، بينهما، في العمر. هذه التجربة الحياتية لفنانتنا ـ والمريرة، بحسب شهادتها للصحافة ـ ربما إستعادتها بشكل أو بآخر، خلال تأديتها دور " نوال " في فيلم " نهر الحب "، الذي قام عز الدين ذو الفقار، نفسه، بإخراجه عام 1960. إنّ القصة هنا، هيَ تنويعٌ على رواية " آنا كارنينا " لتولستوي، الكلاسيكية المعروفة. إنها حكاية الحبّ الحرام ؛ حبّ إمرأة متزوجة لرجل آخر : إن ظرفاً طارئاً، عصيباً، يدفع تلك المرأة ـ وهيَ في حقيقتها فتاة مراهقة بعدُ ـ إلى الإقتران بمحام كهل، على جانب كبير من الثراء والوجاهة. كان مجرد ترديد إسم من صار الزوج ؛ " طاهر باشا "، (زكي رستم)، كافياً لبث الرعب في أفئدة الناحية التي تقع فيها مزرعته (" العزبة ")، والمقيم فيها شقيق " نوال " كمشرفٍ قانونيّ. الزواج المصلحيّ هذا، يكون ثمرته طفلٌ جميل، ما عتمَ أن أضحى سلوة والدته، المبتئسة المتوحّدة. المشهد الأول للفيلم، كان إسترجاعياً (فلاش باك) : ثمة، نجدُ بطلتنا في عز أزمتها الحياتية، والمنعكسة على نفسيتها بشدة، بعدما هجرها زوجها وإنتزع منها الطفل ذي الأعوام السبعة. وكان الكابوس، المقيم في لياليها جميعاً، من واردات حالتها النفسية، الموصوفة، مذ أن كانت عروساً : قطار جامح، يتقدم ناحيتها بسرعة مخيفة، فيما هي وسط السكة تماماً، حائرة مبلبلة ساهمة، فلا يوقظها رنين جرس الإنذار إلا وهيَ بمواجهة قاطرة الموت تلك. يُقدّم الفيلم الزوجَ كشخص كريه الخلق، طاغية، لا مكان للعاطفة لديه. وبالمقابل، فإمرأته إنسانة مرهفة المشاعر، مخلصة، متفانية في أمومتها. كانت في طريقها بالقطار إلى المدينة التي يعيش فيها شقيقها، لمحاولة التوفيق بينه وبين زوجته إثر خلاف شديد، مبعثه خيانته لها مع خادمة. في تلك الرحلة إذاً، تلتقي بطلتنا مع ضابط شاب، إسمه " خالد " (عمر الشريف) ؛ لقاء عابر، لا يلبث أن يتحوّل حباً جارفاً بينهما. لدينا هنا، منذ البداية، ما يمكن نعته، نقدياً، بـ " العلامة " مكاناً وظرفاً : رحلة القطار تلك، نهاراً / كبديل عن كابوس القطار، ليلاً ؛ وخيانة الشقيق، الزوجية، واقعاً / كبديل عن خيانتها هيَ، المؤجلة. هكذا علامة، لما سيدهم الحكاية من أحداث، نعثر عليها أيضاً في مشهد بيتيّ، حميم، حينما تنسى " نوال " نفسها، فتحلق برقصة " فالس " مع موسيقى منبعثة من جهاز تسجيل. فما هيَ إلا لحظات وزوجها يدخل الصالون، ليوبخها على " طيشها " هذا : إنه مشهدٌ في غاية الرومانسية، سيتكرر لاحقاً أكثر من مرة، ولكن برفقة الحبيب. إذ يلتقيا ثانية في سهرة عائلية، وكانت هيَ في الحديقة، مأخوذة بالموسيقى الراقصة، المنبعثة من الداخل. إذاك، يقتطف لها " خالد " زنبقة بيضاء، معلناً لها حبّه مشفوعاً بقوله : " أنت إيزيس، وأنا أوزوريس.. وهوذا نهر الخلود، أمامنا ".

قوله هذا، يستعيد إذاً تلك الأسطورة المصرية، القديمة، عن شقيقين حبيبين، فرق الموت بينهما، إلا أنّ عشقهما ينبعث كل ربيع مع طوفان النيل : لكأنما المخرج هنا (وهوَ كاتب السيناريو، كذلك)، يعطي للمشاهد إنطباعاً بأنّ علاقة أخوية، بريئة ـ كذا، هيَ التي ربطت بين بطليْ الفيلم. هكذا إنطباع، ضافره مخرجنا في مشاهد اخرى، سوقاً لتجنب تابو التقاليد الإجتماعية والموروثات الدينية، سواءً بسواء. فثمة حائل، كان يقف دوماً صلداً، عصياً، بين الحبيبين، موحياً ببراءة علاقتهما ومنافاتها للصلة الجسدية، المحرّمة : كما في الرحلة إلى بيروت، بعدما أوحى لها الزوج بنية الطلاق، حيث تجتمع مع " خالد " في فندق واحد، إنما في غرفتين منفصلتين ؛ وكان هذا، أصلاً، قد أجرى للتو عملية خطيرة في ظهره، إثرَ سقوطه من على ظهر خيله خلال مسابقة فروسية !..

في الأخير، يموت الحبيب في حرب فلسطين، فيقعُ الطلاق بين " نوال " ورجلها، إنما بثمن باهظ ؛ حينما يجبرها هذا على التخلي عن إبنها، لقاء تهديدها بفضيحة الصور الملتقطة في لبنان مع من دعاه هوَ بـ " العشيق " : إنها حيلة فنية، سقيمة، لشدّما تمّ مجّها في الأفلام المصرية، ما فتئت عقلية المجتمع مخابراتية بحتة، مذ لحظة إستيلاء العسكر على السلطة وحتى يومنا الحاضر. تطردُ الزوجة الخائنة إذاً، بما تتهم به من خيانة، وكانت آخر كلمات الباشا لشقيقها : " كان الأولى أن ترجَمَ كزانية، لو أننا في عصر آخر ". تهيم " نوال " في الشوارع تائهة، ضائعة، فلا تلبث أن تجد نفسها ثمة، على مفترق سكة الحديد. يدوي في تلك اللحظة جرس الإنذار، مترافقاً مع صراخ إبنها، المتوهمة سماعه متماهياً بصراخ حقيقي للحارس. ولكن قاطرة الموت كانت هناك، أسرعَ من يقظتها المباغتة. هذه النهاية، فضلاً عن أنها تحيلنا إلى ذلك الكابوس، الذي عذب صاحبته إلى مختتم حياتها، فإنها تضعنا أيضاً أمامَ مسألة " البديل "، التي إبتدهنا فيها دراستنا للفيلم : البطل يدفع ثمن فعلته إنتحاراً / ولكن ذنبه مغفورٌ، ما دام قد إستشهد في ساحة المعركة ضد اليهود = البطلة تدفع ثمن خيانتها الزوجية إنتحاراً / ولكن ذنبها مغفورٌ (بنظر مشاهدي الفيلم، على الأقل !)، ما دامت هيَ من دفعتْ عشيقها للإستشهاد.

Dilor7@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف