السينما المصريّة وصناعة الأوهام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
1
اليوبيل الماسي للسينما المصرية، المُستعيد ذكرى فيلمها الأول، الصامت، العائد للعام 1907 ؛ هذا اليوبيل، يُحتم على المهتمين، من مؤرخي الفن السابع ونقاده، إعادة قراءة عصر برمته ؛ على صعوبة قراءة كهذه، حتى إيجازاً. إلا أنّ مقالتنا هنا، هيَ مجردُ محاولة للوصول، عبرَ ثيمة محددة، إلى حيث المواضيع الأثيرة للسينما المصرية؛ هذه المواضيع، المراوحة بشكل عام في ثلاثة مواضع : الرغبة والرهبة والتوبة. بدءاً نستطيعُ الجزم، بأنه ما كان لفن السينما إلا أن يلقي بظلاله على الحياة الثقافية، المشرقية، بشكل عام. فهوَ كفن مُستحدث، وليدٍ للقرن العشرين، قدّر له أن يؤثر بشدة في وجدان الجمهور، وبغض الطرف عن جنسه وطبقته وسويته، المختلفة. حتى ليجوز القول، أنّ الفنّ السابع ـ كمجاز، هوَ بمثابة السماء السابعة، المرجوّة، التي ترتفع نحوها أعين وقلوب المؤمنين على تنوّع عقائدهم. وإذ تعيّن على السينما أن تكون ثمرة الأدب، فلكون الفيلم عبارة عن حكاية، قبل كل شيء. وعلى ذلك، فإنّ الأديبَ لا يمكن لصفة أصالته الإكتمال، إلا في التخلق بعشق هذا الفنّ الفريد. لكلّ منا إذاً، مذهبه في عشق السينما ؛ ذكرياته عن هذه الصالة وتلك ؛ عن هذا الفيلم وذاكَ : فلو شئنا الحديث عن المذهب، مثلاً، لقلنا أنه لا بدّ له من التغيّر بين منعطف لوى العمر وآخر منه ؛ ما دام القلبُ يتقلب بحسب مراحل الحياة طفولة ً وفتوة ً وكهولة.
منذ بدايتها، تطبّعت السينما المصرية بمواضيعها الميلودرامية ؛ شأنها في ذلك، شأن مثيلاتها في الدول الاخرى. على أنّ ظروفاً متباينة، سياسية وثقافية واجتماعية، حدّتْ من تطوّر هذا الفن في بلد الكنانة، بل ويمكن القول أيضاً، بأنه راح يتدهور إلى مستويات متدنية للغاية، خصوصاً في الأعوام الأخيرة. إنّ إقبال الجمهور الآن على الأفلام القديمة، في مشرق ومغرب العالم العربي على السواء، لهوَ برهانٌ على تلك الحالة، الموصوفة. وإذ شددنا، في هذا الإتجاه، على مدى تأثير الظروف الموضوعية على الفن السابع، فلا محيد عن إلقاء نظرة خاطفة على إرهاصاته، مصرياً. كانت القاهرة، وما فتئتْ، قِبلة أهل الفن. ففي مستهل القرن العشرين، إشتدّ الخناق على الحياة الفكرية والثقافية في المشرق، الذي كان مبتلياً بالحكم الإستبدادي، العثماني. آنذاك، وجدَ كثيرٌ من كتاب وصحفيي وفناني تلك الأصقاع، أنّ طريق الحرية يؤدي إلى موطن النيل، الجميل. إنّ وسم معظم أولئك المهاجرين، محلياً، بـ " الشوام "، كان عشوائياً في حقيقته ؛ إذ شملَ كل قادم من بلاد الشام، بغض الطرف عن ولايته، لبنانية كانت أم سورية أم فلسطينية أم أردنية. من جهة اخرى، شاع أيضاً في مصر نعتُ " الأتراك "، وما كان أقل إعتباطية من الأول، لما فيه من دمج لأثنيات مختلفة عرقياً، متباعدة في مواقعها الجغرافية ؛ كالأناضوليين والتركمان والأكراد والشراكسة والأستين ( الأباظة ) والألبان والمقدونيين والبلغار.. وغيرهم. وعلى كل حال، فما يهمنا هنا، أنّ مصر أضحت مستقرّ كل طامح لحياة الحرية، والتي وفرها للحقيقة الوجودُ الإنكليزي، المهيمن. إشارتنا، سالفة الذكر، لتناهي تعلق محبي الفن بأفلام الأبيض والأسود، الكلاسيكية، إلى يومنا الحاضر ؛ هكذا إشارة، تجعلنا في وارد ما نبديه من دهشةٍ، إزاء مشاهد الإباحة في تلك الأفلام، سواءً بسواء أكانت عرياً أم لفظاً. على هذا، فلا يمكن للمرء إلا ملاحظة القطيعة، شبه الجذرية، بين الأجيال السابقة واللاحقة، فكرياً وثقافياً. حتى ليصحّ القول ربما، بإنّ ما كان يوسمُ تاريخياً بـ " عصر الإنحطاط "، ليجدَ له الآن موطئاً راسخاً، عتياً، في جوانب الحياة المصرية، جميعاً. السينما، كفن جماهيريّ قبل كل شيء، كانت السباقة لترجمة ذاكَ الإنحطاط المريع، الموصوف. إلا أننا لن نغفل الإشارة هنا، لحقيقة أنّ هذا الفنّ، ومنذ بداياته، قد أضحت مواضيعه منذورة ً لذلك الثالوث المقيم ( الرغبة، الرهبة، التوبة )، الذي إعتمدناه ثيمة ً لمقالتنا هذه.
3
في مبأسة المواضيع وشحّتها، إبداعياً، وجدَ الفيلم المصريّ أمكنة ثلاثة أو أربعة، رئيسة، لحركة أبطاله عموماً. وتشديدنا على ثيمة " الرغبة "، نحيله إلى أحد تلك الأمكنة، المعيّنة ؛ وهوَ االملهى : إنه الموضع الأثير، المفترض فيه جذبَ المتفرج إلى شباك التذاكر، مما يحقق ربحاً جيداً للعمل ويضمن بالتالي تسويقه عربياً. لا غروَ والحالة تلك، أن تكون الراقصة الشرقية، هيَ واحدة من أبطال الفيلم، الأساسيين أو الثانويين. إن مشاركتها هنا في العمل، لها أهمية قصوى في مسألة نجاحه، تجارياً ؛ بوَصْلةٍ تلوَ الوصلة، والمتيحة للجمهور الإستمتاع بمشهد الجسد العاري إلا من غلالة رهيفة، تتثنى بدلال وإغراء بحسب الحركات الراقصة، المثيرة، والموسيقى المرافقة. كانت قمة مشاهد الغواية، لما تتعمّد الكاميرا الإنسلال بين طيات الفساتين القصيرة ( " الميني جيب " و " الميكرو جيب " )، فيلاحقها نظر المتفرج إلى حيث مكامن السراويل الشفيفة، المتبدية خطفاً : هذه المَشاهدُ وتلكَ، الموصوفة، يتمّ حذفها الآن من الأفلام المعروضة على الفضائيات ـ وخصوصاً، الخليجية. نعم، هذا ما يتحفنا به أهل الرقابة، الحصيفون، ونحن في عصر الفيديو والأنترنيت، والتي تتيح للشباب المراهق الإطلاع بكل حريّة على أفلام الجنس الأكثر إباحة وإثارة، بما لا يجوز معها المقارنة بالأفلام المصرية، الرومانسية ! وعودة إلى ثيمة مقالتنا، لنؤكد أنّ الفيلم المصريّ، بما هوَ عليه من تأثر بمثيله، الهوليووديّ، إلى هذه الدرجة أو تلك، فما كان بالغريب أن يُقحم فيه مشاهد من الرقص الغربيّ، علاوة على العنف، والمنسوخة برداءة غالباً. إنّ عملية التغريب هذه، كانت تتواصل فيما يلي من مشاهد، حينما ننتقل إلى منزل البطل ـ وهوَ الموضع الثاني في تصنيفنا، الموسوم آنفاً، لأمكنة الفيلم ـ حيث نتابعه وهو يرشف القدح إثر الآخر من بار صالونه. هذا كان في سينما الخمسينات والستينات. أما فيما جدّ من حقب ؛ وخصوصاً في الثمانينات وما بعدها، فإن البطل سيكون عليه أن يجرّنا معه، عبرَ مشاهد مختلفة. فهنا يحلّ المسجد، غالباً، بمكان الملهى ؛ وبما يتوافق مع الثيمة الاخرى للسينما المصرية ؛ وهيَ " التوبة " : سنلاحظ أنّ المشهدَ حتى لو كان يقترحُ سهرة ما، في كاباريه مثلاً، فإنّ المشهد التالي من الفيلم سيفجؤنا بالبطل وهوَ يغادر من هناك مباشرة إلى بيته. وهاهوَ هنا في سلام المنزل وهدوئه وورعه، يغدو إنساناً آخر تماماً ؛ يتعامل مع عائلته بجدية مفرطة ولا ينسى أيضاً موعد الصلاة، فجراً ! كان المسجد دائماً، في واقع الحال، أحد الأمكنة المحددة في حكاية الفيلم المصريّ. إلا أنه أضحى أكثر حضوراً، منذ مبتدأ الإنحطاط المصاقب للعقدين الأخيرين للقرن الفائت وإلى وقتنا الراهن. على هذا، لعبَ الشيخُ ـ خصوصاً لو كان إمام القرية ـ دوراً مهماً في الفيلم، على ثانويته ؛ فهوَ الناصحُ الأمين، وواسطة الخير في حلّ المشاكل المستعصية، وعلى يديه تتمّ توبة هذه الشخصية أو تلك. الطريف هنا، أنه في الأعمال السينمائية المقتبَسة ( أو " الممصَّرة "، بالأصح )، تتداخل شخصيتا الشيخ المسلم بالقس المسيحي : كما في فيلم " البؤساء " ـ المنتج في السبعينات ـ والذي لعب بطولته فريد شوقي. ففي القصة الأصلية، لفيكتور هيغو، يلتجيء البطل إلى دير صغير، واجداً فيه عطف القس وعائلته. إنما في فيلمنا، المصريّ، حلّ منزل الشيخ في ذلك المقام. الطريف، في مثال آخر، أن يمارس الشيخ المسلمُ طقسَ الإعتراف، المقتصر على العقيدة المسيحية ؛ كما في فيلم " أقوى من الأيام "، حينما تعترف البطلة ( نجلاء فتحي ) لشيخ القرية بحادثة إغتصابها ! : هنا وهناك، ينحو المخرج إلى الإسقاطات الإعتباطية غير المنطقية بحال، وكأنما موطن النيل صارَ خلواً من النصارى ؛ وهمُ أهل البلد، الأصليون، وأساس حضارته، العريقة ؟ المسألة، بإعتقادي، أنّ المُشاهد العربيّ، بشكل عام، قد تمت تربيته ـ أو بالأحرى " تدجينه " ـ على مفاهيم بالية، تتنكر للمتعدد في مجتمعه وثقافته. وإذاً، فمن غير المقبول أن يظهرَ ممثل / ممثلة، على جانب كبير من الشهرة، جماهيرياً، بدور شخص قبطيّ. هذه الحال، العسرة، ربما هيَ التي أجبرتْ مخرجاً قديراً، رائداً، بحجم هنري بركات، أن يحذف إسمه الأول من أفيشات أفلامه جميعاً، وتحديداً إثرَ الثورة الناصرية، والتي من المفترض أنها إنتفضتْ على النظام الملكيّ، السائد، سعياً لتغيير المجتمع وتقدمه ! ومناسبة تطرقنا إلى الثورة، تقودنا إلى موضوع " الرهبة " ـ كأحد أركان ثالوث السينما المصرية : إن المكان هنا، في المشهد المقترح، من الممكن أن يكون معتقلاً، أو مركز بوليس. في سينما الخمسينات وما قبلها، كان حضور رجال الشرطة مقتصراً، غالباً، على النهاية السعيدة للفيلم ؛ حينما كانت تدوي صفارات سيارة البوليس، المعلنة وجود السلطة، المهيب، الحامي للأبطال والمبارك لإجتماع شملهم. بيدَ أنّ تضخم الأجهزة الأمنية ـ بدءاً بالحقبة الناصرية ـ وتعاظم سطوتها على مناحي الحياة جميعاً، ما كان له إلا أن ينعكس على مضمون الأعمال السينمائية. إذ غدا المخبرُ شخصية إيجابية، وليست محتقرة كما في السابق. كذلك الأمر مع ضابط المخابرات، الذي صار يقدّم بصورة عامة كمكافح في سبيل الوطن، بملاحقته للجواسيس والمهربين وأعداء المجتمع. من ناحية اخرى، فثمة مفارقة يستطيع المرءُ تبينها في تلك الأعمال السينمائية لمرحلة ما بعد 23 تموز 1952 : ففي مستهل عهد الثورة، الميمون، كانت مواضيع الأفلام الميلودرامية تتعمدُ إدانة العهد الملكيّ، السابق، محملة أقطابه مسؤولية الإحتلال الأجنبي وضياع فلسطين ؛ كما في أفلام شهيرة، من قبيل " ردّ قلبي "، " في بيتنا رجل "، " جريمة في الحيّ الهاديء ".. وغيرها. مع بداية الحقبة الساداتية، والتي تمّ فيها فضح مرحلة الرئيس عبد الناصر، ووصمها بـ " عهد المخابرات "، فإن مواضيع السينما وجدت منقلبها في أفلام تساير التوجّه الموسوم، الرسميّ ؛ كما في أفلام " الكرنك "، " زوار الفجر "، " العصفور ".. الخ. ثمّ جاء العهد المباركيّ، مع مفتتح الثمانينات، لتعلن وسائل إعلامه أن تركة من الفساد، ثقيلة، قد ورثها من سلفه، علاوة على معاهدة السلام مع إسرائيل ! وإذاً، كان مخرجو الأفلام تحت الطلب هنا، أيضاً وأيضاً،، لتصوير تلك الحقبة السوداء من تاريخ مصر ـ هكذا ؛ فكانت أعمال سينمائية، عديدة، من بينها " زوجة رجل مهم "، " عصر الذئاب "، " المواطن مصري "..