قص

خصوصاً النساء

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

جاءت إيليا حاملة زهوراً لي وسكاكر لعاصي، عادة الهولنديين حين يقومون بزيارة بيتية. تناولتها منها وتحدثت بإنكليزيتي السورية: شرّفت، وشكراً على الورد. ردت بعربية هولندية: لا شكر على واجب.
إيليا طالبة تدرس اللغة العربية في جامعة لايدن، تجاوزت الستين بسنين، شعرها أبيض، ومتحمسة لمعرفة ثقافتنا بدمها. صارحتني أنها فكرت بهذا بعد ظاهرة بن لادن. قالت: أريد أن أفهم العرب والإسلام وخصوصاً النساء.
وكانت تلح في فهم أمر أصبح مثل وسواس في رأسها:
ـ لِمَ تقولون ما لا تريدون، وتفعلون أيضاً غير ما تقولون، وأحياناً غير ما تريدون، ثم تضيف: هذه الازدواجية أمر منهك لصحة حاملها.
شرحت لها طويلاً، وحاولت توضيح أمور عديدة كانت بذهنها بعيدة جداً عن الواقع. فوجئت ثم قالت بصراحة ومباشرة:
ـ هل تستقبلينني في سوريا أسبوعين؟.
سهلت لها الأمور كثيراً، فامتلأت بالحماس. بعد أيام اتصلت تحكي النوادر التي مرت بها في القنصلية السورية لتحصل على فيزا الدخول.
ثم توقفت فجأة وقالت:
ـ سمعت أن مدينتك تقليدية. وسكتت. ثم أضافت:
ـ أريد ان أزور كل البيوت في حماه ومن كل الطبقات. لا تهمني المتاحف، زيارتها تشبه تصفح كتاب بورق فخم وملون لا أكثر.

لم أذهب بها إلى تدمر ولا إلى قلعة حلب. كما لم أشرح لها تراث أفاميا ولا تاريخ النواعير.
كنت كل يوم آخذها لزيارة جامع في مدينة. نضع العباءة، نمر على دورة المياه أولاً، نلقي نظرة على الثياب المشمَّرة للوضوء قبل الصلاة، نمر على العتبات الملأى بأحذية المصلين، ثم ندخل. كانت إيليا تصر على حمل حذائها بيدها، تضحك:
ـ المغاربة يشتكون من سرقة أحذيتهم في جامع لايدن، وأنا لا أريد أن أرجع حافية.
تتابع حركة المصلين، وتبتسم بحنان شديد للصغار حين يتراكضون بأقدامهم الحافية. ثم تراقب أكفهم المرصوصة مرفوعة للدعاء وراء الإمام. وتقول: مازالوا صغاراً.

أحبت أكلات كثيرة ومتنوعة ومن كل الطوائف، واستمعت للهجات متعددة، وحاولت تقليدها مستوعبة ضحك الحاضرين عليها.
أخذتها للأسواق مرات عديدة، لأني أحب السوق من جهة ولكي أشجعها على أسعار الليرة الخجولة جداً بالمقارنة مع أسواق اليورو. لم يعجبها من كل البضائع إلا لوحة من المخمل مكتوب فيها أسماء الله الحسنى، تسعون اسماً، وبساط أحمر، قالت إنه هديتها لزوجة ابنها. نعم، وكي لا أنسى فقد اشترت "مسبحة" وسيديات لمطربين جدد. عرضت عليها أن تشتري بعض الأشياء التراثية، عباءة مخملية ومطرزة بخيوط الصرمة، قماشاً حموياً مطبوعاً بلون سكري وأسود، يسحرني، وبقجة حمام.. شجعتها، لكن لم يشدها إلا البضائع التي تحمل عناوين واقعنا. قالت: تشتكون من استبداد الحكام، ماشأن الحاكم بهذا؟، وأشارت إلى عيلة جلست على بساط بجانب كومة من الزبالة من دون أن يفكروا بتنطيف ما حولهم. قالت: هل تمنعهم الدولة من تنظيف المكان؟.
خانتني الإجابة السريعة، فقلت بصوت منخفض: هذا ليس همهم، التراكمات في داخلهم تلهيهم عن مراقبة محيطهم.
راحت تدور بعينيها بين النسوة المحجبات، وقالت بأسف:
ـ كم أشعر بظلمهن.
هنا أصابتني النخوة، ورحت أوضح لها أموراً أخرى، منها أن ليست كل زوجة تضع المنديل على وجهها فهي تغطي أثر صفعات زوجها لها، وليست كل امرأة بثوب قصير وذراعين عاريتين هي بالضرورة زوجة مدللة.
ثم شاغلتها: ستحضرين عرساً حموياً تقليدياً حديثاً. أهله أوادم. العرس في صالة متوسطة تؤجر للأعراس. مكيفة ومقاعدها مريحة وضيافتهم ستكون آيس كريم وراحة بالفستق. والعريس موظف في الشركة الأهلية للنقل، آدمي ويرضي أمه وأباه. والعروس بنت جيراننا مرباية ومهذبة، معلمة في إحدى القرى المحيطة. تخرج في السادسة صباحاً من بيتها وتتنقل بثلاث وسائل مواصلات وتعود في الرابعة عصراً، حذاؤها مثقل بالطين، تخلعه سريعاً لتلحق صلاة العصر. راتبها سيزيد ستمائة ليرة عند أول ترفيعه. الكل يتحدث بدينها واستقامتها.
ساعد أهل الخير العريس والعروس باستئجار غرفتين، أما أثاث النوم فقط كان هدية من خال العريس الذي يعمل في السعودية. لم تخجل أم العروس وطلبت من الأقارب أن تكون هداياهم نقدية كي تشتري الفرن والطناجر أما البراد فقد أخذوه مستعملاً يعمل بالنظام القديم، والغسالة، فلا مشكلة يمكن تأمينها لاحقاً بالتقسيط.
اشتهت العروس البدلة البيضاء فدبرتها أمها بتدبير الأمهات، واشتهت دورة العروس فدبرها أخوها الذي يعمل سائقا في مكتب تاكسي. أقنع رفاقه من السائقين أن يطلقوا زمور سياراتهم نصف ساعة في شوارع حماه حاملين أهل العروس من بيت العروس إلى صالة العرس.
حين دخلنا الصالة، كانت أول جملة قالتها إيليا:
ـ نساء جميلات، كلهن يشبهن بعضهن.
نساء يرقصن مع النساء، والرجال يرقصون مع الرجال في سهرة العريس في صالة أخرى.
رقصت إيليا رقصاً مخلصاً بين الشرقي والغربي، أضحكت الحاضرات طويلاً وصرن كل حين يسحبنها للمشاركة على المنصة. تناولت الآيس كريم وهي فرحة، ووضعت مثلنا قطعة الراحة بالفستق في حقيبتها، ثم أخذت من جارتنا قبضة من البزر وجلست تتسلى. التفتت نحوي:
ـ إذا كانت المرأة تتجمل من أجل الرجل، فلماذا يضعن المكياج؟ ولماذا يرتدين هذه الثياب الفاضحة؟ وليس هناك أي رجل في السهرة.
كانت أكثر جملة سمعتها مني طوال زيارتها:
ـ من الصعب شرح ذلك. وأحياناً أضيف: لن تفهمي.
كانت في كل مرة تسمع مني هذا، تهز رأسها متفهمة.
فجأة انطلقت الزغاريد بشكل أقوى من السابق، وصاحت إحدى النساء:
ـ وصل العريس.
كانت إيليا وسط الراقصات على المنصة. تراكضت النسوة، وتناولت كل منهن غطاءها وعباءتها، وضعتها عليها.
جلسن على الكراسي. خلال ثوان تحولت الصالة المضيئة بالوجوه الملونة والأكتاف العارية البيضاء، إلى كتل سوداء متراصة. كادت إيليا تبكي من دهشتها حين تركنها وحيدة على منصة الرقص. التفتت نحوي منادية:
ـ ماذا حدث؟.
ربما ظنت أن عملية إرهابية استهدفت الحفل، لأن فيه سائحة أجنبية.
أجبتها:
ـ وصل العريس.
هزت رأسها متفهمة جهلها. ثم استدارت:
ـ لكن لماذا تحجبن، وتوقفن عن الرقص دفعة واحدة؟.
دخل العريس، شاب رقيق في الثامنة والعشرين، كان مضرجاً بالخجل. تحرك نحو عروسه بارتباك وسط عيونهن المراقبة من وراء أغطيتهن. استبدل العروسان الخاتمين من اليمين إلى اليسار ورقصا معاً لدقائق، ثم خرج الشاب سريعاً كمن خلص من مأزق.
ما إن غاب العريس، حتى رمت النساء أغطيتهن وعباءاتهن، وانطلقن ثانية باتجاه المنصة، بأذرعهن المتلألئة وحمرة شفاههن القوية.
انزوت إيليا في كرسيها صامتة، ورفضت دعواتهن للرقص.
في الصباح غادرت إيليا سوريا. وبعد عدة شهور أرسلت تعلّق على العرس:
ـ كل هذا العدد من "الحجابات" كان ضد شاب واحد؟.

Sarraj15@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف