فجر لم يكتمل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أيقن "حبيب" للوهلة الأولى أن نارا تنبعث خلف جذوع النخيل في جزيرة "الحضرة"، فأسرع على الفور يطلق خطواته الأولى خلف زقاق يطل على النهر مباشرة، كأنه شريان في جسد هرم أضاعت ملامحه السنين، في أخاديد وشعاب تكسو وجه محلة "رأس الغربي" التي اشتهرت بأزقتها الضيقة، حيث عاش هناك أكثر من أربعين عاما متآلفا مع سكان هذا الجزء الخرب من مدينة "عانة" المطلة على نهر الفرات، فيبدوا لك كأن العالم قد انتهى عند هذا الجزء المتداعي الأطراف، بفعل غضب النهر عند فيضانه في فصل الربيع وعلى الأغلب في كل عام ..
أطلق صيحة كادت تشق ظلام الليل، منسابة عبر موجات النهر، ليصل صداها مدوياً فيوقظ مضاجع سكان الجزيرة وهم في هدأتهم ونومهم، بعد أن أخذ التعب والعناء مأخذه في جني محصولهم الزراعي اليومي،الذي يعتمدون عليه في حياتهم اليومية، حيث ينقلونه في زوارق صغيرة الى أطراف المدينة،التي تدنوا من عابري النهر، فتأخذهم أينما يريدون وبأي اتجاه يرسمه تيار النهر المتدفق بلا نهاية..
في تلك الأثناء أجتمع حشد كبيرعلى شاطئ النهر، كأنهم استيقظوا على كابوس حقيقي لا كما يرونه في الأحلام، فكتم البعض صيحاته، ليطلقها ألآخر، وفي قرارة نفوسهم أن حريقا ربما سيلتهم الزرع والمحصول هناك، فأصابهم الفزع على الفور، محاولا البعض منهم مرافقة " حبيب"وهو يحاول أن يدير أتجاه قاربه، الذي ربطه بحبل على صخرة كبيرة، محاذية لبناء طيني على شكل دار لا يكاد يتسع لاكثر من شخصين، يطل على النهر وكأنه يوشك أن يلقي بنفسه فيه، قبل أن يدركه التيار.
أخذ يقطع النهر في حركة سريعة، تعكس تموجات النهر في ايقاعات راقصة على شعاع فضي يعزفه القمر في تأرجح يكسب وجه الفرات فتنة وسحر عجيبين.
حين ادرك ضفة الجزيرة سحب القارب الى تلك الرملة المرصوفة والتي يسمونها هناك "بلسان الجزيرة" الذي يرتشف ماؤه بأستمرار من النهر، لتزداد تلك المساحة الرملية عند كل موجة، فيزداد الطمي ويرتفع مشكلا مدرج يربط الجزيرة بلسانها الرملي.
هاهو الان يقف مذهولا مندهشا، لمشهد النار الموقدة في تنور قريب من "الضريح"، وها هي "نصيبة" زوجته التي لم تنجب على مدى اكثر من عشرين عاما، تنتفض فرحا وسعادة، وهي توقد النار في عتمة الليل، وتحدثه عن المولود الموعود الذي ُبشرت به في الحلم ليلة امس،فبدأت تروي له حلمها :
- لقد انعمني الله برؤية احد رجال الله الصالحين في منامي، وهو يطلب مني الوفاء بالنذر وما علي الا ان اسرع بذلك قبل طلوع الفجر، الم اقل لك البارحة انني يجب ان ابقى هنا هذه الليلة الى جوار اهل" الحضرة"؟ هاهم يستجيبون لدعواتي وصلواتي، وعلي ان أطعم عشرة جياع قبل طلوع الفجر.
ازداد " حبيب" انبهارا واستهجانا واخذ يخاطب نفسه:
- يبدوا ان "نصيبة" قد اصابها مس من الجنون، انها ُجنت حقا؟؟ هذا مجرد حلم ..
لقد استفاق هو الاخر من حلمه الدفين، ودهشة ذلك اليقين، فنبتت تلك البذرة في احشاء " نصيبة" ورزقوا بالوليد "بشير" في تلك القدرة العجيبة، والتي ظلت راسخة في اعماقهما في تلك الاجواء التي جعلتهم يتعلقون في الغيبيات والنذور والتعاويذ، شأنهم شأن اولئك الناس البسطاء الذين عاشوا في تلك البقعة النائية العجيبة بكل طقوسها ومعتقداتها، اذ لا شي يشدهم الى الحياة سواها فهي ملاذهم الذي ينجيهم ويطرد الشيطان عنهم، ويحقق امنياتهم في الحلم والواقع.
هاهي السماء تلقي بسخائها مطرا ربيعيا، فينحدر بسيل عذب يتجمع في الوديان رقراقا كتلك النفوس التواقة للحب والحياة والامل، وها هي السهول تكتسي بلون الحياة وربيعها، فيشرع الرعاة يتناغمون مع مزاميرهم، وينطلق القطيع الى البراري يجوب التلال والمروج الخضراء، فيغدوا "بشير" شابا يانعا غضا، سنواته العشرون تلبس لون الارض التي انجبته، نظرة تواقة للحياة، فيزهوا مع زهر البساتين، متعطرا بطلع نخيلها، وعذب انفاسها، تطويه البراري في بكاء يتوقف عنده الزمن على شرفة الموت منتظرا ابتسامات الغسق الملون، على زغب الارض التي ايقظ خصبها، صرخات الفرات صرخات من سرير لم تجف دموعه، فيكتسي الكون لونا شديد الاثارة والغموض، ممتزجا ببقايا ليل راحل، ورثاء يجلل زرقة السماء، فيحمل "بشير" الوليد الذي انجبته "نصيبة" على هدي الموج، وسنابل القمح، ودثرته بالطلع والنذور والحناء، فينكسر ذلك الغصن الندي، ويحمل النعش القادم من جبهات القتال والحروب، ليرقد في أحضان " الحضرة" ذاتها.. فيتشرب الحلم لون الحقيقة، ويغدوا سرابا يختزل آخر نجمة تشهد المخاض العسير، فتدمي قلب الأم الثكلى، وتعلوا صرخات يرتد صداها في بيوت أخرى تزهق فيها الأمومة في مشاهد موت يومي لصورة عراق يئن دون رحمة.
يحمل "بشير" في قارب، ينثر فوق النعش الورد والسعف والبخور، في حفلة عرس بهي، يأخذه الموج مدارا الى تلك الأطراف المطلة على النهر .. ذاته القارب الذي قاد "حبيب" الى حلمه الأول، قبل عشرين عاما .. ذاته القارب الذي حمل الخبز والنذور، حين أزهر ورد البراري قبل طلوع الفجر.
الهوامش:
عانة: مدينة عراقية تاريخية قديمة تقع على الفرات تم إغراقها عام 1983 عند بناء سد الفرات، اشتهرت بالنواعير وبساتين النخيل . انتقل سكانها إلى منطقة قريبة (الريحانة)
جزيرة الحضرة:جزيرة تقع مقابل عانة وهي مزار يقصد لطلب النذر حسب المعتقدات