قص

بقعة حمراء

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

أن ألعب وأشارك البنات لهو الظهيرة، معناه، أنني أتحول إلى طائر منطلق، تنسل من داخله بيارق الشهوة للجري والشد والاختباء. أرنب بري حساس أوغزال نافر، يعرف كيف يستمتع من باحة أمامه، تمتد فجأة بعد طول حصار!!..

أمي كانت ستزوجني وأنا بعد طفلة في الرابعة عشرة من عمري. كنت ساعتها أجمع بين روح الطاعة والوجل، والسبب أن قريبتنا البعيدة حين زارتنا بغتة، لم ترفع عينيها عني لحظة حين رأتني منحنية أنظر عند قدمي، وأنفذ بإتقان أوامرأمي وتوجيهاتها السامية. من غريزتها الصائبة قالت لأمي إنني أصلح عروسا لابنها!!..
ارتبكت وكبرت بسرعة في ظرف ساعات عندما أسرت لي أختي بالنبأ. أمي تهلل وجهها. لن أبور كبنات عمتي، لكن خجلا صاعقا من أبي ألمٌ بي.
عند المغرب كنت قد نسيت. أطلت حليمة من شق الباب، بابنا الذي لايغلق. نادتني باسمي. تعالي نلعب. فهرعت إليها لكن بعد وصلتين انزويت.
نادتني طويلا بصخب ثم انصرفت عني، مطلقة دعاءها المعهود:
- الله يعطيك الويل، آلويلة!!..
ماالذي أصابني؟؟.. تذكرت ابنة الشرطي وأمها المتسلطة، وتذكرت النساء الفزعات، قبل أن يتحول البعض منهن إلى شامتات. كانت قد حلت بهن مصيبة. هرب عريس ابنة الشرطي الجميلة. فتح النافذة في الظلام وقفز.
كان ذلك سببا كافيا كي تلملمنا الأمهات وتعنفنا، من الصغرى إلى الكبريات:
- أنتن ، كن ينهرننا، جلابات الذل والمهانة!!..
ابنة الشرطي كانت من غير بكارة. والعريس من صدمته حين دخل عليها، ومن حسه بالخديعة تركها وراح!!..
أمها منزوية كانت تلطم خديها. وأبوها ركب دراجته النارية وانصرف. كل المواساة لم تنفع. والعروس أسلمت أمرها للكل في إذعان.
الشامتات قلن إنها ذنوب الناس!!.. أبوها كان جلفا قاسيا غليظ القلب. لم يسلم في غاراته أي تعيس من لسعة حزامه أوعصاه، وأمها مستقوية به كانت تفور بإيقاع الشر والهياج.
كن يتهكمن عليه :
- قادر على حراسة الآخرين.. كان أولى به أن يحرس بكارة ابنته!!..
صرنا قلقات نحن البنات. نجتمع لنحكي. من أين أتانا كل ذلك المخزون؟!!.. اكتشفنا أننا جميعا مسلحات بالحكمة، وأن شرط البكارة وحمايتها مرهون بمحاذير نتقنها: ألا نقفز عاليا، أو نركب حرف ظهر حاد، وألا نتبول حيث يتبول الأولاد!!.
كان قلبي يدق عاليا من الهلع، حين تطلب الكبيرات منا إخراج اللسان. كان ذلك يتخذ عندهن شكل الثأر:
- عذراء.. عذراء.. عذراء. لأ، غير عذراء!!..
أي رعب كان يصيب الصغيرات من أداة الفحص والتقصي تلك، حتى لو كان ذلك من باب الشغب المجنون؟؟..
لم نعرف شكل الجنس وإن فكرنا فيه، ومحاذير الأمهات وتشديداتهن المرعبة، أجراس هول كانت تقرع دوما وبلا هوادة، كما أنها كانت كافية لعدم التهيج والعزوف. لكن مريم فقدت بكارتها خلف مبنى غير مكتمل.
لم أكن صديقتها. كانت أكبر مني بقليل، وكانت منشغلة تماما بنفسها وبإخوتها. ربما لأنها بكر أمها حملتها كل ذلك التعب.
إخوتها الأولاد انعزلوا. لم يعودوا أقوياء بأبيهم ولا بأجسادهم. كانوا مدركين أنهم سيكونون عرضة للمزاح اللجوج أوالتعريض المدمر، مثلما يحدث عندما نرتكب الخطيئة.
فكرة الانتقام ظلت واردة. ربما فكرت الجارات في مسدس الوالد أو سكين الإخوة، لكن لحكمة مٌا، استسلموا للغط العجائز ومساعيهن الحكيمة. قدر ومكتوب. وأنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد.
حكت المدينة كلها في حماس، ثم بعدها أصابها الضجر.
من يومها توارت مريم ولم نعد نرى وجهها. أخضعت نفسها تماما لطيش الطلبات. صارت عبدة البيت الذاعنة!!..
حين فاتحتني أمي مسرورة بالنبأ تلعثمت وبكيت. أطل وجه مريم الصبوح. تخيلتها في عزلتها جاثية تمسح وتجلي، وتتلقى عنف الكل برضى وقبول.
قلت لأمي في رجاء:
ـ أنا لا أريد الزواج ، لاأريد، لا أريد.
ضحكت وقالت:
- وأنا أريد.
خجلت إذ وجدتني أقول لها:
ـ تزوجيه أنت!!..
أطرقت قليلا وعندما رفعت رأسي كانت ملامحها قد تكدرت، لكن سرعان ماعادت إلى طبيعتها.
ـ إنه طيب ياابنتي وميسور.
انطفأ وجهي من الألم وأنا أهددها وأقول:
ـ إن زوجتموني أهرب.
بدا أنها ذهلت وهي تفكر. سمعتها تقول بقلق واستياء:
ـ تهربين؟؟.. ولم؟؟...
قلت بغم، وأنا أنظر إلى بقعة حمراء على البلاط:
ـ أنا لا أريد أن أكون عبدة لأحد!!..

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف