عنـدمـا يبتسم الحـزن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
جالسة على سريرها الأبيض.. تتأمل الكوب المملوء ماءً.. المسجى فيه ثلاثة مكعبات ثلجية.. الموضوع أمامها على رف السرير.. تتأمله.. تنظر فيه يمنة ويسرةً.. يخيل اليها.. تبتسم.. تقترب.. تحضنه براحة كف يديها.. تضعه على صدرها.. تربت عليه.. تحدثه:
-جسدك بارد.. عليك أن تتدثر بغطاء صوف، لا عليك.. انا اجيء لك به
تعيـد الكوب برفق الى مكانه.. تبحث في المكان.. المروحة التي تتوسط الغرفة.. النافذة التي تظهر فيها اطراف شجـرة.. التلفزيون حيث رسوم متحركة.. لكنها لا تجد عند أي منهم غطاء صوف، تنظر الى الكوب آسفة.. يتراءى أمامها.. ترتسم على محياها علامات العتب، تسأله:
-أين أنت الآن؟
-في الطريق إليك يا أمي
-لكنك تأخرت على غير العادة؟!
-الضباب كثيف يا أمي..
وصوت ارتطام عنيف فصراخ فبكاء فصمت، تمسك بالكوب.. تتشبث به تصرخ.. "لا.. لا تبعد.. لاتسكت.. تعال.."
تدخل ممرضة.. تتبعها ممرضة.. تحاولان مسكها.. تهدئتها، وسيدة أخرى جالسة على سريرها، تضحـك وهي تسأل الممرضة:
-ألم يأتِ بعد؟
ذهبت إليها إحدى الممرضتين:
-حدثته، قال أنه سيأتي إليك قريبا
-" وتمسح الدمع من على خديها" لكن، طال غيابه
-هذا فقط لانشغاله بالعمل...
-منذ العيد الكبير وأنت تعيدين هذا القول، اسمعي "وأشارت الى الممرضة ان تجلس لكنها اعتذرت، امسكت يديها ترجوها ان تستجـيب لطلبها، وافقت، جلست بمحاذاتها، ابتسمت تشكرها، اكملت" يوم كنتُ صبية، قبل أن آخذ والده يرحمه الله.. يه؟ وجع، قولي يرحمه الله
-يرحمه الله يا أمي
-إيه.. الحين تعجبيني، اسمعي.. انا كنت يـوم صغيرة.. كنتُ جميلة، ودلوعة.. وعلى فكرة، وانا آخر العنقود، استيقظ في الوقت الذي أريد، وأنام في الوقت الذي أبغي(1)، لكن، أبدا، ماكنت لأتـأخر ان سمعت صوت والدي وهو يدخل البيت، كنا، يعني انا واخواني، نسرع لنقبل يديه ورأسه، نجلس عن يمينه ويساره، نهمز رجله، ونعطيه التمر، ونصب له القهوة، " وضحكت" حتى يوم دخلته البحر، كان آخر شيء يحبه أكل التمر، وشرب القهوة، "وباكية" وما كـنا نتركه، دايما(2) نظل الى جانبه، حتى بعد أن استرد الله أمانته، ظل اخوتي يقومون على زيارته "وضحكت مجددا" لكنه، ماعاد يأكل التمر، ولا يشرب القهوة، بس هاه(3).. " نظرت للحاضرات في الغرفة، اشارت إليها أن تقترب، همست لها" تحملي تقولين لأحد، بعدين يزعل، وحنا ما نحب الوالد يزعل منا....
-يرحمه الله
-وهم اعيالي يحبوني وايد، وطبعا راح يجيون، أنتي.. ليش طالعيني شذيه(4) .. جنج(5) مب مصدقتني.. لا، صدقي
-نعم سيأتون
-"وضاحكة".. لكن ما جاني(6) منهم واحد، ولا حد منهم كلمني بالتلفون " مسحت دموعها، تسألها".. تعتقـدين ليش(7)؟، انا اقولج.. "واكملت تهمس".. يمكن لأن ما عندي تمر، "وضحكت بصوت عال تردد كلمـتها متقطعـة " مب مني، مب مني، مب مني.. النخلة ماتت....
-سيأتون
-عيل(8) يالله، انتي ليش جالسة، يالله بسرعة، قومي، اتصلي فيهم
-حاضر، حاضر يا أمي
وقامت من على سريرها، لاحـظتْ زميلتها الممرضة الأخرى تعين سيدة على الوقوف، اتجهت الى ناحية الكوب الذي تناثر على الارض، همت الى جمع الزجاج، سمعتها تنهرها، تدفعها، تجنبت لحظتها السقوط على الارض، وقفت تنظر خلفها، رأتها تجثم على الارض تردد:
-اتركي وليدي(9)
وبدأت بجمع شظايا الكوب، تجمعها الواحدة تلو الاخرى، غير مبالية لجرح الشظايا يديها، ولا كثرة الدمع المنحدر على خديها، تجمعها وتتفحص ارضية المكان، باهتـمام شديد بحثا عن بقايا، وبصوت مبحوح مكتوم موجوع بدأت تغني "هلولو هلولو.. يابعد جبدي هلولو.. يرقد أوليدي وينام.. في حفظ اللي ما ينام.. في حفظ موسى وعيسى والنبي.. عليه الصلاة والسلام....... "(10) وظلت تغني، وهي تمسح الدمع بأصابعها، فيمتزج مع دمها، المنبعث من اناملها، مع ما تجمعه من شظايا الكوب، تضعه في راحة يدها، وتضمه إلى صدرها.
الدوحة - يوليو 2005 م
الهوامش:
-( 1 ) أبغي: أريد
-( 2 ) دايما: دائما
-( 3 ) هاه: تقال للاستدراك أو التنبيه لشيء، أو الحذر منه
-( 4 ) شذيه: هكذا
-( 5 ) جنج: كأنك
-( 6 ) ما جاني: لم يأت
-( 7 ) ليش: لماذا
-( 8 ) عيل: إذن
-( 9 ) وليدي: أبني
-(10) من التراث الشعبي الغنائي القطري