سائق النساء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الصبر يا إلهي..، كيف لي أنْ أتحمل كل هذه الفوضى ساعتين كاملتين؟ كان يفكر ضاغطاً بيده على فكِّه الأسفل، ثم صرخ بنبرة أسى وإرهاق:
ـ اجلسن أرجوكن، اهدأن قليلاً.. الطريق مزدحم جداً ولا أستطيع التركيز، سأصطدم الآن؟
ردت عليه إحداهن، من نهاية الباص:
ـ جعفر، شَغِّل لنا نانسي عجرم، أطبطب وادلع.
نانسي عجرم مرة أخرى؟؟؟؟ حاضر سأفعل ما تطلبن، فقط اهدأن وعض على لسانه.
يبدو أنَّ كلامه لا يصل إلى أحد، أو بالأحرى، لا أحد يسمعه، يستسلم بهدوء ويضع الأغنية التي طلبنها، تصرخ واحدة: ارفع الصوت كثيراً.
كاد أنْ يبكي وهو يقول: سأفعل حاضر، سأرفع الصوت......
رفع الصوت وتنهد كمن يرى المقصلة أمام عينيه، أمَّا هن فقد بدأن الرقص والغناء والتصفيق والزغاريد.
جميعهن واقفاتٍ يرقصن، وكلما مرت سيارة من اليمين أو اليسار تبطئ سرعتها ليستمتع ركابها بمنظر الباص الذي يهتز من الرقص ويلوح ركاب السيارات المارة لجعفر، الذي يقول لنفسه، طبعاً هذا يحرجني، فأنا أعلم أنهم يسخرون.
لن أشتم الحياة التي رمتني لقدر أنْ أكون سائقاً تحت الطلب للنساء، لم أتوقع كل هذا البؤس، توقعت المتعة والانتشاء والفرح، دائماً كنت أتمنى أنْ أعمل لدى النساء وبمكان ممتلئ بالنساء، واخترت هذه المهنة لأشبع من المرأة وجمالها وقوامها أياً كانت، ولأختار حبيبتي باقتناع ورغبة، هكذا كنت أفكر، لم أحسب حساب شيء سوى صحبتي للنساء.
ـ جعفر، أعد أطبطب وادلع من جديد.
ـ حاضر.
آه، ألم أجد خيراً من أكون سائقاً لعزومات الأعراس؟ أحضر النساء من بلدة إلى بلدة، تصاحبهن الزفات والصهيل والزغاريد، كل عرس يشبه الآخر، وكل أسبوع يمتلئ باصي بخمس وعشرين امرأة، وكلهن مجنونات، كل النساء مجنونات، عنيدات، أنانيات، تافهات، يا لهذا الاكتشاف، إنَّ صحبة النساء تعلم الكثير من خباياهن، مجنونات.. مجنونات، وأنا تعيس.
أول مرة عملت بها، كانت نقل طالبات لحفل بسيط، فرحت جداً فأنا أحب الطالبات، الفتيات، البنات، الصغيرات، استمتعت بتلك الرحلة التي استمرت أربعين دقيقة ذهاباً وأربعين دقيقة إياباً. كن فتيات رائعاتٍ يدرسن الموسيقى، هادئات يتحدثن بهمس وحين يتحدثن معي يقلن.. الأستاذ جعفر.. وكنت أنتفخ كمنطاد، من يومها لم أسمع كلمة الأستاذ. النساء يُقللن كثيراً من أهمية الرجل إذا عمل عملاً متواضعاً، ولهذا كانت كلمة أستاذ من الأشياء الرائعة التي لم تتكرر في حياتي.
اعتقدتُ أنَّ الأمر سيكون هكذا دائماً، وكان العمل متنوعاً في البداية ما بين حفلات الجامعة ونقل الموظفات من مقرات أعمالهن، وحفلات الأعراس.
للأسف أنَّ صيتي ذاع بين النساء، نعم أقول للأسف أنَّ صيتي ذاع، كم أنا بائس وأنعي شهرتي، لولا حاجتي وعنادي لما واصلت هذا العمل، أكره النساء، أكره البنات، أكره الأعراس، أكره الموسيقى أكره الأغاني، أكره أطبطب وادلع التي صدعت رأسي بإعادتها عشر مرات حتى الآن، لقد تحديت أصدقائي بالقول إنه عمل رائع وسهل، مع أنهم حذروني منه، وها أنا لا أستطيع الاعتراف بالفشل رغم مرور سنتين.
لماذا تنتشي النساء كثيراً في الأعراس؟ يا إلهي كم يحببن الرقص والموسيقى، إنهن يسكرن تماماً ويدرن حول أنفسهن كالـ ؟ آه كالعواصف، لا يتحدثن ولا يثرثرن خلال الرحلة، إنهن يرقصن ويغنين فقط، يطلبن عبد الله بالخير، نانسي عجرم، ووائل كفوري، موسيقى سهير زكي وووو... لا يتركن مطرباً إلا واستمعن إلى جميع أغانيه، وإذا رفضت الرضوخ لمطالبهن، يصرخن ويهاجمنني ويدرن جهاز الكاسيت بأنفسهن، ويتركن حارسة منهن بجانبي تحرس الجهاز للتأكد من أنني لن ألمسه، إنه لا يُستأمن.
ـ جعفر ماذا بك اليوم؟ غنِ معنا هيا.
نعم لقد اعتدن على أنْ أغني معهن، ومعظمهن يتكررن في جميع العزومات، ومعظمهن من فرقة الزفة المشهورة للأعراس الشعبية، وهؤلاء السيدات مجنونات للغاية مدمرات لنفسيتي للغاية، قبيحات، باهتات،.. أكرههن، في بعض الأحيان يطالبنني بالمشاركة في الغناء غصباً عني، لأني الرجل الوحيد بينهن ويجب أن يشاركهن صوتُ رجل.
ـ لا أستطيع أشعر بالتعب اليوم.
ـ لا يا جعفر يجب أن تغني وراءنا، هيا، أرجوك، غنِ، كنْ معنا.
سأجن.. سأجن، أقسم بربي أنني سأجن.
ـ جعفر، سعاد أصلحت الدف، اسمع لحنها الجديد لدخلة العروسة.
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه..، دف؟؟؟؟ أنا من أفسده منذ شهرين، كيف استطاعت أن تصلحه أو أن تشتري آخر جديداً؟ دف؟ وفي هذه الزحمة؟
بدأت سعاد في نقر الدف، وبعضهن يرددن ورائها كلماتٍ جديدة، ترتفع وتيرتها من حين لآخر، فيما البقيات يهززن رؤوسهن انتشاءً بما يسمعن.
هذا جيد، لقد هدأن. هل قامت القيامة؟ لأول مرة يخفت الضجيج، على الأقل لحن هادئ جعلهن يستسلمن، أتمنى أنْ يواصلن هدوءهن حتى نصل، لم يبق الكثير،.. ثم فجأة سمعهن جعفر يشتمن ويلوحن بأيديهن خارج الباص.
ـ ما هذه الفوضى بالخارج؟ ما بكن الآن؟ لمن توجهن الشتائم؟
ـ أوقف الباص يا جعفر.
ـ ماذا حدث؟ ماذا تفعلن؟
ـ انظر.. إلى الشباب في هذه السيارة، إنهم يرمون علينا أوراقاً، ويلوحون بلافتات عليها كلام فظ وجارح.
ـ لكنها ليست المرة الأولى التي تمر علينا سيارة بها شباب هكذا، لو كنتن هادئات، لما حدث ما يحدث الآن.
ـ أولاً، إنها المرة الأولى التي يرفعون فيها لافتات عليها كلامٌ سخيف، ثم ماذا تقصد أيها التافه؟ صرخت إحداهن بالسؤال، وصرخت أخرى:
ـ نحن في مرح ونحب أن نعبر عن المرح.
نظر جعفر في مرآة الباص التي أمامه إلى وجه المرأة التي وصفته بالتافه، وهو يشتاط غضباً وصرخ:
ـ تافه، نعم، تافه لأنني أتنقل بجنونكن من مكانٍ إلى آخر و...... صمت فجأة، لأول مرة يراها، من هذه؟ إنها رائعة الجمال..
قالت: أكمل؟
الباص صامت، والكل ينتظر نتيجة النقاش الحاد.
وجعفر.. صامت.
قالت له:
ـ هيا فسر كلامك؟ هل تريدنا صامتات حتى نصل العرس وقلوبنا مليئة بالكسل؟ طبعاً لن نستطيع الغناء ولا الرقص، أقول لك: اكتب على ظهر باصك:
" باص الأعراس ممنوع التحرش، الكل هنا محترم وسعيد. "
اهتز الباص بضحكاتهن وسخريتهن منه بسبب تعليقها الأخير، وشعر جعفر بالحرج فقال لها:
ـ من أنتِ؟ لأول مرة أراكِ؟
ـ لا هذه هي المرة السادسة التي أركب فيها باصك، ألم ترني قبلاً؟ طبعاً لأنك لا تلتفت صوبنا أبدا، طوال وقتك نكداً وحزيناً وغاضباً، لو كنت تنظر إلينا لما سألتني من أنا؟...
استدار جعفر: النساء جالساتٍ في الكراسي، وجوه فاتنة، أجساد متوقدة في ملابس رائعة، ابتسامات مغرية، جوٌ مضطرم ونادر.........
غمغم لنفسه: من هؤلاء؟
كاتبة ومترجمة
wewe74@yahoo. com