قص

لا يشبهني...

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


كنت كتابا مفتوحا أمامه كما يقال، وكنت بعيدا عن مجرد التفكير في أن أتفرعن كما كان يدعي، أو ألوذ بلباقتي الزائدة وتفنني في اللباس، أو أدخن بتلك الطريقة السافلة باستعمال مقدمة أصبعي في القبض على السيجارة، ثم نفث الدخان قريبا من محيا البنات كوسيلة للاجتذاب بلغة الصيد التافهة.
كان دوما متشحا باللارضى والضيق.. وقد عمٌر ذلك معه.. لكن ولأنني أحبه وأخلص بلين لتلك الأيام الطويلة التي اكتشفنا فيها معا ونحن نجتاز الطفولة، أكثر المواقف إثارة للدهشة والفجور، كنت أتصرف وكأن ذلك الكلام لا يعنيني، لعلمي بحاجته إلي، وانخراطه العجيب في التخلص على عجل من تلك الإساءات الهينة، بإلقائه ظلا آخر من الهزل والضحك والاستخفاف بعد أن نبقى وحدنا.
مضى زمن كي أدرك بعد العشرين أن صديقي كان يفعل ذلك لإحساسه بالإهمال، ليس مني طبعا، بل من البنات حولنا.
كنا قد تصاحبنا على البحر ذات صيف قائظ. جاء مع أبيه الذي كان يزين الحدائق بمشاتل الورد في البلدية، وجئت مع أبي الذي رآهما فهب هاشا للسلام والغرق في الثرثرة، لننجح نحن بعفوية ووفاق في أن ننسج في تلك العشية باللعب الحلو و العراك أول خطو على طريق صداقتنا التي ابتدأت بتلطيخ أجسادنا بالرمل.
كان قصيرا هشا عكسي تماما، وحين ازرق شاربي ولحيتي نبتت على غفلة منه شعيرات بذيئة متفرقة، صهباء كزغب الحمير، صار ينتفها بملقاط حواجب البنات الذي كان يدسه لهذه الغاية في جيب جينزه الخلفي المرقع، موضة ذلك الوقت.
لكنه كان مسكونا بالنظافة والتوضيب، أما أنا فظللت حتى بعد أن تزوجت مهملا في كل شيء بما في ذلك استغفال زوجتي قليلا في الاحتفاظ بقدمي من غير غسل، مستمتعا وحدي بتلك الرائحة الملعونة التي لأمر ما كانت تروقني وأنا أشبك أصابع يدي بهما وأشتم سرا ما علق بها من قذارة.
كنت أشعر أنه يغار.. ليس مني فقط لكن علي كذلك، لذا كان صلبا في الاحتفاظ بي، متنبها إلى بذرات التقرب من الأولاد الآخرين الذين كانوا يجدون في انطلاقي فرصة تشجعهم على المناداة علي، أو المرور المفاجيء أمام البيت، لنخرج معا ونقف طويلا أسفل عمود النور.
كان ينزعج كثيرا ويتضايق حين يراني معهم ويتجاوزنا عمدا وهو يولينا ظهره كأنه لم يرنا، قبل أن نهتف عاليا باسمه، فيأتي على مضض ليقف صامتا إلى جنبنا ويظل عصبي الرد والضحكة والابتسام.
أمه كانت ضاجة بالخوف عليه. كانت تناغيني بصوتها الكسير:
ـ لا تغضب منه يا ابني، إنه سباعي..
تقول ذلك في غيابه، ثم توصيني بصيغتها المعهودة وهي تحضنني ألا أقول شيئا له
ـ عنداك تقولها ليه الله يرضي عليك..
فهمت معنى أن يكون سباعيا. بالنظر إلى ضآلة حجمها افترضت أن سر خلاصه المفاجيء من بطنها قبل شهره التاسع يعود إلى ذلك الضيق.
نكون معا، فتتشكل تلك الحلقات اللذيذة في الكوليج، منا ومن البنات في الساحة، فأعصف غير قاصد بصبرهه، بالنكت التي أحكيها والاحتكاك واللمس العابر المقصود، الذي كنت أجاهد في تداعيات الكلام أن أجعله غير مقصود، قبل أن تجهر بنت جسورة بالحكي عن آلام حيضها، أو كلاما أنثويا طريفا لا يحتمله مزاجه، فينظر بحدة نحوي وبخجل وتجهم نحوها.
لم تتطور علاقتنا نحن الاثنين فقط، دخلت العائلتان في شبكة من المجاملات بدءا، كالتبريك في الأعياد أو التهنئة في المناسبات، لننتقل جميعا إلى أن نكون دون تعثر أهلا حقيقيين.
سمعت مرات مقترحا غريبا من أمه تعرضه على أمي:
ـ لماذا لانكتب الأخوة عند العدل أنت وأنا ؟؟..أما عمر وسعيد فهما أخوان..
عمر أخي الذي لم تلده أمي، كنا نكبر فأكتشف فجأة أن ما يزداد طولا فيه هو لسانه وشعر رأسه وكعب حذائه الشبيه بأحذية بعض الليبيين.
صار فتى نزقا أكثر من ذي قبل، لكن بمذاق آخر مختلف. يدمن القراءة ومشاهدة الأفلام ويقبل أكثر مني على المثابرة والتحصيل. حفظ الكثير من أشعار رامبو وهيجو وبودلير وقرأ لسارتر وكافكا ودوبوفوار، وصار يلوذ في النقاش باستعمال الفرنسية التي لم يكن يتقنها أحد سواه من أبناء حينا التعساء، فأعطاه هذا الامتياز بعضا من أنفاس جميلة في الصبر والتسامح والوضوح.
فتح صدره لي فأخبرني أنه متيم برشيدة زميلتنا في الصف. كدت أسأله لماذا هي بالذات لعلمي بتبجحها لكنني صمت. ظللت مشغولا قليلا بروح إفساده للقاءات، فتبدت لي في الخيال صور كثيرة للمناوشات..
ماذا سيقول لها في لحظات الخلوة الباذخة التي تتطلب منا سلوكا معدلا ولسانا كالسحر، خاصة حين يتلبسنا جنون الرغبة المحمومة في الفوز بلحظات نمنح عمرنا ثمنا لتحقيقها للتو؟؟. لا طاقة لعمر بذلك، أوهكذا أعتقد.
ومع ذلك، كان هو من جرني إلى تلوين حياتي بانفلاتات رحيبة. استفدت من عبوسه و تجهمه.
ـ خلليني.. والله أنا اليوم مصدع وطالع ليا الدم !!..
يقول ذلك في حنق، فأفهم أن رغبة الشرب قد اكتسحته، وأنه علي أن أصحبه لنشتري لنا خمرا أو نبحث عمن يزودنا بقطعة حشيش. كان ملاذي يوم نقدم على فعل كل تلك المحرمات، كان بيته سترا علينا، ذلك أن أمه كانت ترى فيه من غير أن تدري السبب ابنا آخر مختلفا ، حنونا يجترح الحماقات، لكنها حماقات مضحكة، تحقق تلك الصورة والمبتغى لأمنيات سيدة تحلم أن يكون ابنها مشمولا بالفرح.
يغني بصوته الرخيم مقاطع لعبد الوهاب، ويرطن جملا لبريسلي ثم يتسلطن فيقلد حركاته الصاخبة وكأنه يعزف على غيتار. تضحك أمه من السعادة وأظل أنا محتاطا ألتزم الصمت والابتسام، ربما من درسه الأول الذي علمني إياه في سكرته الأولى..
كان ذلك بين مبنى ثانوية الحسن الثاني والبعثة الفرنسية، على المنبسط الترابي الصلب. وكنا لازلنا في بداية الثانوي تسكننا أحلام اليقظة الجامحة، ونحن نسترق النظر إلى عري أطراف أستاذاتنا الأجنبيات وإلى بعض التلميذات.
بعد تلك الوصلات من الهرج في نهاية الموسم والتلسين البذيء وغمر الأستاذة المجنونة بكل الشهوات حد الاستمناء، وهي تبرك بنصفها العاري المكشوف بالميني جيب على حرف المكتب قبالة مراهقتنا عمدا أو بعفوية بلهاء، وتبادل الرسائل السرية المكتوبة أو الشفهية بيننا عن تفاصيلها اللحمية والضحك المكتوم والتهيؤات قررعمر ونحن نغادر:
ـ ما رأيك، نشتري قنينة نبيذ ونشرب هنا خلف الثانوية ؟؟..
كنت أعقل من أن أخالفه المقترح.. تخففنا من الأصحاب ورحنا إلى المارشي القريب منا بالمدينة الجديدة، وعدنا نحمل القنينة مخبئة في محفظته وعلبتي أولمبيك الزرقاء وسندويشات السردين الحار. في الكأس الأولى كان صوته ألين وهو يقرأ الشعر ويضحك ويتمازح. في الثانية، صار رصينا قابعا تحت معزوفة اعترافات لقضايا شائكة حصلت له لا أدري متى وكيف، وتركت تلك الجروح والبصمات التي يطلع خفاياها الآن عاريا من أي حرج أو رقيب.
الضربة القاضية كانت في الثالثة.
لم أعرف يوما أن بإمكانه أن يكون بمثل تلك القوة و الهذيان..
ـ faites taire vos chiens , sale bourjeois
كان يصيح عاليا ونحن عائدين، فيصخب نباح الكلاب في الفيلات المجاورة.
كانت تلك طريقنا إلى الثانوية. نعبر حي المدينة الجديدة باتجاه شارع كنيدي لنسير رأسا نحو حينا الآهل.
- attendez nous les voleurs..on va venir
كان الليل قد امتد، وكنت مرعوبا مما حل به. ربما لأنني عصيته ولم أتبع تعليماته القاتلة نجوت.. خاف ألا تتكفل قنينة واحدة بتدويخنا فلجأ إلى الفضاء العالي والنجوم البعيدة، يرقبها طويلا و يغمض عينيه ثم يفتحهما:
ـ شوف.. افعل ما سأقول لك مرات، وسترى..
وكان مستلقيا على ظهره، ورأيت فعلا ما أزعجني حقا. أحسست بالرعب وأنا أسنده
وانتظرت بين الفينة والأخرى مرور دورية أو أحدا من السكان أو فتية مشاغبين يحوطوننا كالحلقة، وفي أهون الأحوال يشبعوننا صفعا أو يجردوننا من السروال !!..
كان يصرخ مرتخيا:
- هيه كاثرين.. أيتها الاستعمارية، لن أضاجعك أبدا مهما تجملت..
طال سخطه كل شيء، الشارع والبيت والناس والأصحاب وحتى مدرستنا الفرنسية العظمية، رغم أنه كان تلميذها النجيب.
شكلنا groupe فيما بعد كانت من ضمنه بنات، لنتردد على بعضنا في إقامة surprise partie. لم يكن ذلك شيئا عاديا، لذا كانت بعض البنات يحضرن في الخفاء. يكذبن على الإخوة والآباء ويأتين وهن يدسسن سجائرهن في السوتيان لينتقمن لأنفسهن بالممارسات المحظورة، أو الاكتفاء بانهمارالمداعبات والقبل في الرقصات.
كان يصيب عمر صداع في الرأس يشجه من الموسيقى العالية فيقلقني بالتشكي. كنا نجتاز عالما بأكمله من الصخب، بينما يبقى هو صامتا تحت حلقات الدخان، مسترقا تلك النظر المتجسسة التي لا تخلو من اشتهاء.
وحين نهجم عليه مصرين على تحريك مزاجه الراكد، تدب الفوضى في ملامحه ويعجز عن أن يسلمنا أمره وهو يهددنا بأن ينهض ليغادر. ودوما أكون أنا مثار تجهمه وملامته رغم أنني كثيرا ما وددت أن أسأله:
ـ لماذا تأتي إذا وأنت لا ترغب في شيء ؟؟...
لكنني كنت أصرف النظر عن ذلك. لم أفهم معنى لهذا الاختلاف الجسيم. كنت لا أجد غضاضة في أن يظل عمر صديقي. ففي البيت حين نكون وحيدين كنت أكتشف عاما بعد آخر أن شقا فنيا جميلا يحوم حول روحه القلقة. كان بارعا في سرد قراءاته. يحكي بهدوء محولا وجهتي إلى تقدير ما سأسمع. تلك الدقة في إعادة تمثل ما يحكي كانت تسرح بي فأذوب في التفاصيل.. فصرت فيما بعد أحتاجه ساردا مغريا في البكالوريا لدروس التاريخ المتعبة.
كنت أتصور بعد كل هذه الملازمة أن أسوار صداقتنا العالية لاتتسلقها بيسر تعاريش الفراق، لكننا افترقنا، و مضى كل منا دون حتى أن يمعن في خلقة الآخرالغاضبة.
لم يكن غضبا حقيقيا، كان نتاجا لسلوك حاد أخلف موعده من زمن، لكنه الآن و في شروط أخرى لاتسمح باسترساله على ذلك النحو، حصل... كبرنا إذا !!..
ونحن على مشارف إنهاء الجامعة، كان قد وطد علاقته غيابا عني مع طالبة. عن هذه لم يحك لي شيئا. لمحتهما مرات من بعيد وهما يسيران عبر باب الرواح أو يجلسان في مقهى باليما. أخفى ذلك عني. قال لي:
ـ أنت لايؤمن جانبك.
ـ أنا؟؟..
ـ أرجوك.. لا أريدك أن تتجرأ عليها أو تمزح معها، هذه خطيبتي.
ـ خطيبتك ؟؟..
ـ نعم..
ـ دون علمي ؟؟...

ـ أنت بو البنات، ولك تجارب. لا أحب أن تعرف سلمى ذلك أوتعرف شيئا عني..
ضحكت بسخافة. لم أدر.. مني أو منه ؟؟...
تذكرت البرد والمطر القديم. كنا نتعاضد ونقترب من بعضينا لحاجتنا للدفء ولا نصاب بالخيبة ونحن نتعثر بسبب احتكاكنا في برك الماء العكرة.
لم أخف شيئا عنه أبدا. أكون سعيدا وأنا أسر له بدقة متناهية كيف تبرق في ذهني مثلا وبشغف عارم تلك اللذة المبهمة لصدر أنثى أو ردفيها، وكيف تشعلني حركاتها الراقصة.
كنت لا أخلد إلى الراحة والسكون دون أن أداعبه بالجهر بغصتي إذا لم أنلها، أو آتيه بصورة من تلك الصور الجنسية النادرة التي كان يأتي بها في المجلات، البحارة العابرون في البواخر العابرة ويروجونها سرا في الميناء.
ننظر إليها ببلاهة في البدء، ثم نتخاطفها من بعضينا ونحن نرمش مشدوهين مغتلمين، مقاومين خفرنا هناك في الخلفية، بالضحك العصبي العالي وبالتنكيت.
كان عمر وجهي الآخر الذي لا أخجل وأنا أرى فيه كامل طهري أونذالتي .
ياه..!!.. رمقته وهو ينقذف بعيدا.. كان يشد قامته القصيرة عاليا وهو يرتقي الدرج و.. يمضي..

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف