قص

وجه في مرآة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

استفاق من شروده ذاهلا. وطفق يحملق في المكان الذي ساقته إليه قدماه في نومة منه بدأت تتكرر معه كثيرا هذه الأيام. وكأنها بداية أفول رجاحة عقله الذي كان مفخرته الوحيدة.
محطة القطار على غير عادتها خالية أو تكاد تكون إلا من بعض المتسكعين من أمثاله الذين جعلوا يطوفون بالمكان بحثا عن فريسة. والفريسة قد تتحول إلى مفترس، إلى قوة قاتلة مدمرة قد تأتي على كل جيوبه. والفرائس تلك الليلة كانت واحدة استسلمت إلى ركن قصي داخل المحطة شبه الخالية، وجعلت تخطر في وجوه المطاردين لها. وكانوا أربعة، كأنها تختار فريستها هي أيضا.
ما أن رأته حتى هبت من مكانها تقصده في خطوات واسعة. ارتمت بوجهها على وجهه وهي تقول بصوت مسموع:
- تأخرت كثيرا.
قال بذهول وبقايا عطرها المدوّخ تستقر في خياشمه:
- لا بأس.
ولم تمهله وقتا ولا منحته فرصة ليتفحص وجهها و يتأكد إن كان يعرفها فعلا، إذ جرته من يده، واندفع خلفها مستسلما ليدها التي تسحبه تحت مطارق العيون الناقمة عليه والتي انتقلت منها إليه كحالها كلما ظفر أحدهم بإحداهن. هم يعرفونه جيدا. يجيء إلى محطة القطار. يقف في ركنها القصي، تماما بين بابها وشباك تذاكرها.
أكان ينتظرها كل تلك المدة؟
لطالما غنم أصحاب العيون المتقدة الحاقدة في ليال كثيرة لكنهم اليوم سيغادرون خاسرين خائبين. بينما لأول مرة يغادر هو رفقة جميلة فاتنة، والوحيدة المتوفرة في تلك الليلة على غير عادة المحطة المعطاء. كأنه كوفئ على صبره. لم بسمعوه من قبل يقول كلمة، أو يغمز بإشارة لواحدة، أو حتى يطوف بمكان تواجدت فيه فريسة. كل ما كان يفعله. وقوف في برزخه بين الباب والشباك وينتظر. وعند موعد إقفال المحطة يطأطئ رأسه منسحبا.
أكان ينتظرها كل ذلك الوقت؟
ولماذا كان يقف كل ليلة بين الباب وشباك التذاكر؟
ثم لماذا لم يكن ينظر إلا لهما؟
منذ التقيا و تبادلا تلك الكلمة لم يقولا شيئا، إنما مشيا صامتين بخطوات أخذت تتباطؤ كلما ابتعدا عن المحطة. كانت ممسكة ذراعه كأنها متعودة على فعل ذلك منذ زمن. وعندما صعدا تلك العمارة التي كانت سباقة إلى مدخلها. بدت كأنها تعرف شقته حتى إذا دخلاها أبدت ألفتها مع المكان إذ توجهت إلى المطبخ دون أن تسأله عن موقعه، كأنها تعرفه معرفة جيدة، كما تعرف أين يضع القهوة والسكر. وتركته فاغر العينين. راكنا إلى صالونه معقود اللسان. كأنه ضيف في شقته. ولكنها شقته هذه المرأة تزيد في إحساس غربته وربكته وحدته.
يخفي نظراته في فنجان القهوة الذي يحتسي منه متحاشيا نظراتها التي تعاود اكتشاف تضاريس وجهه.
- لم تتغير كثيرا حسن.
كاد يشرق بغصة في حلقه. كيف عرفت إسمه وهو متأكد أنه لا يعرفها ولم يقابلها يوما؟ لم يعرف امرأة غير أمه حتى علاقته بها على قدمها لم تترك له ذكرى طيبة.
كان يود أن يقول لها {وأنت تغيرت كثيرا عني حد أني لا أعرفك يا...} لكنه عاد فقال:
- كأنك كنت تنتظرين شيئا أو أحدا في المحطة.
غمزت له بعينها وقالت دون تفكير:
- كنت أنتظرك
لازالت الأسئلة تهذر في رأسه. من تكون هذه التي اقتحمت عليه حياته؟
المحطة التي قالت أنها كانت تنتظره داخلها و التي أدمن على الذهاب إليها كل ليلة في مثل ذلك الوقت، كانت فضاء نزاعه مع نفسه وحيرته المستمرة.
أيظل في تلك المدينة التي أقرفته بمن وبما ضمت أم يقصد شباك التذاكر و يصعد أول قطار وليأخذه في وجهته؟ أتكون هي قطاره؟ ترى أين تقوده؟
قصدت المرحاض بخطوات ثابتة كأنها تعرف مكانه وخلته إلى نفسه وأسئلته الخرساء التي لا تجود إلا بأسئلة أخرى، فأخرى، ثم أخرى.
لابد أن يعرف من تكون؟
التفت حوله فإذا يده تمتد بحركة آلية مسرعة إلى حقيبة يدها. متاعها الوحيد وعيناه إلى مدخل الصالون.لاشيء داخلها قد يجيب على فضوله. هاتف نقال ومذكرة صغيرة فتحها فألفى دهشا صورة حديثة له وأخرى بالأبيض
والأسود عندما كان صغيرا. تساءل:
- صورتان لي. كيف حصلت عليهما؟
و نزعت به نظراته المتوثبة إلى أرقام الصفحة الأولى من مذكرتها فإذا هي ملآى بأرقام. شُد ّ للرقم الأول. ثم عاد للتساؤل:
- من أين أتت برقمي الجديد الذي حصلت عليه هذا الأسبوع فقط؟
الرقم الثاني في الصفحة الأولى المقابلة للصورتين كان رقمه الأول الذي غيره عندما أخذ أحدهم يتسلى به ما بعد منتصف الليل. و تساءل مرة أخرى:
- أيعقل أنها تعرف الآخر أيضا لتدونه تحت الجديد؟
كالصورتين تماماـ فكرـ وأرقام أخرى هرعت إليها حدقتاه. الرقم الثالث طبعا كان تاريخ مولده. غير معقول
أحس حركة منها فأعاد الأغراض إلى حقيبتها بسرعة. وتظاهر صادقا بالسهوم:
- ماذا كنت تفعلين في المحطة؟
-قلت لك كنت أنتظرك.
- هراء كيف عرفت أني سأذهب إلى هناك؟
- لأنك تقصدها كل ليلة مذ كنت صغيرا
- ولماذا الليلة؟
- أنت تعرف لماذا؟
- لا.لا أعرف شيئا.
- لا تكذب خشيت أن تسافر و تتركني وحيدة في هذه المدينة الموحشة ليس لي إلا أنت ولا تملك غيري. لقد كنت عازما الليلة على السفر. أليس كذلك؟
- كيف عرفت؟
- لا يهم.
- بل يهمني.
- يبدو أني أخطأت عندما حاولت أن أبقيك في المدينة.إرحل إن أردت.
-أيهمك أمري؟
- طبعا.
- لكني لا اذكر أني رأيتك ولا عرفتك قبل اليوم.
- ماذا تقول؟ لاتعرفني حسن. أفقدت عقلك مع ذاكرتك؟
- إرحميني من هذا العذاب وقولي من تكونين؟
- يبدو لي أني أخطأت كما قلت لك.
وانتفضت من مكانه ابعصبية وقصدت باب الشقة والغضب ممسك بتلابيبها دون أن تزيد كلمة أخرى وإنما حملت نظراتها ضيقا وحرجا وكثيرا من الأسى والأسف وخلّته إلى وحدته وحيرته.
انتبه بعدما خرجت أنها نسيت حقيبة يدها وأخذ يبحث داخلها بهدوء هذه المرة. لا شيء جديد.أعاد فتح المذكرة الصغيرة. اتسعت عيناه دهشة وهو يكتشفها فارغة كأنها جديدة:
- أين ذهبت الصورتان؟ والأرقام؟ أأخذت كل شيء معها؟ لكني لم أرها تفعل ذلك. أخذت أجوبة كانت ستغنيه عن الحيرة وتركت له حقيبة يد صغيرة. ضمت مذكرة خالية تماما و هاتفا نقالا. ولا شيء آخر. لا، لاحت له مرآة يكتشف وجودها لأول مرة، كأنها لم تكن هناك في المرة الأولى. جعل يتفحصها، تطلع فيها وعيناه تزدادن اتساعا دهشة واستغرابا. المرأة تركت وجهها في المرآة. وجه جعل يرقبه بدهشة كأنه فوجئ بفضول غريب أخذ يتطلع إليه. ألقى المرآة جانبا بيأس وهو يتساءل دون أمل في رد هذه المرة:
- ترى أين ذهب وجهي؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف