قص

رحلة في ذاكرة متعبة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ثلجٌ يتساقطُ بغزارة، فشتاءُ مدن الصقيع قاسي البرودة. جلستُ في محطة الباص الذي يقلُني الى عملي صباحاً ، اراقب المارة والمنتظرين.
في الجانب الاخر من المكان مدرسة للاطفال تحيطها الحدائق من كل جانب ، تطلُ على فضاء واسع من الغابات، وكأن الطبيعة بجمالها وبهائها تكاد تحتضن براعم المستقبل وهي تنتشرُ بين الصفوف وساحات اللعب والمرح، محاطة بالرعاية والاهتمام والحب، تبعث الأمل في النفوس بمستقبل لأجيال تنموا وتترعرع ، وتنهل العلم في اجواء تليق بطفولة غضة يانعة.
طفلٌ يحملُ حقيبته المدرسية، خطواته تسبقه الى رصيف المدرسة، بملابس زاهية ومرتبة.. على شفتيه ابتسامة رضا ..ومن عينيه يشعُ بريق امل وبهجة ، ووالده في سيارته يلوح له بالوداع قبل ان يغادره وهو يتوجه صوب طريق المدرسة لينضم الى اقرانه في الصفوف الدراسية.
يأخذني المشهد ذاته بذاكرة اليمة ومضنية الى وطن يئن وجعاً ونزيفاً يومياً لاينقطع، الى مدن ٍتأبى ان تخلع ثوب الدخان وضباب الموت.. ضباب قاتم وخانق يهوي مكتسحاً الق النهار، ذاكرتي تقودني لزيارتي الى الاهل في الوطن ، اتلمس خطى طفولتي الاولى ، حنيني واشتياقي لاشياء كثيرة لم تزل عالقة في الذهن،لزمن يمتد قرابة ال25 عاما من الرحيل والتغرب والحنين، وهاجس العودة يلازمني اينما كنت. كنت يومها اجلس الى جانب قريب لي يقود سيارته متنقلا بين شوارع بغداد واحيائها، انظرخلف زجاج نافذة السيارة ، الى حدائق لم تعد حدائق.. شوارع النزهات خالية من المتنزهين.. بقايا ابنية التهمتها حرائق حروب قسرية موجعة .. بقايا ارصفة تلاشت جوانبها تحت عجلات الدبابات.. جنود بقبعات تخفي ملامح وجوه غريبة ودخيلة ، تصوب فوهات الرشاشات نحو المارة والسيارات، اصوات انفجارات واصوات سيارات اسعاف .. طوابير كبيرة امام ما يسمى بمحطات البانزين؟؟ أفرك عينيّ بين الحين والاخر كما لو اني في كابوس مرعب يبدد احلام جميلة وامال كباررافقتني على مدى اكثر من ربع قرن من زمن سقط من شجرة العمر كأوراق خريف تعصف بها الريح فى دوامة المجهول..
عبثاً كنتُ ابحثُ عن الوجوه التي عرفتها.. وجوه متعبة حزينة، فقدت نضارتها وبسمتها، واجساد انهكتها النكبات والخيبات والمآسي ، وكأن الايام والليالي تمضي بتلك الوجوه والاجساد الى ايام لايريدونها ،في رحلة موت عبثية، تتكرر فيها المشاهد بأنواعها واشكالها الدامية والمفزعة ..
لم اكن اصغي بشكل كامل لقريبي وهو يتحدث عن اسماء المحلات والمناطق الجديدة، لكنه اثار انتباهي وهو يؤشر على احدى المناطق : (هذه منطقة الشرطة الرابعة).
اقتربت السيارة من المكان :طرقات آسنة..ابنية اشبه ببيوت طينية قديمة..محلات بائسة .. باعة متجولون هنا وهناك.. اطفال حفاة بوجوه بريئة سُرقت منها بسمة الطفولة وبهجتها، نساء مجللات بالسواد والفقدان والحزن والاسى..
اقتربنا أكثر من المكان نفسه وانتهى بنا المشهد الى فسحة كبيرة بعيدة عن البيوت والمحلات، تتراكم فيها اكوام من القمامة ، تنبعث منها شتى الروائح النتنة، بقايا اجهزة قديمة وقطع حديدية صدأة، هياكل لسيارات شحن وسيارات نقل قديمة موزعة هنا وهناك، او قل تكاد تكون في دائرة واحدة..
اصابني الغثيان وانا اتفاعل مع مشهد لا انساني لحياة لا تليق ببشر،و قريبي الذي يقود السيارة بهدوء ، يوحي لك صورة العراقي الذي ألف مثل هذه الامور فأصبحت خارجة عن اطار الاستغراب ، وكأن الامر طبيعي ارتباطا بدوامة القتل العشوائي والتفجيرات اليومية...
ادار مفتاح جهاز التسجيل في السيارة مداريا للموقف على اغنية لفيروز: ( وينن... وين اصواتهم وين وجوهم.. وينن؟؟؟)
دار حديث بيني وبينه اثناء ذلك والصورة تكاد تقترب اكثر كلما اقتربنا من المكان، سألته : هل بأمكان امانة العاصمة او بلدياتها ان ترفع هياكل السيارات بعيداً عن هذه المنطقة السكنية الا يكفيها ما تعانيه، وعلى الاقل الاجزاء الكبيرة منها ؟ او ازالتها وتنظيف المنطقة كما هو معتاد بجرافات، اوتجميعها في منطقة واحدة او زاوية واحدة من هذا المكان؟
انتفض غاضبا واسكت جهاز التسجيل على الفور، بطريقة لاتخلو من الاحتجاج، وكأن سؤالي قدايقظ فيه مواجع لاحدود لها ، او كالذي يُؤخذ منه شيئا عزيزا لا يعوض، وبدأ يردد بلهجة لاتخلو من الألم : ( لا... حرام...حرام) وباللهجة العراقية: ( خطية... خطية).
ذهلتُ لذلك ، فردة فعله لا تنسجم مع هذا المشهد حسب ما اراه ويراه الذي يدخل الى المكان لاول مرة؟؟ عجبا ً مالذي اصابه هو الآخر؟
ظل السؤال يدور في ذهني، دون ان اجد له جواب،حتى توقف بسيارته جانبا .. سرنا مشياً على الاقدام ونحن نقترب من المكان .
شربنا من قنينة الماء التي كنا نحملها، فالجو حار في شهر ايار لدرجة لا تطاق. واصلنا سيرنا، والمشهد يقترب اكثر الى واقع جعلني اقطع شكي بسيف يقيني، واقع يصعب على المرء ان يصفه او يدركه كحقيقة لا فرارمنها..
رجل طاعن في السن، محني الظهر، يعد الشاي على كومة حطب، ينبعث منها لهيب ودخان ،عند باب احد هياكل ( سيارات الشحن الكبيرة)، اقتربنا منه ، والقينا التحية عليه ، فرحب بنا بطريقته العراقية الحميمة، وبلهجة العاجز المتشكي رفع رأسه الينا ونظر الينا باندهاش وكأننا جئنا من عالم آخر:( تفضلوا.. تفضلوا..). اثار صوته انتباه من كان في الداخل اي داخل الهيكل، فتجمدت الأسئلة على لساني حين خرج طفلان ، يبدو انهما كانا نائمين، وأمرأة شاحبة الوجه جميلة القسمات ،بشباب ذابل منهك. في تلك الاثناء خرج اطفال ونساء ورجال من بوابات اخرى، لأنقاض اخرى مترامية هنا وهناك،وانا ادور في رأسي في كل الجهات، انظرهنا وهناك في المكان نفسه: نساء يغسلن الملابس، واخريات يجلبن الماء من المنازل القريبة، اطفال يفترشون العراء تحت اشعة شمس حارقة ، والصورة توحي بمكان تجمع لبشر يسكنون العراء، بكل ما تحمله هذه العبارة من معاني لا انسانية لحياة بشر يعيشون على ارض وطنهم ،في هجرة جماعية الى منفى لا يجدون فيه مأوى لهم..وقريبي يسير الى جانبي ويردد:( جرافات اليس كذلك.. واين سيسكن هؤلاء ؟؟ هذا هو مأواهم عزيزتي ..) واطلق ضحكة ممزوجة بصرخة ألم وسخرية قائلا:( انهم يسكنون فوق بحيرة من النفط..)
وتجلت الحقيقة بكل معانيها القاسية والمؤلمة، تأكدت عندها ان هياكل السيارات القديمة قد حولوها الى مأوى في العراء ، صراع من اجل الحياة، ولكن اي حياة تلك التي يعيشهاهؤلاء ( الاحياء) في حي اطلق عليه، تسمية تليق بشهداء على قيد الحياة، انه :( حي الشهداء).. وهنا تذكرت على الفور قولا للشاعر القلسطيني سميح
القاسم: ( سنمنح ُ الشوارع اسماء من لم يسيروا عليها)..
لا زال الثلج ينهمر ، والباص يتوقف عند المحطة ، انه يوم عمل جديد، ويوم عراقي جديد، مضمخ بالدم الزكي يطالعني على صفحات جريدة الصباح وهي تنقل الحدث والصورة ، لتفجيرات في احياء من العاصمة بغداد، صور لضحايا جدد قتلى وجرحى في احد الاسواق القريبة من الحي المذكور( حي الشهداء)..
ها انا لا زلتُ اتلمسُ آثارهم على ذهب الشواطئ المتيمة بالجمال والنخيل وصورهم لازالت عالقة في ذهني ، ترافقني اينما أكون في ذاكرة متعبة .. لرحلة لقاء عزيزة

قد لا تتكرر...

قاصة من العراق
haifa_zy@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف