وداعا سيلوبي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
فصل من رواية
عندما شاهد حاجي رسول، الدرويش، وهو يمر من قرب الخيام وتحت إبطه كيسا من النايلون، تأفف متذمرا، ثم قال مخاطبا، جنكيز مؤذن الجامع.
ـ هذا الملعون سيخلد في النار!
لم ينتظر من جنكيز أن يسأله عن السبب بل واصل حديثه مفترضا انه تلقى من مثل هذا السؤال:
ـ لقد كان يتظاهر بالتقوى والإيمان والورع إلى ما قبل اسبوع، وهو يتبختر بين اللاجئين بلحيته وعصابته الخضراء التي كان يشدها على رأسه. كم من مرة قبلت فيها يد هذا اللعين تبركا!.. كنت أظن لغبائي ان التقرب إليه سيجعل الجنة مثواي.. قتل مثل هذا الكافر المرتد واجب.. ولكن آآخ خ..لولا إننا شبه مساجين في هذا المكان اللعين لأرديته قتيلا برصاصة واحدة لا غير أطلقها على جبينه القذر، ليسقط بعدها مثل الحجل بين الصخور.. كيف يطاوعه قلبه أن يهجر سجادة الصلاة، ليتهتك ويطيع الشيطان أمام الخمرة الملعونة؟!
ألا يشعر هذا الكافر بالإثم الذي يرتكبه، ليعود إلى الهدى والإيمان؟.. صدقني كدت أقتل إسماعيل لحظة إخباره لي أنه رأى الدرويش في إحدى حانات سيلوبي، يتبادل الكؤوس مع تلك العاهرة الشمطاء صاحبة الحانة.كدت أسحب عليه السكين. كيف يجرؤ على التفوه بمثل هذه الفرية؟ ديننا الحنيف يأمرنا قبل كل شيء بالتروي، وتقصي النبأ الذي يؤتي به لنا فاسق.
قررت بعد أقسم إسماعيل بأغلظ الإيمان بأنه راه بأم عينيه في تلك الحانة اللعينة، التي تقع على الطريق المؤدي إلى سوق سيلوبي. قررت مراقبته سيما وان إسماعيل شاب تقي وورع لم ينقطع عن الصلاة معنا في الجامع. تعلم جيدا ان هذا الفاسق عودنا أن يذهب إلى السوق وحده على غير عاداتنا هنا، حيث نذهب على شكل جماعات.. حقا لقد رأيته بعيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود في القبر، يهبط من السيارة أمام الحانة، وينتزع من جبينه الخرقة الخضراء المباركة، ويدلف إلى الداخل بهدوء. حيث تلقته صاحبة الحانة العجوز الشمطاء بالابتسامات.. وبمجرد جلوسه على المائدة، وضعت الشمطاء قنينة خمر أمامه.
كم تمنيت لحظتئذ أن ادخل الحانة وأفجر كل من فيها لأذهب شهيدا عن هذه الدنيا الفانية، بدلا من لعنة ما شاهدته من كفر والحاد عن طريق اللسان بدلا من اليد.
قاتل الله الغربة التي نعيشها وتجعلنا أذلاء عاجزين أمام جيوش الشيطان. لقد ظللت في ذلك اليوم مجنونا لا ألوي على شيء. لم أضع في فمي لقمة من الخبز، بل نسيت الأكل والشرب. فما رأيته من هول أنساني كل شيء. الشيء الذي لم استطع تحمله هو لماذا لجأ هذا الدرويش الدجال إلى تضليلنا؟ و ما الذي أرغمه على ذلك؟.. لقد حدثني أنه كان درويشا على طريق الاجتهاد في كركوك، يحضر حلقات الذكر في الجامع، وأنه كان مريدا للشيخ شاهين وكيل السيد حمد النعيمي. كما أنه كان دائم الذكر أثناء تلاوة المدائح النبوية لذكر الشيخ عبدالقادر الكيلاني وأحمد الرفاعي وأحمد البدوي وإبراهيم القدسي في التكية.
لكنه يبدو الآن حليفا للشيطان بعد أن رأيته فجوره بعيني. أصبحت لا أطيق حتى النظر إلى وجهه. لا يستطيع عقلي الصغير أن يتحمل كيف يختار الإنسان الكفر بدلا من الإيمان، والنار بدلا من ظلال الرحمان، والجحيم بدلا من الجنة التي تجري من تحتها الأنهار؟
لم أتركه فعندما كان عائدا نشوانا وهو يتطوح من خمرة إبليس، كنت أنتظره قرب مكتب أردوغان . كدت أفقد صبري وأطعنه بالمدية، حينما رأيته يشد الخرقة الخضراء المباركة راية الأطهار على جبينه الكافر، محاولا الاستمرار في تضليل وخداع المؤمنين الأبرياء من أمثالي، الذين لا هم لهم سوى رضى الرحمان عنهم. تقدمت منه قائلا:
ـ أنت غير جدير بحمل هذه الخرقة المباركة على جبينك الكافر. لقد رأيتك بعيني تتناول الخمرة في الحانة!
الحق يقال، لم يحاول أن ينكر أو يتهرب، بل نظر إلي بعينيه المخمورتين من الكفر وقال:
ـ لكم دينكم ولي ديني!
لم أشعر بالندم قط على الظروف البائسة التي نعيشها في هذا المعسكر البائس إلا في تلك اللحظة التي بدوت فيه مشلول الإرادة، جبانا، عاجزا عن نهي المنكر. سيطرت علي المخاوف الدنيوية، ولم أنزل طعنة نجلاء، تسكت إلى الأبد صوت الشيطان في روحه. أو صفعة ترد إليه عقله المسلوب.
بدوت ضعيفا. طغت علي فكرة العقاب، الذي سأجده على يد الجندرمة. وكيف سألقى نفسي عند أقل مشكلة مع هذا المرتد على الحدود العراقية.
فقدت أمام إجابته السافرة قدرتي على النطق. بدوت مذهولا. تتابعت أمامي شريط التبجيل الذي كنا نحيطه به، والذي كان يبدأ من تقبيل يده الآثمة وحتى الوقوف بخشوع أمامه والانبهار بكل كلمة كان يتلفظ بها، على اعتبار أنها الحكمة بعينيها. وصولا إلى تقديم أفضل الطعام له، وإعفائه من غسل الأطباق، التي كنا نغسلها بالتناوب. أحسست أن الشيطان الرجيم انتصر علينا.
أقسم بالله لو كنت في الجبل كما كنت قبل أعوام، لما منحته فرصة كي يتنفس. كنت سأسكت فيه صوت الشر والشيطان برصاصة واحدة لا يزيد ثمنها عن مائة فلس!.. لعن الله الأمم المتحدة وحياة اللجوء التي حولتنا إلى أن نكون خرافا أمام المعاصي والمنكرات في هذا المعسكر اللعين.!
لهذا اشتاق إلى الجبل. فأنا هناك مادمت أملك البندقية، الحاكم والسلطان والجلاد؟ طلقة واحدة كانت كافية لإسكات صوت الكفر والإلحاد.. طلقة واحدة وينهزم إبليس.
عندما ذهبت إلى مرقد ( كاك أحمد شيخ ) في السليمانية، لم اطلب من إلا أمرا واحدا: أن لا يحيدني عن طريق الإيمان والشهادة!.. آه لو كنت في الجبل لارتجف أمامي هذا الدرويش المزعوم مثل حجل مذعور. لكن في هذا المعسكر اللعين، نظر إلي بدون أي حياء أو خجل، ووجد في نفسه الشجاعة ليقول لي: لكم دينكم ولي ديني!
أجل أعترف لك يا أخي جنكيز، يا أخي في الإيمان بعجزي. أصابني شلل مفاجيء سرعان ما انتشر في كل جسمي.
كم يؤلمني أن اسكت أمام الباطل وأمام إبليس اللعين. أقسم لك بأنني منذ ذلك اليوم أصبحت أراه وكأنه إبليس يسعى على قدميه، يوزع الفساد والكفر في هذا المخيم.. أقول بأسف ان معظم اللاجئين في المخيم تمكن الشيطان منهم.. لكنهم على الأقل لم يتظاهروا بالإيمان، لم يتجاوزوا على كلمة الحق نهارا جهارا. أما هذا الأفاق فما الذي لم يفعله بنا بعد أن استغل إيماننا وطيبة قلوبنا ونوايانا؟!.. انه الشيطان يمشي على الأرض.. آه ه ليتني في هذه اللحظة كنت في الجبل، صديقا للمغاور والكهوف، حاكما وجلادا في نفس الوقت. لا أزال غير مصدق، كيف اختار هذا الأفاق، الظلام بدلا من النور وفضل أن يصبح صديقا ورفيقا للشيطان بدلا من الرحمان؟!.
أراد جنكيز أن يغير مجرى الحديث، ويخفف الهول الذي يعيشه حاجي رسول:
ـ حاجي، اليوم إبراهيم ووليد سيخابران مكتب اللاجئين في أنقرة للسؤال عن وضعهما. اذهب أنت أيضا معهما. لقد مرت فترة طويلة على ترشيحك للسويد ولكن دون نتيجة.
كان حاجي رسول لا يزال تحت تأثير سخطه على الدرويش:
ـ لعن الله الأمم المتحدة والسويد وكل الأشرار في العالم!
سيلوبي: معسكر للاجئين العراقيين في تركيا. قضى الكاتب فيه عاما من عمره.