روما بقلم جريجوري ديفيد روبرتس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ترجمة عطية صالح الأوجلي
جريجوري ديفيد روبرتس ولدَ بميلبورن أستراليا في يونيه من العام 1952 م. كاتب موهوب. بدأ الكتابة عندما كان طالبَا يدرس الفلسفة. نشط سياسيا لبعض الوقت.أدمنَ الهيروين عقب انهيار زواجه و فَقدانهَ رعايةَ ابنته. ارتكب سلسلة من السرقاتِ مستعملا مسدّس غير حقيقي، مما جعل وسائل الإعلام تسبغ عليه وُصِفَ اللص المحترم. حُكم عليه بالسجن تسع عشْرة سنةِ. نجح في الهَروبَ من سجن فيكتوريا في يوليو 1980م وسافر إلى نيوزيلندا وآسيا وأفريقيا وأوروبا. وأصبح بذلك المطلوب الأول لقوات الأمن الاسترالية. أمضى عشَرة سَنَواتِ من هروبه وهو في بومباي - حيث أَسّسَ عيادةً طبيةً مجانية لسكان الأحياء الرثةِ، عَمل كمزور، مهرّب، ومهرب أسلحة ومحارب في الشوارعِ لفرع مافيا بومباي. أعيد القبض عليه في ألمانيا، حيث قضى جزء من عقوبته هناك وأمضى الباقي في السجونِ الأسترالية. أَسّسَ بعد إطلاق سراحه شركة إعلامية ناجحة. ومنذ الانتشار العالميِ لروايته الأولى "شانتارام"، هو يحترف الكتابة، في بلده وفي بلدان عِدّة.
من أجل روما كَان ذاك البُكاء، تحت البدرِ. كانت المرة الأولى التي أرى فيها رجلا يبكي لحبّ مدينة. كُنّا نَجْلسُ معا على سطح مركب صدئ نحرس شحنة الأحجار الفيروزية المهربةِ، آلاف منها، ثمانون كيلو في أكياسِ الفينيلِ السوداءِ، عندما رَمى فالانتينو تيديسكو سيجارته الوهّاجة إلى البحرِ الليليِ المخضر، وبَكى بهدوء.
كنا ثلاثة تلك المَرةِ، تاتيف، فالانتينو، وأنا، وكان كُلّ منا قد خبر شيئا ما عن البكاء بطريقته الخاصة. فهناك نوع مِنْ الوحدةِ..شعور بالوحشة.. يَجْلبُها الرجالَ الخارجون عن القانون مَعهم إلى كُل ّما يَحبّونَ. تبدأ من لحظات الغضبِ والخزي التي تَمْلأُ عيونَهم وعقولهم عندما تطبق الأصفاد سلاسلها للمرة الأولى مثل مخالبِ نِسْرِ حول رسغِهم. بعضها يولد مِنْ رعشات القلوب التي تهتز كلما أَُغلِقت الأبواب الفولاذية الباهتة، والبعض الأخر مِنْ الأنانية، والخوف، والقسوة الحمقاء. وكُنا نحن الثلاثة هكذا بل أكثرِ، كنا هكذا بل أسوء.
كانت وحشة تاتيف لوطنه، الجزائر، بينما كنت أنا أدمع أحياناً من أجل أناس أَحبُّبت وفقدت، لم يبكِ فالانتينو سوى مرّة واحدة طوال الوقتِ الذي عَرفتُه، وكَانتْ لروما؛ روما، المدينة التي كَانتْ أمّاً، حبيبة، وصديقة إلى الأبد لقلب ذاك الطفلِ الوحيدِ.
َتحدّثُنا عن خطّطنَا لصَرْف المالِ الذي سنحصل عليه من تَهريب الأحجار الكريمِة مِنْ بندر عباس إلى بومباي. تاتيف يريدَ شِراء سوار صغيرِ من الزمرداتُ المحلاة بالذهب الوردي. يعَرفَ بنتا جميلة شغوفة بذاك السوارِ فكّرَ في أنها قَدْ تَحبُّه، أَو تشعر نحوه بشيء قريب من الحبِّ، إذا أشتراه لها.
بالنسبة لي كان الحصول على ما يكفي من المال لدَفْع الإيجارِ والفواتيرِ لستّة شهورِ جيدةِ من العيش في نسختي المتواضعة من حياة بومباي المترفةِ. تينو، عندما ألححنا عليه، قالَ بأنَّه سيضع المال في حساب مع ما سبق وأن تحصل عليه من جرائم التَهريب.
' هيا أخبرنا يا رجل، ' زاد تاتيف إلحاحا، ' ماذا سَتَفعلُ بكُلّ هذا المالِ الذي توفره؟ لابد أن لديك الآن مبلغا لا بأس به , أليس كذلك؟ '
' لن تصدقني، حتى إن أخبرتُك ' أجابَ تينو، وهو يشعل سيجارة.
تأجج الكبريت داخل بوتقة يديه فلمع اللهب لثواني في عينيه الداكنتين مما جعله يبدوا أكثر قسوة وبروداً مما عرفناه.
' سَأَصدقك، ' رددت، بينما امتدت يدي إلى علبة الكبريت.
' بالطبع أنت سَتَصدقه، ' قال تاتيف محتجّاَ. ' أن تحبه أكثر مما أحبه. '
' أحقا ذلك ؟ ' ضَحكتُ.
' متأكّد. أنت تحب الناس أكثر مما أفعل. لكن، يا، تينو، حتى إن لم أصدقك، مثل
لين، فأنا ما زِلتُ أُريدُ سَمْاعك , هيا....هيا قل لنا mdash; بِحقّ الجحيم لماذا تُوفّرُ كل هذا المال؟ '
' حَسناً، ' رد تينو، وهو يرمقنا بنظرة خاطفة، ' سَرقتُ بَعْض المالِ مرّة، وأنا أُريدُ إعادته. '
أدار وجهه بعيدا، لكن ضحكةَ تاتيف تابعت نظرتَه للأمواج الهادرة.
' ذلك جميل... ' جيد! ' هَدر الجزائري َ. ' ذلك أمر مضحك جدا، يا رجل! '
' لَيسَ كذلك، كما تعلم ' تمتم تينو َ. ' لَيسَ مضحكَ على الإطلاق. '
' يا للعنة! ' ضَحكَ تاتيف، ثم اصطنع تكشيرة قائلاً ' يا للجحيم...أعتقد أنه يعني ما يقول! '
' لماذا يا تينو؟ ' سَألتُ.
' لماذا ما؟ ' غمغمَ تينو، وهو يُحدّقُ في الموجاتِ القمرية الناتئة.
' لماذا تُريدُ إرجاع المالِ ؟ '
' إذن، تصدقني؟ '
' نعم. نعم، أصدقك. '
دارَ ليلتقي عيونِي. كَانَ وجهه مربّعَا وسيما ومنتظماَ، يبدأ بحاشية ناعمة مِنْ الشَعرِ البُنِّيِّ الداكن، ويمر خلال الحافات العالية والبارزة جداً لخدودِه، و ينتهي بالظلال الداكنة لفكَّه المتحدّيَ القويَ دائماً، الذي يبدو هكذا حتى بعد حلاقته.
تفرستني عيناه بحدة شعرت بها ولمستها في أنفاسي. خطر لي آنذاك بأنّ ما قاله صديقي الجزائري، تاتيف، كَانَ صحيحَا: نعم أنا أميل لتينو أكثر مما يميل إليه تاتيف. أميل بالطريقة التي يتبادل بها الخارجون عن القانون الإعجاب فيما بينهم.
mdash; بالثقةِ أكثر مِنْ الحبِّ، وبالحبِّ أكثرِ مِنْ المرح.
' أنا كُنْتُ hellip; ' تمتم.... ثمّ عاد مرةً أخرى إلى الهدوءِ الذي غَمر سطح القارب المَمْلُوء بالمجموعاتِ الصَغيرةِ مِنْ الرجالَ الهامسين والغارقين في التفكير. ' أنا كُنْتُ مُحامياً مرّة mdash; محاميmdash; في مدينتِي. أبي، كَانَ محاميا قَبلي. وأبوه، جَدّي، هو الأخر كَانَ محامياً وقاضياً ومدّعياً أيضاً. عندما أنا hellip; تخرجت بَدأتُ أعملَ في مكتبِي الصَغيرِ الأولِ. العديد مِنْ أصدقاءِ أبي أتوا إلي بأموالهم، أسرار أعمالهم، حسابات وأموال تقاعدهم hellip; '
صَمتَ. وميض الابتسامة التي لَيّنتْ نظراته وهو يَتكلّمُ خبت وتلاشى. حجبته العيونُ الداكنة،... صَمتَ..وكأن الظلامِ الكئيبِ قد سَحْب فمه إلى الجزء السفلي القاسي من فكه.
' كم أَخذتَ منهم ؟ ' سَألتُ، بعد فترة.
' كلّه، ' أجابَ، ما زالَ يُحذّق في الموجاتِ. ' كُلّ شيء دون استثناء..كله حتى أخر ليرة. '
' هَلْ قاضوك؟ '
' لا. أبي hellip; '
تَنهّدَ بشدّة كمن قام بنقل أحد أكياسِنا مِنِْ الأحجارِ الفيروزية مرات عدة ذهابا وإيابا عبر ظهر المركب.
تجعّدَ وجهه وارتعش بالنزاع بين الحاجة للاعتراف والخوف مما قد يجلب ذاك الكشف. أخيراً تراخت قسماته وبدا أنه قد قرر البوح.
' باع أبي كُلّ شيءhellip; كُلّ ما لديه. باعَ البيتَ الذي عشنا فيه mdash; باع بيت أمي، كان قد أهداها البيت في ذكرى الثانية عشر لزواجهم. mdash; أقترض من كُلّ شخصِ يعَرفَه. أَخذَ مالاً مِنْ الأصدقاءِ، الأقرباء، البنوك، المافيا mdash; حتى تمكن من إعادة ما أضعته. كانت فضيحة، دونما شك، لكن الأمر لم يصل إلى القضاء. '
' و هَربتَ. '
' نعم. '
' لماذا أَخذتَ المالَ؟.... هَلْ كانت مخدّرات؟ '
هَزَّ رأسهَ، ما زالَ يَنْظرُ في امتداد وتراجعِ الموجاتِ المثير.
' قمار؟ '
' لا. '
' أذن امرأة؟ '
ضَحكَ وهَزَّ رأسهَ ثانيةً. كَانَت ضحكة جريحة، صَغيرة ومُرهَقة. ومضت عيناه واستدار نحوي بتعبير هو أقرب لابتسامة جذابة.
' أتَعْرفُ..، في بيتِ أبي mdash; بيت أمّي mdash; هناك بلاط، بلاط صغير جداً، في كُلّ الغُرَفِ مِنْ المطبخِ والحمّامين إلى خلف البيتِ. كَانَ ذلك دائماً شطري المفضّل من البيتِ. '
تَوقّفَ، كما لو كان يدعوني للتحدث.
' آه... ' قلت.
' أنه أزرق رائع، ذاك البلاطِ الصَغيرِ. أزرق روماني. لونُي المفضّلُ، لقد أدركتُ أخيرا لِماذا الأزرق هو لونُي المفضّلُ. وهذه الأحجارِ الزرقاءِ...... '
مد يده إلى جيبِه و سحبَ قطعتين خشنتين كبيرتين مِنْ الفيروز الغير مصقول.
' هذه الأحجارِ التي نحن نُهرّبُها لها تقريبا نفس اللونَ hellip; '
حدّقَ فيها لحظة أطول وبعد ذلك قَذفَها برمي يديه نحو البحرِ. ذكرتني حركة الرسغِ والأصابع بأولئك المزارعين الهنودِ عندما ينثرون البذور باليد.
' لماذا بحق الشيطان فعلت ذلك؟ ' صاح تاتيف. ' إذا كنت تريد أن تُرمي المال، فأرمه عليّ! '
' لا بأس ' قُلتُ بسرعة، غامزا بعيني الجزائري المهتاج. ' لا بأس. هذا نوع من الطقوس الدينية..أنه كما تعرف... شيء روماني. '
عندما تطلعت للوراء كان فالانتينو يَبْكي. َراقّبتُه للحظة: راقبتْ الدموعُ تنهمر بحرية بيمنا كان يرَمى عقبَ سيجارتِه الوهّاجَ إلى البحرِ. أدرت وجهي بعيداً. ضل الإيطالي الشاب الكئيب صامتَا لما تبقى من الرحلة.
في الشهورِ التي تلت لم نسمع سوى القليل عنه. حتى ذاك النهار الذي دخل فيه تاتيف إلى " ليوبولد"؛ مطعم جيد، وحانة جيدة، ومكتب خدمات ممتاز للعديد مِنّا في السوق السوداءِ، وأخبرَني أن تينو سَألَه عن ذاك النوع من القروض الذي يدخل الصداقة في غيبوبة.
' و ماذا عن كُلّ ذلك المالِ الذي قام بتوفيره؟ '
' ما زالَ لديه ' قاله تاتيف باستهجان ' لَكنَّه يَحتاجُ أكثرَ. '
' لماذا الآن؟ لماذا فَجْأة؟ '
' يُريدُ العَودة إلى روما. وقد ابتكر صفقة ما مَع تلك البنتِ المجنونةِ، لولينا mdash;
تَعْرفُها؟ '
أَومأتُ. أنا لا أَعْرفْها، لَكنِّني سْمعُت الكثير عنها. قالوا أنّها إحدى أجمل البنات الأجنبيات في بومباي، وأنها وبامتياز أقلهن جدارة بأي ثقة. لقد سلبت رجال عدة كُلّ سنت كانوا يملكونه، رغم أن البعض مِنْهم كانوا رجالا فطنِ. الغريب في الأمر أننا لم نلتق أبدا رغم أننا عملنا في نفس المدينةَ مِنْ "كولابا" إلى "باندرا"ْ. كنت أعرف أننا في الغنى أَو الفقر، في المرضِ أَو الصحةِ سنتقابل, كنت كلما سمعت عنها تطلعت للقائها. كانوا يلقبونها اناكوندا ( الأفعى الكبيرةَ). لولينا الأفعى.
' ما هي الصفقة؟ ' سَألته.
' لديهم فرصة لشِراء بَعْض التايلانديِ الأبيض من الدرجة الأولى. ذلك تغوّطُ جيدُ. سَمعتُ الأفغان يتَحَدُّثون عنه الأسبوع الماضي. الأفعى الكبيرة، سَتَحْملُه في جسمِها. لقد فعلت ذلك من قبل وهي تجيد هذا النوع من العمل. يَقُولونَ بعد تطويره مرات عدة mdash; سيكون صافيُ بما فيه الكفاية لأَخْذ أربع تخفيفات mdash; سَيكونُ عِنْدَهُمْ تقريباً أربعة كيلوات مِنْ المادةِ. ذلك يكفى للحصول على كُلّ المال الذي يريد إعادته في طلقةِ واحدة. أتَتذكّرُ حديثه الجنوني عن إرجاع المال عندما كنا في رحلة إيران الأخيرة؟ '
' أَتذكّرُ. لكن لماذا يَحتاجُ ليقترض منك َ؟ وقد ُحْصَلُ على مال كافٍ لشِراء البلاء التايلانديِ كله، أليس كذلك؟ '
' ليس على ما يبدو ' ابتسم تاتيف ابتسامةً عريضة، ' وهذا أفضل جزءِ mdash; هو يَجِبُ أَنْ يَدْفعَ كُلّ ديون الأفعى الكبيرةِ أولاً، كي تعود حرّةُ معه إلى روما. أتَعْرفُ كَمْ تَدِينُ تلك العاهرة المجنونةُ إلى عصابةِ براتاب؟ ' الآلاف، يا رجل. وأَنا أعني دولاراتِ , واو...لقد دَخلت ْفي مشكلةِ خطيرة مَع أولئك الرجالِ، وهم لا يَمزحون. '
'إذن، بتلك الصفقةُ mdash; يدفع تينو ديونها مَن أغلب مدّخراتِه، ثمّ يَستعيرُ بما فيه الكفاية لشراء المادةِ التايلانديةِ، تُهرّبُها لَهُ، يَبِيعونَها، وبذلك يَدْفعَ دينه القديم في روما. '
' تقريباً، ' استنتج تاتيف، ضحك وهو يمَدَّ يَدَّه لهَزّ يدي. ' كم مخبول فالانتينو هذا , أنت تَعْرفُ، إذا كنت مجنونا بما فيه الكفاية لإعادة المالِ الذي سرقته mdash; بعد أن أُعيدَ مِن قِبل أبوك mdash; ستكون مجنونا بما فيه الكفاية للسُقُوط في الفَمّ المفتوح للأفعى الكبيرةِ , واو...؟ '
' كيف رددت عليه؟ '
' هَلْ تمزح..!؟ أتَعتقدُ أنّني أُهرّبُ الأحجارَ من بندر عباس، وأخاطرُ بقضاء سنتانَ في سجن إيراني نتن، لأعير نقودي لشخص مجنون مثل تينو؟ قلت له " أشرب أكثرَ وتذكّرْ أقل، أفعل مثل ما نفعل، حتى لا تعود تشعر بالذنب مرة أخرى".
' أين تَركتَه؟ '
' في مكانِه. لعنه الله، لين. أنس أمره. أنا ذاهب لرؤية بنتين مهذبتين جداً، وافقَا على أنْ لا يكُونَا مهذبتان لليلِة كاملةِ. لم لا تَجيءُ , أهه..؟ '
' لا. رُبَّمَا لاحقاً. '
' أنت حر ' قالها باستهجان، غيمت عيناه بأفكاره حول الفتيات. ' سَأَراك لاحقاً اللّيلة. '
خَرجَ، تركني وحيدا مع تجّهم لَمْ أُشاء الاعتراف به رغم تحديقه فيٌ عبر المرايا العديدة لذاك المطعمِ المزدحم. بعد دقائق قليلة خرجت من نفس البابِ، لكن خطواتَي أَخذتْني في اتجاه مختلف. عندما وَجدتُ فالانتينو كَانَ حزينَا ومُهَتاجا في آن واحد. كان يبدوا كمن عاد لتوه من جنازة صديق حميم له. أَخذَ المالَ، عندما أعطيتُه إليه mdash; عندما اكتشفت كَمْ يحتاج أعطيته مبلغا صغيرا إضافيا mdash;حدّقَ في بنفس الحدة التي َرأيتها تلك الليلِة على المركبِ؛ محمومِة بالأمل ِ، وبروحُ العار. أدركْت آنذاك كَمْ أحَببتُه. صافحَني، استدار، ولم أره ثانية قط.
بعد شهرين شَقّتْ رسالة مِنْ تينو طريقها لي في مطعم ليوبولد. سُلمت لي بيد الأفعى الكبيرةِ بنفسها. نَجحتْ الصفقةُ بما فيه الكفاية وحققت الكثير مِنْ المال، أخبرتْني، لكن فالانتينو تحطم. رفض أبوه أن يَأْخذَ المال منه، كما لم يقبل أحد من الناس الذين َخْدُعُهم أن يَتكلّمواُ معه، أَو يَتعاملوا معه على الإطلاق.
' جُنَ، ' قالتْ بشكل قاطع. ' لم أعد أعرفه. أصبح مختلفُ. أنه رجل مجنون. أنا أحببتُه، كما تعلم. هكذا كان الأمر. وألا لِماذا تَحمّلتُ الخطرَ لمُسَاعَدَته. لكن الحبَّ
لم يعد يعنى شيئا في آخر المطافِ. لا شيء لَهُ. لا شيء لي. رَجعتُ إلى الغرفةِ، غرفتنا، في أحد الأيام لأجده معلقا في الشرفة التي أعتاد أنَ يَنْظرُ منها كُلّ يوم على المدينةِ' والمال، المال كَانَ هناك، على الأرضيةِ، تحت أقدامه المُتأرجحة. '
أشرتُ للنادلَ بأصابعي، ثلاثة أصابعِ بشكل الحرف "W"،ليجَلْب الويسكي. قدحان انزلقا أمامنا، مَع كأس ماء مثلج. شَربتْ كأسها في جرعتين متتاليتين.
' تَركَ لي وصية. يُريدُني أنّ أَعطيك هذا المالِ. يَقُولُ بأنّه مالُكَ , "si"..؟ '
ببطء، بدا لي كتردّد موروث، دَفعتْ حزمة مَلْفُوفة بورقة عبر المنضدةِ إلى يدي.
' لا أقصد فحص فم جواد قُدم لي كهدية، ' قُلتُ لها، ويَدّي تَستندُ على الحزمةِ، '
ولكن لماذا أعدتَ المال؟ '
' أنت hellip; أنت.. أتسبني؟ ' زمجرتْ، وأطبقت أسنانها.
' ماذا..؟ '
' أتدعونني عاهرة!..من تظن نفسك..؟ '
' قلت حصانُ، ' صحّحتُ، أعتقد أنها أسأت السمع ' حصان mdash; أنا كُنْتُ أَتحدّثُ عن الخيولِ. هو hellip; هو تعبيرُ إنجليزيُ. لكن المهم الآن، والسؤال، مازال كما كان سابقاً mdash; لماذا أبقيتَ المالَ؟ '
' لا أحتاج إليه ' قالت وهي تشد أنفاسها. ' لدي كُلّ المال. وإذا احتجت إليه، سَأُستعيدُه منك. '
' حسناً ' تمتمتُ، محاولا مواجهة التحدي، مدركا بأنني لن أتمكن من ذلك.
' وهذا، ' قالتْ، مدت يدها لظرفِ في حقيبتِها،معلنة نهاية مقابلتَنا ِ، ' هذا لك. كان يُريدُني أَنْ أَعطيك هذه الرسالةِ. '
كان ثمة شيءُ صغير وصلب، في ظرفِ الرسالة الرقيقِ. دَفعتُه إلى جيبِي، وقفت لأمسك يدها وأطبع على خدها قبلة خاطفة. بينما كانت تخَرجَ من البابِ العريضِ كانت مجموعة من طلابِ الجامعةِ الهنودِ الشبابِ يصَفرون لها ويغازلونها. بدت لبرهة غير مهتمة، ولكنها في اللحظة الأخيرة نفضت شَعرَها الأسودَ للخلف وابتسمت لهم. فسارعوا ورائها وأبتلعهم الشارعِ المزدحمِ.
بعد زمن ليس طويلا، وبعد بضعة أحلام جيدة وأخرى سيئةً، وَجدتُ نفسي على ظهر تلك المركب الصدئ، مع شحنِة أخرى مِنْ الفيروزِ المُهَرَّبِ، ومرةً أخرى تحت نور البدر مع شريكينْ آخرين: تاتيف، ومع هولندي مرتاب وسريع الغضب يسَمّى فينتينك. كانت لحظة تفتت فيها الحديث،وتآمرَ فيها ضوء القمر مَع الأمواج الوافرة التي كانت تنوء تحت عبءَ المركبِ، لتَذكيري بتينو والدموع التي أراقها من أجل مدينتِه. مددت يدي إلى جيبِي وسَحبت الرسالةِ المَطْويةِ التي كُنْتُ أحَمْلها منذ أن أعطتها الأفعى الكبيرةَ لي. قلبت المظروف، تَركتُ البلاطتين الصَغيرتينَ تَسْقطان في كفي المفتوحتين. كانتا زرقاويتين: ليس بمثل زرقة الفيروزِ الفارسيِ، لكن ً قريب جدا من ذلك.. تخيلت بأنّني أَراها مبعثرة في صفوفِ ومغزولة في خيوط عبر حيطانِ ذاك البيتِ الذي أحبه تينو. أحسست أنّني ألمس الحائطَ، كما فعل هو كطفل،أمشى متجاوزا حيطان الحمام ذات البلاط الأزرق إلى المطبخِ وثم إلى نورِ الشمس الذي سطع في عيونه كولد صغير. ولكنه كان ليلاًً على سطح مركب صدئ تفوح برائحة زيتِ الديزل و السمكِ الفاسدِ، ليس ثمة حيطانَ في عالم كله ماءِ؛ عالم الأمواج الفزعة الجياشة التي تكدح نحو شاطئ بعيد.
رَميتُ البلاطَ إلى الماءِ، بكفين مفتوحتين، كما يفعل المزارعون الهنود عندما يَرْمونَ بذورَهم إلى الأفواه الغضنة الناعمة للتربةِ. لا أَعْرفُ إذا كان ذلك ما أرادَني تينو أَنْ أفعَلُ بها. لا أَعْرفُ ما الذي اعتقده في ساعاته الأخيرة على الشرفةِ الحديديةِ. مهما كان اعتقاده، مهما كان تفكيره, فقد كان هناك ً قمرُ كبيرا في البحرِ جوار المركبِ تلك الليلِة مما جعلني أعجز عن مُقَاوَمَة غريزةِ قديمةِ برمي البلاطِ، وتَركه يَرتاح في نفس المكان الذي رمى ذات مرة فيه دموعَه التركوازيةَ. وبينما كانت تلك النجومَ الزرقاءَ الصَغيرةَ تغادر يَدَّي تَألّقت، للحظة بدت مثل العملات المعدنيةِ التي نرميها للتَمنّي، قَبْلَ أَنْ تتلاشى في الأنفس النائمةِ للبحرِ العظيمِ.
' بحق الشيطان ماذا تفعل؟ ' صاحَ فينتينك، استدارت كل الرؤوس على ذلك السطح تجاهنا. ' ما الذي رَميتَه في البحرِ الآن؟ '
أهملتُه. هناك نوع مِنْ السريةِ تنبع من الرغبة في النكايةِ.وتخلق صمتا صعب الكسر. صاحَ فينتينك ثانيةً، لَكنِّي تركت عيونُي وأفكارُي تتابع تتالي الأمواج المتنهدة.
' حسنا ' سَمعتُ قول تاتيف خلفي، بصوت وأسلوب هادئين. ' هذا نوع من الطقوس... عبادة..كما تَعْرفُ؟ شيء روماني. شّيء يعمله الرومانَ. '
' روماني؟ ' عَضَّ فينتينك شفتيه قائلاً ' أَنا هولنديُ. أنت جزائري. وهو hellip; الله فقط يَعْرفُ ما هو، لَكنَّه لَيسَ روماني. ما الذي تَتحدّثُ عنه؟ '
' هي نوعُ من التقاليد، ' أوضّحَ تاتيف، كان يَعْرفُني معْرِفة كافية ليعلم أنّني كُنْتُ أبتسم، بالرغم من أنَّ أدير ظهري له، ' كلنا رومان، في هذا الجزء من الرحلة. هنا، في هذا جزءِ المحيطِ، كلنا رومان.
Roma
Author: Gregory David Roberts
ISBN: B000A0F6NG
Publisher: Resolution Theory Pty, Ltd. 2004.