قص

حلم مطرز بالدنتيلا

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


(الانسان العصري يرتدي ربطة عنق زاهية الالوان).. نداء أخرس تردد في رأس(جليل) أكثر من مرة.. فكر كثيراً بهذه(الربطة) الزاهية، او بالأحرى أخذ يفكر(بالالوان الزاهية) التي تزين ربطة العنق، لكن دون جدوى.. فهو يجزم ان هذه الكلمات الجوفاء كان قد قرأها في كتاب ما.. الا انه نسي اسم الكاتب مثلما نسيّ اسم كاتبه؟
وحينما وطأت قدماه رصيف الشارع، هبت نسمة صيفية لفحت وجهه، لتعيد اليه الشعور بالأطمئنان، لماذا؟ لأنه لا يعلم بالضبط.. ولم يشعر بالفرح كلما تنسم تلك النسمات الشرقية، فموجات الضحك الصاخب والثرثرة المنبعثة من جموع الزاحفين على الرصيف، أثارت في نفسه الشوق الى الماضي، حتى تلك الفتاة التي كانت تنتظره في ساعات اول المساء، يكاد يراها بين تلك الجموع، رغم انها هزأت منه عندما لم يستطع ان يقدم لها في اول لقاء زهرة، اوبطاقة اعلان حبه لها، او ان يدعوهاالى مقهى بعيد عن ألأعين مثلما يفعل العشاق والمحبين.
لقد ظل مسكونا بالهواجس والقلق..ذاك ماضٍ دفين انقضى مع من قضى نحبه.. فعلام يفتكره -علام نفتكر الافراح في واقع المآتم والاحزان؟؟ ربما هو الحنين لتلك الايام التي ما برحت تراود ذهنه كلما احس برعشة فرح من تلك الايام التي كان يزهو بها بشبابه الغض. وراح يفكر كيف كان كلما فرغ من احتساء زجاجة خمر، وبمرارة الوحدة القاتلة الضجرة، وبالسأم المميت الذي لا حدود له.. السأم الذي يحفر في رأسه الف فكرة شيطانية. أما الا َن فأن الأنتعاش يهزه طرباً كلما دارت الخمرة في رأسه(الصغير)؟..
ذاك زمان(ياجليل)!! فأنت الا َن يزداد عشقُكَ لسماع قطعة موسيقية شرقيةnot;-عنيفة الايقاع-!!ايه.. قلنا انه زمان ولى دون رجعة، فعلام تذكره وانت الا َن في الخمسين من عمرك؟؟ خمسون ربيعا ً اجتزتها بفحولة تحنُ اليها فتيات مدينتك وانت في دهشة ذلك الريعان المتوقد..خمسون شتاء تخطيتها وانت تشوي الكستناء في عيون الغجريات الفاتنات!! أما الان، فأنك تحرق البخور كل ليلة في (صومعتك) لتكتب قصيدة شعر مغلوطة الاوزان، تحشو بها كل همومك.. تريد ان تجعل من هموم العالم همومك، وبين كل كلمة واخرى تحتضرُ اللغة العربية (عرجاء) في قلمك؟ يحز في نفسك ان لاتعرف لغتك كما يجب (يا جليل)، فتقبع في (صومعتك) مهموما ً، تقرأ في ورقة صغيرة مدون بها بعض الكلمات، كان قد كتبها لك -استاذ متبحر في كل شئ- وأخذت تقرأ بصوت عال ٍتسمعه وحدك فقط:
الرقم (4) يكتب (أربع) اذا كان للمؤنث... ويكتب (أربعة) اذا كان للمذكر..
أما الرقم(2) فيكتب(اثنتان) اذا كان للمؤنث... ويكتب (أثنان) اذا كان للمذكر..وهكذا.. الا ان سؤالا َ ظل يلح عليك حتى سألت - أستاذك- :
- ولكن لماذا تكتب هكذا، ومن اين جاءت تلك القاعدة؟؟
- فاجابك - الأستاذ- متحيراَ هو الآ خر: لا اعلم!!
حسناَ! ستتمكن في يوم ما من اللغة العربية كما يجب، قالها يوما لك صديقك (احمد) وانتما تعبران احد شوارع مدن(البلقان). كان ساعتها البرد القارس يهز أكتافك..وقد نسيت أن تأتي معك من(بغداد) بمعطف والدك القديم كيما يقيك صقيع ذلك البرد الذي لم تألفه روحك المتعبة...فبقيت قانطاَ مسكوناَ بالحنين الى مدينتك تلك التي غادرتها.. لحبيبتك(ش) وهي تنعم بدفء الذكرى، وتجترُ حسرة الوداع، وهي تسحب اناملها من بين راحتيك فتتركها طليقة تعبث بها الريح، فتتوارى خلف تلك العينين الجميلتين، لترى العالم من نافذة روحك المطلة على حزنهما..
هاهو الزمن تطوحه نشوة الخمر في رأسك.. فالساعة تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، وانت : أيها
(الجليل) لم تعد بعد الى منزلك الذي غادرته منذ الصباح! وزوجتك(أمينة) وأم اولادك -قد انهكها النعاس - تُحيي قدومك بصوت أتعبه الأنتظار:
-هل أسخن لك العشاء..؟
تسائل (جليل) وقد نسيّ ساعتها أن كان قد تناول وجبة طعام يومية اسمها (العشاء).. فاجاب:
-لا.. لا حاجة لذلك..! لقد تناولت قليلا من الطعام مع زميل لي في دار (الجريدة)..
- ألم تتأخر اليوم كثيراَ يا (جليل)؟؟تسائلت (أمينة)..
-فأجابها: نعم بعض الشئ..
فعادت تتسائل: أين كنت..؟
- في الجريدة طبعاً..
- أفي مثل هذا الوقت؟؟
- لمَ لا..؟ كان عليّ أن أنجز عملا ً..
- وما هو هذا العمل يا ترى..؟
-أنه عملٌ طارئ.. فقد كان هناك فراغ ما في الصفحة(الثالثة) ومن المفروض البحث عن خبر أوحدث يغطي تلك المساحة قبل أعداد العدد للطباعة..!
- اليس هناك غيرك من يقوم بذلك؟؟
-حقاًً كان هناك من يمكنه ذلك.. الا أن الآراء كانت مختلفة حول الخبر الذي يجب ان يحتل ذلك الحيز من الصفحة.. وأخيراَ التقطت تعليقاَ صغيراَ من أحدى الأذاعات العربية!!
- فتسائلت (أمينة) هازئة : وما هو هذا التعليق يا ترى؟؟
-فأجاب (جليل) بلا مبالاة!!
-عن مؤتمر القمة العربية المنعقد حاليا، وبالذات عن مشكلة التضحم السكاني في البلدان النامية، أي البحث عن حلول لمعالجة ظاهرة العجز المالي في بلدان عربية غنية بالثروات الطبيعية.. المقصود البلدان الغنية بالنفط.... مثل بلدنا(العراق)..!!!وكيف يمارس فرسان السياسة العربية دورهم في تعزيز ودعم الشركات العملاقة على حساب سرقة قوت الملايين من الشعوب المستضغفة... وكيف تتم صفقات بيع الأسلحة لتلك البلدان بعائدات تلك الثروات.. أنهم هم أنفسهم...!!!
هزت أمينة أكتافها مكترثة، وأهتزت معها (دنتيلا) رثة، قديمة، تحيط محيط رقبتها.. هو ثوبها الوحيد الذي تحتفظ به منذ زمن بعيد، كي تبدو به أكثر فتنة أمام زوجها، وهما يتهامسان ويتبادلان الحب عند المساء بعد عودته من العمل..
مضت صامتة تندسُ في سريرها، بينما (جليل) ينظر اليها بأكبار.. الى ايقاع جسدها الظامر في فتنة من الأنوثة العذبة، وهو يثمن تضحيتها الكبيرة((فمن سواكِ يا أمينة ترتضي الزواج بك أيها الشيخ الخرف))؟؟ حتى أقرب الناس اليك قالوا ذلك يوم تزوجتها.. لكن أخلاصها وشغفها المتناهي بك وحدك يحرجكَ كثيراَ، فتود في كل مرة أن تعرب لها عن حبك، محاولا َ استعادة تلك الكلمات التي كنت ترددها لها منذ سنين.. وانت تعلم أنك َ قد تكون غير جاد في كل مرة!! وأنت تتجاهل لهفها وابتسامتها، التي لم تبخل بها يوماَ عليك!! تلقي عليها وعدك الجديد :
-سأشتري لك ِ غداَ ثوباَ جديداَ....
نظرت اليه من خلال دموع عتاب، وتمتمت:
- لاحاجة الى ثوب جديد.. سلمت انت كل شئ لدي...
-حبيبتي قالها هذه المرة من اعماقه..غداَ سأشتري لك ثوباَ جديداَ.. ومطرزاَ(بالدنتيلا..ّ!!)
- لم تكن تقوى على التعبير.. فقد كانت دموعها سيلاَ جارفاَ يكتم صوتها... وتابع(جليل) مواسياَ دموعها محاولاَ ان يكسر لحظات ذلك الحزن الممزوج بالفرح.. انها تنعم الآن بلحظة حب وحنان قد لا تتكرر دائماَ:
- انتِ تحبين (الدنتيلا) أليس كذلك؟؟ أنتِ مثل صديقنا (..) في حبه لسماع أغاني(أم كلثوم) ومثل زوجته التي تحب اللون الأصفر فقط...
- واطلق ضحكة مصطنعة.. أراد بها ان يمسح شائبة الحزن من عينيها، بينما راحت تفكر بوعده لها:
-ثوب مطرزٌ(بالدنتيلا؟).. الوانه زاهية، تسلب الأنظار..يشد العيون اليه: هل هناك نساء يملكن ثياباَ أجمل من ثوبي؟؟ أليس لأثواب زوجاتكن أيها الرجال ثوباَ مطرزاَ(بالدنتيلا)؟؟؟
كيف سأبدو به أمامك يا (جليل)؟؟ وهل سيرى الاَخرون تلك (الدنتيلا) التي تزين صدري واكمامي واطراف ثوبي، هل سأخبأه فقط لحضور الاعراس والمناسبات أم...
قطع عليها حلمها صوت (جليل) المخمور القادم من قاع سحيق :
- جميل أن تنعمي بثوب جديد يا عزيزتي.. و(بالدنتيلا) التي تحبيها كما تحبيني....!
- القى بنفسه المثقلة بالهموم والاحلام والتعب، الى جانبها على السرير، أخذ يدها بين يديه، وتذكر أنه لم يمنحها تلك اللحظات منذ فترة طويلة لا يعرف مداها!!
- حبيبتي (أمينة) غداَ سأقدم للجريدة مقالة شاملة كتبتها عن جياع أفريقيا.. وسأتقاضى أجوراَ عليها : عشرة دنانير... تصوري عشرة دنانير ثمناَ لمقالة عن الجوع!! وسأشتري لكِ بهذا المبلغ، الثوب الجديد الذي وعدتك به..
- وبصوت لا يخلو من الغرابة والاستهجان تسائلت:
- مقالة عن الجوع بعشرة دنانير؟؟ اذن لوكتبت مقالاَ عن (الشبع)، عن الأتخام والغنى، فكم سيكون ثمنهُ؟؟؟
- ضحك(جليل) للمرة الأولى في ذلك اليوم وأجابها:
-سيكون كثيراَ... كثيراَ جداَ..!
فعاودت معلقة على جوابه:
- اذاَ أكتب غداَ مقالاَ عن الأتخام والمتخمين، وعن الغنى والأغنياء....
- ضحك(جليل) مرة اخرى، شعر بسعادة تغمره، قلما يعيش لحظاتها وقال:
- حبيبتي.. لو لم تكوني معي لقلتُ تباَ لهذا العالم الأخرق!! ماذا تريدينني أن أكتب؟ هل تريدينني أن أجعل من ألأسود أبيض، ومن ألأبيض أسود؟؟؟
- لم تمتلك (أمينة) ألأجابة.. صمتت...
وعندما طال صمتهما، عاد(جليل) يردد وقد غالبه النعاس:
- غداَ وليس بعده سأشتري لك ثوباَ زاهياَ.. مطرزاَبالدنتيلا.. بالدانتيلا....بالد.....

Haifa_zy@hotmail.com
كاتبة وشاعرة عراقية مقيمة في السويد

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف