صفحات مضيئة من سيرة دجاجة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حين، في صباي، قرأت لفاضل اسكندر مجموعة قصصية اسمها: "زمن اللقى السعيد"، لفت انتباهي وقرأت بتكرار عنيد قصة قصيرة ضمن المجموعة اسمها: "ديك".. هذه القصة يبتدئها اسكندر بالعبارة التالية: "في طفولتي لم تكن الديكة تحبني كثيرا" وفي سياق الأمثلة التي أسوقها على أهمية الاستهلال كنت أسوق هذا الاستهلال كمثال جيد . ولم يكن ليخطر ببالي حينها أن ما سأرويه فيما حدث لي بُعيدها مع دجاجة، سيجعلني اكتب شيئا ما عن " دجاجة " تيمنا بديك فاضل اسكندر مع تشابه "طفيف": إن كلا القصتين واقعيتان.
في أحد الأيام الربيعية المزهرة دخلت حديقة بيتنا دجاجة، وما هي إلا أيام حتى كنا جميعا قد وقعنا في حبها! سوداء لماعة أو أنها صارت زاهية السواد و الإلتماع لاحقا، بسبب ما سنرويه فيما سيأتي من أخبارها. كانت حديقة البيت التي تضم أشجار الليمون والبرتقال وشجرتي تين وفسيلا وأزهارا بنفسجية شفافة كثوب عروس قد تبرعمت وزهت توا بفضل الربيع القادم إلينا من الشمال، وكانت الحديقة تطل على الشارع من خلال باب مرتفع قليلا، و من خلال تلك الفجوة تسللت إلينا الدجاجة جالبة لنا سعادة لم تدم طويلا، و لكي نريح ضمائرنا، بعد أن اكتشفنا وجودها الغامض، ومجيئها الأكثر غموضا، قمنا بسؤال الأقربين من الجيران فيما إذا كان احدهم قد فقد دجاجة، كان جوابهم بـ: "لا" أحد مصادر سعادتنا اللاحقة، حدث ذلك قبل أن نعيد النظر بقرارنا الاحتفاظ بها بعدما ترتبت أحوالها بفضل الحنطة الفرنسية.
في الدائرة التي تعمل بها زوجتي أيام الحصار، أعادها الله علينا بالخير، حيث الجوع الآن أعظم بدون حصار، تم توزيع كمية من الحنطة الفرنسية زاهية اللون كالذهب، لكي يقوم، من يرغب، بطحنها و تحويلها خبزا، أما أين تطحن وهل بقيت ثمة مطاحن، فلا احد معني بتصديع رأسه بأسئلة كهذه، لذا بقيت الحنطة الفرنسية في المخزن تنتظر معجزة ما، حتى جاءتنا الدجاجة التي يتصدر اسمها عنوان هذه الكتابة فوجدنا ضالتنا: أن نعطي الدجاجة من خزين الحنطة الفرنسية إلى أن نعيدها إلى أول من يطالب بها فعلى الرغم من حبنا للحيوانات فإننا لسنا بصدد إبقاء دجاجة لا تعود لنا و إثقال ضمائرنا المثقلة أصلا بمسؤولية إضافية . كل هذا حدث طبعا قبل الحقبة المظلمة المسماة حقبة إنفلونزا الطيور.
ولا اخفي عليكم بأننا من الناحية الأخرى كنا نتعاطف مع الدجاجة التي ازدادت التماعا وبريقا بأسودها الرائق الذي يذكرني دائما ببيت المتنبي في مدح كافور الاخشيدي مشبها إياه بالشمس السوداء: " شمس جميلة سوداء " شي لم يرق في كل الأحوال لهذا الداهية الأسود مما جعله يسكت على مضض على هذه السخرية. على أن مما زاد من إعجابنا بالدجاجة أن زوجة أخي الخبيرة بالدجاج والتي تحبه كثيرا وترفض أن يستعمل وجبة طعام حتى لو مرض ومات، قد أطرت دجاجتنا دون دجاجاتها الكثيرات صائحة : ما أجملها!... لقد شعرنا في حينها بمفخرة تقرب كثيرا من مفاخرنا الوطنية، وكان يروقني فيها، أي في الدجاجة، بشكل خاص إنها حين تنظر إلي بعين واحد مدورة حمراء كحبة العنب فإنها كانت تميل برأسها جانبا لكي اسقط بكامل قامتي على حدقة عينها، وهي تملك أحساسا بأنني الآمر الناهي في البيت بالرغم من أن الحنطة الفرنسية لم تكن ذات صلة مباشرة بمجهودي الذكوري .
لقد الفت الدجاجة عاداتنا و إلفنا نحن بدورنا عاداتها، فحين تتهيأ للنوم، مباشرة بعد الغروب، فإنها تطيل النظر إلى المكان الذي اعتادت أن تنام فيه، حافة كرسي مصنوع من جريد النخل، موضوع في الحديقة بجانب باب المطبخ حيث الحافة العليا له تمثل أعلى نقطة عن الأرض و كأن التحفظات الموروثة جينيا لديها منذ العصور السحيقة، منذ أن كان أجدادها الأوائل حيوانات وحشية غير مدجنة، هذه التحفظات تستيقظ نافضة غبار الزمن، مخترقة الدهور والعصور فارضة نفسها رغم أمان المكان.
في الصباحات الصيفية كانت الدجاجة تستيقظ باكرا ونكون نحن أيضا قد استيقظنا متجمعين في المطبخ لتحضير الفطور، و من باب المطبخ التي تطل على الحديقة كنا ننثر لها ما تيسر من الحنطة الفرنسية. أما في عطلة نهاية الأسبوع، حيث نستغرق في نوم أطول من المعتاد، فان دجاجتنا التي تفتقر لأي تقويم أو إحساس بالأيام يضاهي إحساسها المعروف بالوقت، لا تعرف شيئا عن الجمعة وعطلة نهاية الأسبوع، عندها ترتقي حافة الكرسي الموضوع لصق باب المطبخ ذي الزجاج و تقوم بالنقر على زجاج باب المطبخ محدثة صوتا كالطرق المألوف على الأبواب و بإلحاح يشبه ما يقوم به الضيوف المقربون أو رجال الامن، من أجل لفت انتباهنا إلى أنها بانتظار الفطور، أقفز من فراشي و أرى أن زوجتي هي الأخرى قد استيقظت مرعوبة صارخة:
ـ الدجاجة!
ـ لقد تركناها بدون فطور
ما هي إلا ثواني ونكون قد هرعنا إلى المطبخ كأقصر طريق إلى الدجاجة حتى نجد أن ابني محمد كان أول المستيقظين و كان قد سبقنا في الوصول إلى كيس الحنطة في الوقت الذي كان رأس الدجاجة المستغيثة قد لاح خلل زجاج باب المطبخ.
بتصرفها هذا دفعتني إلى إضافة صفة أخرى إلى صفاتها الفريدة والتي تزيد من مفاخري ألا وهي إنها دجاجة ذكية وربما كان الدجاج بشكل عام ذكيا فهذا أمر تعوزنا الخبرة لتأكيده، ولكن عديلي الذي يزورنا بين الفينة و الأخرى ويلقى الترحاب في بيتي على اعتبار أن زوجته هي أخت زوجتي، والذي ربما يكون قد استنكر الاهتمام الزائد الذي تحظى به دجاجة على حساب ضيف مميز، قد أدلي بتصريح استفزازي لم يراع به حق القرابة والنسابة و الضيافة ألا و هو: أن الدجاج بشكل عام، ( و قد أكد على كلمة بشكل عام بطريقة احتفالية ) هو حيوان غبي! وبوسعكم أن تتصوروا الخيبة و الإحباط الذي أصابنا جراء هذا التصريح اللامسؤول مما دفعني في لحظة غضب أن أدلي بتصريح مضاد و هو: أن دجاجتنا على الأقل، إن لم يكن الدجاج بشكل عام ( وقد أكدت بدوري على كلمة بشكل كلمة عام ) هو أذكى من عديلي، هذا التصريح تراجعت عنه فيما بعد باعتباره تصريحا غير مسؤول و لا يتماشى مع الميول التوافقية و التصالحية القوية السائدة واستنادا إلى شعوري بالتسرع من جهة، والى النصائح المقدمة لي من زوجتي من جهة أخرى.
كانت عمتي، التي هي عمة أبي في واقع الأمر، تسكن مع جدي الذي هو أخيها، والذي كان مخلصا لتقاليد عائلتنا بالانفصال عن الزوجات طال أمد الزواج أم قصر، عمتي هذه لم تكن متزوجة، كان نداء الحرية لدى أفراد العائلة على ما يبدو أقوى من كل المتع، فبدلا من زوج مزعج ربت عمتي دجاجات، يقدمن فروض الطاعة بدلا من زوج آمرٍ ناه، كان البيت كبيرا و ذا ساحة طويلة، في وسطه نخلة وشجرة توت، ( فيما بعد كنت أتذكره دائما عندما أقرأ " منزل الأقنان " للسياب ) كنا مثل القرود، أخوتي و أنا، لا تجدنا الا فوق شجرة التوت في موسم نضوجه لا نغادرها إلا بعد أن نصاب بالإسهال، كانت عمتي متغطرسة و لا تطيق أحدا و لا تتحدث إلا لماما و مع دجاجتها فقط، حتى ضاق بها أخي الكبير ذرعا لما ورد من أمرها و لأنها كان تفضل عليه أخي الأكبر و كان لديها زير ماء لا تسمح لأحد بالاقتراب منه، ناهيك عن شرب ماءه، فما كان من أخي هذا إلا أن بصق في زير مائها احتجاجا وسخطا على سلوكها المتعجرف و محاباتها لأخي الأكبر. كانت تعنف الدجاجات، وتطلق ضدهن التهديدات، و حين تتطاول إحداهن على أوامرها وتوجيهاتها كانت تصرخ بها: " أيتها الممسوخة "!! و تطلق بذلك العنان لخيالنا المسكون بالعديد من القراءات المبكرة لقصص ألف ليلة وليلة و حكايات الجن الأخرى، في العديد من الكتب ذات الرائحة الغريبة بسبب التقادم التي تركها لنا جدي من أمي الذي كان عم جدي من أبي، والكثير من الكتب التي كان يجلبها أبي من راتبه أكثر مما يجلب طعاما، ما دفع أمي التي كانت قد ضاقت ذرعا بكتب جدي قبلها و كتب أبي من بعده، إلى اعتبار الكتب ضرائر لها. و كنا قبل حلول عصر الكهرباء نسترق السمع أحيانا إلى ( أبي المهد ) في مقهى غائب السعدي حين كان كـ ( قصخون ) يلقي من على منبره قصصا خرافية، ومنها بطولات لعنترة بن شداد العبسي وقصصا عن الجن والسعالي، نسترق السمع من خلف القماش المشمع السميك المسدل على فتحات الشبابيك الصغيرة حيث المقاهي، حينذاك، إحدى المحرمات على الصغار... نطلق العنان لخيالنا محاولين بتركيزنا النظر إلى وجه الدجاجة المدور الصغير أن نستنبط وجه أميرة جميلة مسخها الجن دجاجة . بهذا كان ميل الدجاج إلينا و ميلنا إليه ربما محكوما ببوصلة غامضة تؤشر علاقة عريقة القدم بين الدجاج و أفراد من عائلتنا. فلما حدث و اصطحبت ابني الذي كان من العمر آنذاك سنتين إلى بيت جدي الذي تتعاقب على زيارته الأجيال، احتفى به جدي كثيرا بإعتباره الحفيد الذكر الأول من الجيل الرابع في العائلة ( ملاحظة: لم يكن يحتفي بالإناث أبدا مما يثير حفيظة أختي التي تشبه عمتي ) و حمله و حملني عناقيد من الرمان كان يعلقها بمسامير في غرفته، كان لديه دائما الكثير منها إضافة إلى مربيات طيبة المذاق من فواكه مختلفة، أما أخته، عمتي فقد انتقلت إليها عدوى الاحتفاء أو لنقل إنها لم تكن لتهمل هذا الحدث المهم في تاريخ العائلة فقامت بتكريم ابني بشكل غير مسبوق، تجاوزت به نفسها، إذ ربطت قدمي دجاجة مع بعضها بخرقة وسلمته الدجاجة بالمقلوب لكي يحملها من قدميها، ولما كان صغيرا وقصيرا فقد كان رأسها يلامس الأرض حتى وصلنا إلى بيتنا عندها احتجت أمي على هذه المعاملة غير اللائقة للدجاجة المسكينة وقامت بإعادتها إلى عمتي التي هي أخت جدي متذرعة بأن لا أحد قادر على العناية بها و أن من الظلم أن تحرم من الرعاية المميزة و أن تكون بين أقرانها، شيء ما كان كحجة دامغا، أسكت عمتي التي لم تكن لتسكت في العادة على إهانة مثل هذه.
و كان من النتائج غير المتوقعة لإعجابنا بالدجاجة و ثرثرتنا عنها أن رفعت عنا التقارير إلى المسئول الأمني في المنطقة الذي كان يتسقط أخباري مذ عرف إنني اقتني كتبا و أتردد على اتحاد الأدباء مصرحا " إن الكتب تعني المشاكل " و " أن في شارعنا مشبوها "، وقد رفع تقريرا إلى مديرية الأمن في المحافظة، ورغم أن مسئول الشعبة السياسية ـ لم أكن اعرف حينها سبب الاستدعاء لكنت استغربت علاقة الدجاج بالسياسة ـ قد أوضح انه لا يستطيع أن يتجاهل التقارير الواردة إليه حتى مع عدم قناعته بما ورد فيها و تلك التقارير تفيد بأن اقتناءنا دجاجة و إكثارنا من الحديث عنها لا يعدو أن يكون تحريضا سياسيا لما ينطوي عليه من تلميح من أن الناس مثل الدجاج قد استسلموا لأقدارهم، و قد روى لي كيف انه اضطر في احد المرات إلى فتح تحقيق مع شخص خاطب سائق سيارة الأجرة بأنه قد ترك له ( الدموي ) في صندوق السيارة مما استدعى إلقاء القبض عليه فورا من قبل رجال أمن كانوا بالصدقة في نفس السيارة و قد تبين ان ثمة نوعا من الإجاص يسمى بالإجاص الدموي استنادا إلى لونه صارخ الحمرة، و كان من حسن حظي أن الرجل كان متفهما رغم عمله في هذا الجهاز الرهيب حين رويت له على وجه الخصوص كيف أن الناس تحمل الأشياء أكثر مما تتحمل وكيف أن نقادا في الفن قد أصروا على أن البقرة في لوحة الكورنيكا لبيكاسو هي رمز الوطن وكيف أن بيكاسو قد رد عليهم بان البقرة في اللوحة هي ببساطة بقرة. وكيف أن دجاجتنا التي أثارت، بتفاعلها مع حقيقة امتلاكي كتبا، حفيظة مسؤول الأمن في شارعنا، ليست سوى دجاجة لا تحمل أي رمز سياسي.
وفي احدى الصباحات التي ستبقى عالقة في الذاكرة استيقظنا لنجد أن الدجاجة اختفت للأبد من حياتنا، قضينا الأيام اللاحقة في انتظار أن تظهر من مكان ما، حتى تعاقبت الأيام حاملة لنا النسيان وكان هذا آخر عهدنا بالدجاجة الوحيدة في حياتنا.
ومنذ ذلك الحين أفكر بكتابة قصة عن دجاجة، ولكن خوفي من العواقب قد حملني على تأجيل موضوعي هذا عدة مرات إلى الحين الذي حلت فيه الديمقراطية و الحرية على العراق، ولكن زوجتي حذرتني من الأمر ربما الآن بحلول الديمقراطية والحرية على أكثر من صعيد هو أكثر خطورة من أي وقت مضى، لكن صبري كان قد نفذ و قررت أن اكتب القصة بأي ثمن، فالسكوت ما عاد ممكنا و لا قدرة لي على انتظار ديمقراطية أخرى .