غالوري الفنون

سندريلا السينما : حكاية ُ حياةٍ ورحيل

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

1
نكاد لا نعثرُ على مثال، جدير بالتأمل، لتطابق مصير فنان مع أعماله الإبداعية، مثلما نجده لدى الراحلة سعاد حسني. الآن، وقد أضحت حياتها أمراً فرطاً، ندركُ مدى إفتقادنا لسندريلا الشاشة ؛ بموهبتها الحقة ؛ رقتها النادرة ؛ قسماتها المعبّرة وبراءتها وعفويتها. هذه الفنانة الفذة، باشرتْ دربَ الإبداع وهيَ طفلة بعدُ، دونما ان يكون في ذهنها، الخليّ، ما يكتنفه من حجارة العثرة والخيبة. ما كانت حياتها، في شطرها الأعظم، سوى سيراً دؤوباً على حافة ذلك الدرب، الذي كان بالنسبة لها ـ في المستهل، على الأقل ـ نوعاً من مغامرة الوصول إلى سدرة حلم. ولكنه ما كان، أبداً، حلماً بالثروة والشهرة والجاه ؛ كما هوَ حال كثيرات ممن إمتهنّ الفن تجارة وشطارة !

سعاد حسني فقد عاشت سعاد حسني للفن، مكتفية به حدّ الرهبنة والتنسك. إنّ تقشفها وبساطتها، صارا اليوم من الأمور المعروفة للجميع، مما إضطرها في مختتم عمرها، الفاجع، لقطع رحلة العلاج وولوج نفق اليأس. فيما أنّ الأدوار المميزة، المعجّزة، التي قامت بتأديتها على مدى أربعة عقود من الزمن، كان من المفترض ألا تقيل عثرتها حسب، بل وأيضاً منحها حياة كريمة، لائقة. على أنّ قدَر فنانتنا، شاءَ لها أن تحيا في مشرقنا، البائس، لا في " هوليوود " مثلاً، أو في أيّ من عواصم الفن الاخرى، الغربية. يقيناً، ودونما مبالغة العاطفة، فإنّ سندريلا شاشتنا هذه، لتضاهي بعبقريتها أهم بنات جيلها في السينما العالمية. وصفة " العالمية "، لا تتحقق في الإلتحاق بسينما الغرب، كما قد يتوهم البعضُ من إشارتنا السالفة. فالممثل ـ كما هوَ حال الأديب ـ بإستطاعته الوصول إلى البقاع الاخرى من المعمورة، إنطلاقاً من بيئته ولغته وثقافته. بيدَ أنّ الأمرَ ليسَ سهلاً، بحال. إنّ تعذر بلوغ إبداعنا إلى الضفة الاخرى من المتوسط، هيَ من واردات النظرة الفوقية، المتعالية، التي يمحضها الغربُ للمشرق، عموماً : ولدينا في مثل ذلك، ما جناه عمر الشريف من رحلته الإبداعية ـ كأحد كبار نجوم السينما العالمية. فإنهم لم يتكرموا عليه بـ " اوسكار " واحد، لقاءَ أيّ من أدواره المهمة في الأفلام التي تصدّر بطولتها. لا بل، وللمهزلة، فإنّ إسمه كان منحدراً لمرتبة ثانوية في أفيش فيلم " الدكتور جيفاغو " ؛ هوَ من لعب دورَ البطل وتقمّصَ إسمه !

2
إثارتنا، منذ مستهل المقال، لمسألة تماهي مصير سعاد حسني، الإنسانة، مع هذه الشخصية أو تلك، السينمائية، ممن تعهدت هيَ تقديمها عبرَ مسيرتها الإبداعية ؛ هكذا مسألة، تحيلنا خصوصاً إلى لقبها الفنيّ، " سندريلا الشاشة "، الذي أشتهرتْ به : إنّ حكاية السندريلا والأمير، المنتمية لتراث الغرب، الشعبيّ، معروفة للجميع ربما. إنها قبل كل شيء، حكاية حبّ بين إنسانيْن من طبقتين مختلفتين. وهذا ما كان على سعاد حسني، ومنذ بداياتها الفنية، أن تتميّز به عن الممثلات الاخريات ؛ من بنات جيلها أو الأجيال السابقة سواءً بسواء. وللمقارنة في هذا الشأن، لنتذكرَ مثلاً أنّ جيل ليلى مراد، في أفلامه جميعاً تقريباً، كان يستوفي في كلّ مرة دورَ الفتاة الفقيرة، التي تقع في هوى شاب ثريّ. إلا أنّ الحكاية السعيدة لذلك الحبّ، المظفر، ما كانت لتتم سوى بالنهاية المثيرة، التي تأتي في آخر لحظات التأزم الدراميّ : حينما " تكتشف " بطلتنا، الفقيرة، أنها إبنة مفقودة لإحد الباشوات ؛ مما يحتم على أهل البطل، الوجهاء، أن يمحضوها محبتهم وإحترامهم ويباركوا زواجها من إبنهم ! مع جيل فاتن حمامة، الذي نضجَ إبان الثورة الناصرية، راحت الأعمال السينمائية تجسّد أكثرَ فأكثر شخصية الفتاة الريفية. هذا دونما أن نغفلَ الإشارة إلى حقيقة، أنّ موضوعات الفيلم المصريّ أضحت أكثرَ جديّة، مع ما أعطيَ من دور مهم للسيناريست. منذئذٍ، أخذ هذا ينأى بنفسه عن إقتباس قصص الأفلام الهوليوودية، والإلتفاتَ بالمقابل للإهتمام بقصص وروايات لكتاب معروفين من بلده ـ كطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويحيى حقي وإحسان عبد القدوس.. وغيرهم. سينما الستينات، أعادت الإعتبار للمدينة، بشكل عام ؛ وتحديداً للطبقة الوسطى، التي جعلَ دورها يتعاظم في المجتمع في تلك الحقبة. إنه جيل سعاد حسني بالذات، المتعيّن عليه تقديم صورة واقعية عن الفتاة المشرقية، العصرية، الساعية لإظهار إستقلاليتها وإرادتها وعاطفتها. هذا وعلى الرغم من غلبة الصفة الميلودرامية، على أفلام ذلك الزمن، الرومانسيّ، ووقوعها أحياناً ضحية المنتج وجشعه الماديّ، أو على الأقل ضحية لضعف الموضوع والإخراج.

3
" السندريلا "، بحسب الحكاية الخرافية، هيَ فتاة طموحة، متأرجحة بين التعبير عن أماني الفقراء والتحذلق للوجاهة والغنى. " السندريلا "، هيَ أيضاً تجسيدٌ للتغرّب في بيئةٍ غير أليفة، وظالمة إلى هذا الحدّ أو ذاك : كانت سعاد حسني، في كلا الحالتيْن، تلكَ الفتاة المنبثقة من الطبقة الوسيطة في المجتمع المصريّ ؛ وفي الآن نفسه، متغرّبة عنه بحكم كونها من أسرة مهاجرين " شوام ". هذه الحقيقة الأخيرة، دأبَ على تجاهلها كثيرٌ من النقاد. وقد ذهبَ أحدهم للتأكيد بأنّ تميّز سعاد حسني، سينمائياً، إنما لكون ملامحها تفصح عن : " الشكل المصريّ العربيّ، الصميم " ( إبراهيم العريس، في إحدى مقالاته في مجلة " الفن السابع " / عدد رقم 45 لسنة 2001 ). بيدَ أنّ نجمتنا هذه، وبغض النظر عن سمرة بشرتها، فإنّ ملامحها توحي بإنتمائها الحقيقيّ، المعروف ؛ هيَ المنحدرة من عائلة دمشقية ـ كردية الأصل. بتلك الصفة، كان من المقدر لسندريلا الشاشة أن تصبح في أدوارها كوسيطة بين من سبقها من الممثلات اللواتي جسّدن شخصية بنت الذوات أو الخواجات ـ كمديحة يسري وليلى فوزي ومريم فخر الدين ونادية لطفي.. وأمثالهن ؛ وبين هاته الممثلات اللاتي لعبن أدواراً أقربَ لنساء البلد ـ كفاتن حمامة ولبنى عبد العزيز وسميرة أحمد.. على سبيل المثال. من ناحية اخرى، كان من مما له مغزاه حقا، أنّ يكون مكتشف سعاد حسني شخصاً مثقفاً ـ كالأديب عبد الرحمن الخميسي، ذي الميول الفكرية، الماركسية. فنانتنا هذه، الموهوبة، برهنت على أن وجهها الجميل، المعبّر، يصلح للأدوار جميعاً ؛ وهيَ حالة نادرة بالفعل، لم يشهدها الفن السابع، المصريّ، إلا في شخص الفنانة شادية. ولكن سعاد حسني أثبتت تفوقها على من سبقها، وكذلك على من جاء بعدها ؛ بتلك الحيوية المدهشة، المتأصلة فيها جسداً وروحاً، على السواء، كما وبخفة ظلها وظرفها وبراءتها. شمَسَ إسمُ السندريلا وذاع في آفاق العالم العربيّ، إعتباراً من قيامها ببطولة فيلمها الأول، " حسن ونعيمة " ( إنتاج عام 1959 )، وكان عمرها آنذاك لا يتجاوز السابعة عشر عاماً. كانت قصة الفيلم لعبد الرحمن الخميسي، وهوَ من قدّم الفنانة الصغيرة السنّ إلى المخرج العملاق هنري بركات، الذي أجرى لها عدة إختبارات، ومن ثمّ أسند لها البطولة المطلقة جنباً لجنب مع المطرب محرم فؤاد. في هذا الفيلم، لعبت سعاد حسني دور صبية ريفية، وقد أجادتْ فيه حدّ أنّ المخرج الواقعيّ، الرائد، صلاح أبو سيف، سيعهد لها لاحقا ببطولة فيلمه " الزوجة الثانية " ( 1967 ) ؛ المعتبر بحق من أهم أدوارها قاطبة. هنا أيضاً، كانت فنانتنا تلك الفلاحة، الحدثة السن، المجبرة على قبول العمدة الكهل زوجاً ( قام بالدور صلاح منصور )، بعدما أضطروا رجلها، عنوة ً، لتطليقها ( النجم شكري سرحان ). بعد ذلك بسنوات ثلاث، ستلتقي السندريلا مع أمير أحلامها. كان ذلك في سويسرا، وفي إحدى البقاع الساحرة، المظللة بهامة جبل " الألب "، حينما تعرفت على علي بدرخان، أثناء تصوير فيلمها " نادية "، من إخراج والده، المعلم أحمد بدرخان. تنتمي الأسرة البدرخانية، المصرية، إلى فرعها الشاميّ ؛ من سلالة الأمير بدرخان باشا، حاكم " بوطان " في كردستان، والذي نفيَ بأمر الباب العالي إلى دمشق في أواسط القرن التاسع عشر وفيها توفي. وفضلاً عن المخرجين الكبيرين هذين، فقد عرف من تلك الأسرة العريقة، أيضاً، الفنانة ليلى بدرخان ؛ والتي حققت شهرة عالمية ـ كراقصة باليه، عرفتها مسارح باريس وبرلين في ثلاثينات القرن الماضي، ولها إبنة وحيدة ؛ هيَ نيفين بدرخان، الإعلامية المصرية. عودة إلى فيلم " نادية "، الذي يُعتبر من معالم السينما المصرية، لنجدَ أنه كان أيضاً فاتحة لحياة جديدة، بالنسبة لبطلته، السندريلا. وفضلاً عن أنّ سعاد حسني عرفت مع علي بدرخان أجمل أيام حياتها، كما صرحت بذلك للصحافة، فإنها تعاونت معه في عدد من أروع أفلامها ؛ مثل " الكرنك " عام 1975، " شفيقة ومتولي " ( 1976 )، " أهل القمة " ( 1981 )، وآخر أفلامها " الراعي والنساء " عام 1991.
للبحث صلة..

Dilor7@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف