قص

عندما يتأبط الليل شراً

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

صرير الرياح يأتي من الشمال يحمل معه بردا ويخبئ بين جنباته هماً.. يتخلل بيت الشعر المتشقق ويخالط أضلع "رزنه" تلملم ثوبها الرث بحثاً عن الدفء فيعجز وتعجز عن ذلك.
-ألبهم ضوت أقفي علي يانورة البرد بيقتل الضان والغنم تبي من يحلبها..
تأتي نورة تجر خلفها خمسة أطفال لا يفصل بينهم إلا ثلاثة أو أربعة اشهر وتحمل الأخير واضعة رأسه المتسخ على كتفها الوهن: لبيه يام
-اعجلي يا بنتي البرد ذالليلة شين الله يكفينا شرة
ترخي نوره جسدها الذابل وتقترب من الأرض وتعهد إليها بابنها الصغير تدخل في وسط الأغنام تحلب هذه وتطلق صغير تلك.. تحمل اللبن إلى الخيمة وتأتي بوعاء آخر لتأخذ غيره.. يتباكون الصغار جوعا ولهفة على الحليب.. ت

معاني المفردات:

بيت الشعر: خيمة تحاك من صوف الأغنام
ألبهم ضوت: الأغنام عادت من المرعى
أقفي عليّ : تعالي بسرعة
تبي من يحلبها: يجب أن تحلب الأغنام
أعجلي: أسرعي
ذالليلة: هذه الليلة
شين: سيء
القرص: طحين وماء يعجن ويخبز مباشره على الجمر
الله لايهينك: نوع من أنواع الثناء
الضؤ: مكان تشعل به النار وعادة يكون امام الخيمة أو بيت الشعر تجتمع حوله العائلة كل صباح وكل مساء
مثل ذا: مثل هذا
يام: يا أمي
مالي به: لا أريده
كن على كبدي حصى: كأن في معدتي حجارة
هجيت: هربت
والله ماش: يقصد بها انه لايوجد شيء جيد
ولا وجه فيه خير: تقصد انه لايوجد شخص جيد حولها
المقلوع ماضوى الليلة: سيء الخلق لم يأتي هذه الليلة
مدري وش بلاه: لااعلم ما حل به .
ذلحين يسكر: ألان يشرب الخمر
مع أخوياه: مع أصدقاءه
لاتجيبين طاريه الشين: لاتتحدثي عن هذا الانسان السيئ
الله لايسقية ولا يسقي يوم جانا به: الدعاء عليه وعلى اليوم الذي أتى فيه إليهم خاطبا بالقحل والجفاف وهذه كناية عن كرههم له .
النصيب لقشر: قسمتهم ونصيبهم السيئ .
رح وراك: اذهب من هنا
أكفنا شرك: ابتعد لا تلحق الضرر بنا
ياولد عفراء: أو أي اسم نسائي آخر يقصد به اهانة الرجل حيث ينسب الى أمه بدلا من أبية
مشاط: مواد عطرية تخلط وتعجن وتوضع على الشعر
غضارة: وعاء يوضع به الحليب
المره اللي عندك: زوجتك
السربوت: الرجل الذي يتجه للممنوعات ويبتعد عن المجتمع
مير: لكن
الشيطان دله على الخنيز: الشيطان دفعة لتعاطي المسكرات
منقود: تعطي نفس معنى عيب
يقص بولدنا: يعدم .. وولدنا هنا يقصد بها ابن القبيلة
صجّيتنا: أزعجتنا


amerahj@yahoo.com

تحرك الجدة بلهفة تفوق لهفتهم تحضر الحليب الدافئ تسقى هذا وتمسح بشالها المتهالك فم ذاك.. تسحب وعاء خشبيا به بقايا قرص بارد تناولوا أكثره على الغداء.. تسكب عليه بعض الحليب الساخن وتحشر الطعام في أفواههم الصغيرة دون أن تضع لقمة صغيره في فمها المتشقق من البرد والجفاف.
-تعالي يا بنتي الله لا يهينك زيدي الحطب على الضؤ ولحفي عيالك البرد ذبحهم الله يكفينا شر ذالشمال ما قد جانا برد مثل ذا
-تعشيتي يام؟
-مالي به يابنتي كن على كبدي حصى
-اسم الله عليك وش كلتي اليوم؟
-ماكلت شي ولا لي به
-اظنها القهوة يام لاعاد تكثرين منها الله يرضى عليك
-يابنتي خلي القهوة تفرج همي والله لو ماهي كان هجيت
-الحمد لله.. الخير كثيرالله لايجيب الهم
-والله ماش.. لاخير ولاجه فيه خير.. المقلوع ماضوى الليلة مدري وش بلاه؟
-ذلحين يسكر مع اخوياه اتركية يام لاتجيبين طارية الشين
-الله لايسقية ولايسقي يوم جانا به
-جانا به النصيب لقشر
تكدح "رزنه" كآلاف النساء الكادحات في بطون الأودية وبين أحضان الجبال.. لا تريد من هذه الحياة سواء صحة بناتها وأحفادها وحلمها الوحيد هو تأدية الحج وزيارة قبر الرسول.. هذه هي "رزنه" وهذي هي أحلامها فبعد أن فقدت زوجها بحادث سيارة أصبحت هي ألام والأب والراعية لهذا العش الصغير يرافقها الهم والخوف أينما تحركت وأكثر خوفها من أن يطمرها الموت قبل أن تؤتي فريضة الحج.
لديها بنتان أحداهما متزوجة من رجل عاطل عن العمل ولكنه دمث الأخلاق لا يضرب زوجته ولا يعاملها بقسوة يسكن مع أمه في نواحي ليست ببعيدة أما الأخرى وهي نورة فمتزوجة من ابن عم زوج شقيقتها وهو رجل قبيح الوجه والسلوك.. وهو ليس فقط عاطل عن العمل ولكنه مؤذ لكل من يصادفه في الطريق.. عليه قضايا كثيرة لا يسجن بسببها إلا شهوراً ولا اعلم السبب ربما البعد عن المدينة يجعل كل شيء مباحا.. يقوم وأصدقاؤه الذين أفسدهم الفقر وأفسدهم الجهل بتصنيع الخمور بطريقة بدائية يبيعون بعضه ويشربون أكثره وعندما ينتهون من حفلاتهم الليلية يتوجه "فالح" إلى خيمة زوجته التي تقطن عند والدتها ويقوم بضربها وضرب أبنائه معها.
هكذا بدون سبب السبب الوحيد انه يكون في غير وعية "سكران".
تصارع أم نورة للدفاع عن ابنتها وأحفادها كل ليلة ودائماً تصيبها كدمات وجروح في وجهها أحيانا وفي جسدها أحيان أخرى أما ابنتها والأطفال فالرضوض كثيرة ومتفرقة في الأجساد النحيلة.
اعتادوا هذا الأمر فأصبح جزء منهم لا يستغربون حدوثه بل يستغربون عدم حدوثه.
لم تكن هذه الليلة باردة بشمالها التي هبت دون سابق إنذار أو جاءت في غير موسمها بل كانت هذه الليلة شديدة الظلمة وكان واضحاً بأنها تتأبط شراً.
وصل فالح يشتم ويثرثر وكعادته كان في حالة سكر تام.. استقبلته "رزنه" بغضب:
-رح وراك اكفنا شرك الله يكفينا شرك ياولد عفراء
تقدم نحوها ودفعها للخلف.. وقعت على ظهرها وتابع بخطوات مترنحة وقبل أن يدخل الخيمة لبدء احتفاليته الخاصة بضرب ابناءه وزوجته كانت "رزنه" تمسك بثوبه من الخلف سحبته بضعف محاولة إخراجه من الخيمة لكزها بكوعه في صدرها.. وقعت تتلوى من الألم فهوى عليها وامسك بها من قمة رأسها بقية رفعها من الأرض علقت أصابعه بشالها فانسل في يده وبقيت هي ممدده على الأرض.. رمى بالشال وامسك بشعرها الأبيض الخشن والذي تفوح منه رائحة "المشاط" العطرة، سحبها إلى وسط الساحة التي تقع بين الخيام سقط فوقها واضعاً عنقها بين يديه الجافتين.. اخذ يضغط ويضغط على تلك الرقبة الناعمة التي لم تنكشف في يوما من الأيام لرجل لم يكن محرماً لها واخذت قدماها النحيلتين تتحركان للامام وللخلف بحثاً عن الأكسجين وابنتها تشاهد هذا المنظر المخيف من خلال الشقوق الكثيرة التي تركتها السنون المتعاقبة على هامة هذه الخيمة العتيقة.
كانت ممسكه بصغارها بين ذراعيها تضمهم بخوف إلى صدرها الذي كان يعلو وينخفض مع دقات قلب يكاد أن يفر من بين أضلعها من شدة الهلع.
لم يسعفها عقلها الذي حطمه الضرب المتكرر كل ليلة باتخاذ خطوه للامام لتنقذ بها والدتها العجوز التي أوشكت على الرحيل من هذه الدنيا القاحلة. وقبل أن ينتهي منها تذكر شيئا ما في السيارة.. تركها وأخذ يهرول بترنح إلى تلك السيارة الخربة فيما استطاعت هي اقتناص بعض ذرات الأكسجين دون أن تقوى على الحراك من مكانها.. في هذه الأثناء خرجت ابنتها من الخيمة في محاولة يائسة لإنقاذ أمها ولكنه عاد بسرعة وكانت بيده قنينة بلاستيكية تحوي سائلاً احمر وكان باليد الأخرى كبريت.
صرخ بنوره: روحي وراك روحي لاجيك
فعادت نورة إلى الداخل بخطوات سريعة لتدفن خوفها وصغارها بين دفتي ذلك الصدر النحيل الذي لازال يعلو وينخفض.
سكب البنزين عليها وأشعل النار بجسدها الضامر واخذ ينظر إليها بتلذذ بينما "رزنه" تتلوى وتتقلب على الأرض تستجير بترابها وتستنجد ببرد الشمال لعله يطفئ بعض آلامها المبرحة.
لكن الأرض تتهادن مع الشمال وتراقب المشهد بصمت.. الليل يطول والموت لا يأتي بسرعة. تأخذ "رزنه" قصداً من العذاب قبل أن تحل عليها رحمة الله.. تموت ونورة تنظر من خلف الشقوق يشلها الخوف وتبيدها الدهشة.
فرغ فالح من "رزنه" دخل الخيمة بحثا عن نورة وصغارها.. أبناءه.. امسك بها وبهم واخذ يضربهم إلى أن فقد وعيه.. سقط على الأرض منهيا بذلك حفلة شواء صاخبة اختلطت بها روائح الحزن.
اجتمع رجال القبيلة في الصباح وكان هناك عددا من رجال الأمن، نورة تبكي دون أن تصدر صوتاً وشقيقتها لم يصلها الخبر بعد.. الصغار كانوا ينظرون هنا وهناك لعل جدتهم تخرج من بين الصخور تحمل بيدها "قضارة" الحليب الساخن وبعض بقايا القرص.
النهار يطول والجدة لا تخرج والهمس بين رجال القبيلة يأخذ بالارتفاع وكان الصوت الطاغي هو كيف سيتم إخراج فالح أبن القبيلة من السجن!
(لابد أن تتنازل إحدى البنتين ليخرج ولدنا من السجن هكذا يقول الشرع).
ترفض نوره وبشده التنازل عن حق أمها وتطلب باستحياء إعدامه بقطع عنقه بحد السيف كما أمر الإسلام وترتفع أصوات رجال القبيلة مره أخرى لإسكات نوره وللبحث عن وسيلة لسحب رقبة ابنهم العزيز من تحت حد السيف لا يجدون أفضل من ابن عم فالح وزوج ابنة القتيلة.
-خل المره اللي عندك يامحسن تتنازل..ولد عمك السربوت ذبح العجوز والموت حق! ما ودنا تموت مير الشيطان حده على الخنيز و..
ويقاطعه رجل آخر من رجال القبيلة: اتركوا ذالحكي السامج واسمع يامحسن قل لمرتك تتنازل عند القاضي.. منقود وعيب في حقنا يقص بولدنا وحنا رجال ونحسب من الرجال.
بالطبع لا يستطيع محسن زوج شقيق نورة وابن عم فالح رفض طلب رجال القبيلة.
فبدأ بالضغط على زوجته.. تارة يهددها بالطلاق وبأخذ أبنائه وتارة يهددها بالقتل وبدفنها دون أن يعلم بها احد وتارة يتودد لها ويغدقها بالكلمات الجميلة.
استمر هكذا ايام وليال وكانت النتيجة التي أسعدت القبيلة.
خرج فالح !! هكذا دون أن يكون هناك حق عام ودون أن تحاسبه الدولة على هذه الجريمة. بالنسبة للقاضي هو يطبق الشرع وعندما حاوره احد الشباب المتعلمين والمتعاطفين مع القتيلة نهره وقال له أنت لا تفهم في الدين ولا تفهم في الشريعة الإسلامية.
-يا سيدي القاضي هذا الرجل الذي يدعى فالح وأطلقتم صراحة ليلة أمس كان قاتلا ارتكب جريمة قتل وكانت بالعمد وليس بالخطأ.. خنق المرأه العجوز ثم سكب عليها البنزين واحرقها وظل ينظر إليها حتى فارقت الحياة.. كيف يتم إطلاق سراحه وبهذه السرعة؟ ألا تخشون أن يرتكب جريمة قتل أخرى؟.. دم تلك المسكينة لم يبرد بعد ياسيادة القاضي.
-نحن نطبق الشرع.. أبنتها تنازلت ونحن ليس لنا حق في سجنه
-هل سألتها عن الظرف الذي كانت تحته عندما تنازلت؟ الم يخطر ببالك بأنها ربما تكون قد تعرضت للضغط أو التهديد؟
-هذا ليس من شأني أنا مطالب بالاستماع إليها وبأخذ توقيعها على ورقة التنازل
-وهل تعتبر هذا عدل؟
-يا أخي الشرع أمرنا بهذا ونحن نطبقه ولم نأتي بشيء من بيوتنا
-ولماذا لا يطبق هذا الذي تسمونه شرع إلا على المر أه؟
-نحن نطبقه في كل الأحوال والأمور
-إذا لماذا لا يتم تطبيقه في اختيار الحكام؟ او في إعادة الأبناء إلى أمهاتهم المطلقات أو في قطع أيدي اللصوص أبناء الكبار أوفي اخذ حقوق الناس من الحكومات.. أو.. أو.. لماذا يطبق الشرع بهذه الطريقة العرجاء الخالية من الحق.. تجلب أمراه وتجبر على التنازل ويخرج بموجب هذا التنازل مجرم قاتل انتهك القانون عدة مرات؟
-تراك صجيتنا.. قلنا لك نحن نطبق الشرع وخلاص.. فكنا لاتعيد ولا تزيد!
عادت الحياة إلى مجرياتها السابقة وعادت حليمة إلى عادتها القديمة.. عاد فالح إلى شلته الفاسدة وعاد إلى تصنيع الخمور الرديئة.. وكالعادة يشرب حتى يسكر ثم يذهب في آخر الليل إلى خيمة زوجته وأبنائه الصغار يبرحهم ضرباً حتى يسقط من التعب ويتساقطوا هم من الألم والفارق الوحيد بين الأمس واليوم انه كانت هناك امرأة تعيش معهم وتضرب معهم اسمها "رزنه".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف