قص

ليلة مُتّقدة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

التضرّعات الدينية أخفقت في إبعاد شبح الخوف عن ذهنه. وفي إقناعه بأن هناك صباحاً آخر سوف يشرق. وبعد منتصف الليل بوقت طويل، ظلّ يقظاً يحدّق في الظلام، راقداً في سريرهِ الخشب، كدُمية مُتخمة بالقطن. لابدَّ إنَّ هناك سبباً دعاه إلى الهروب من النوم، سبباً جعل الفراش ينفرُ منهُ، يرفضه دفعة واحدة. مع ذلك فهو ما زال داخل الفراش، وشعوره بالدفء هو الذي يذكّرهُ بوجوده وبالأمان.
أكان أجدر به أن يترك السرير ويغادر الغرفة، بخطوات قصيرة خافتة، ويتجه نحو غرفة جدّته، للحصول على أمانٍ أكثر، ربما، لكن كيف ؟ والظلمة تكسو المكان كغطاء ثقيل، وأيضاً سيكون الممرُّ مظلماً، وبقية الغرف الأخرى. إنه سبب آخر يدعوه للمكوث داخل السرير. انقطاع التيار الكهربائي.
من حين لآخر، كان ينصت لشيء أشبه بالخفق أو حركة مريبة، وليس بمقدوره أن يميّزها، أو يزحف نحو الخارج لمعرفة مصدرها. أنفاسهُ توحي بأنهُ في خطر، رغم إدراكه بأن الغرفة مُحكمة البناء، جدرانها متينة، بابها مغلق، وكذلك نافذتها مغلقة. لكن ما هذا الصوت ؟ الذي قضّ مضجعِه وجعلهُ يتقلّب مثل سمكة أخرجت للتوّ من النهر. كان يأتيه مترامياً من بعيد، واطئاً كالأنين أو عالياً كالدويّ، يهزُّ غطاء السكون الواقي لأذنيه الصغيرتين.
عادةً، كان ينتهي يومهُ في السابعة مساءً، حين يتناول طعام العشاء مع جدّته. ثم يقوم بتحضير دروس الغد، وحين تأتي ساعة النوم ويندسّ داخل الفراش كأيّ صبيّ في العاشرة من عمره، تتلو عليه الجدّة بعد تنهداتها، بعض من آي القرآن والتعاويذ، ثم تحكي لهُ قصة hellip; كانت الكلمات والأحرف تتساقط كالمطر مدراراً، تهطل على مسامعهِ، فيغفو دون أن يلحظ مغادرتها، لكنه وحين يجد نفسه وحيداً، وهذا نادراً ما يحصل، يقوم وحسب التعليمات المحفورة في ذهنهِ، بترديد ما حفظهُ من أدعية وآيات بصوت خفيض، ثم يحاول اللحاق بأوّل إغفاءة تمرّ به، وهو يعدّ الخراف القافزة فوق سدّة الطين. أما الليلة وما إن تمدّد في السرير راح يفكر، مهموماً عكر المزاج، بجدَّتهِ المريضة، المتوجعة منذ العصر بسبب ألم ضرسها الذي بدأ ينمو من جديد.
(( شقَّ طريقاً وعراً في بحثه عن لذّة النوم، طقطقت عظام مفاصله، أثناء صعوده سلّم المدرسة، وخفق قلبه حين دفعه أحد التلاميذ، ودَّ أن ينزل، لكنهم دفعوه ملتحمين في قتال ضار لإمتطاء ذراع السلّم الصاج الملساء، فرحين بمغامرة انحدارهم السريع، بعيداً عن عصا المُعلّم، بدا ضعيفاً واهناً بينهم، فقد التصق إلى الجدار، مواصلاً اندفاعه للأعلى، يحفّ به غبار الأحذية، وصراخ حادْ. وفجأة وجد نفسه وحيداً في ممر ضيّق طويل، يبحث عن ملجأ، بين صفّي أبواب صفوف مغلقة تبّتت فوقها صوراً مشوّهة لمُعلّم الرياضيات وهو يحمل عصاه الغليظة، أغمض عينيه وتراجع متعثراً بحقيبتهِ يصرخ، ثم تذكر، بأن هناك في الأعلى إلى جانب فوّهة السلّم، زاوية آمنة للاختباء، طار إليها، تطاردهُ أنفاس المعلّم المتبوغة، تلفُّ كيانه، تعترضه، لكنه وبمهارة يقاوم، يتملّص، يركض ويركض، متعباً، لاهثاً خائفاً، يركض، ولفترة طويلة ظلّ يركض.. ويركض دون أن يُدرك نهاية للسلّم..))
ليست هي المرة الأولى التي يسمع بها هذا الصوت، فمنذ فترة، ألهبَ خياله أنين موجع، طيّر منه النعاس وجعلهُ يطيل التفكير، مرتبكاً، شاعراً بهزّة خفيفة من خوف وقلق، صحيح انه لا يخاف إلاّ من معلّم الرياضيات. لكن الآن ومن فوق سريره الدافيء، حيث يرقد متدثراً، أخذت حنجرته تصعد وتنزل ببطء، وتجلّت في عينيه نظرة حزينة، غائبة، وانقبضت ملامح وجهه، إذ شعر به يخترقُ الجدار القريب، أشبه بإيقاع رتيب مدوّ، يرتفع بالتدريج رويداً..رويداً، يحتل الغرفة، يصطدم بدولاب الملابس، زجاج المكتبة، ثم يندسّ تحت الغطاء، يتسرب إلى داخل جسده، غليظاً يسحق عظامه، كالمسامير يستقر في راحتي قدميه، ثم يتحسس طريقه من جديد، صعوداً إلى الساقين ـ الفخذين ـ الردفين ـ. يندفع مع امتداد الجسد إلى عموده الفقري، كلسعةِ قطعة ثلج، يشقّ شرخاً من الوهم، يصدر صريراً ناعماً كلّما تنفّس hellip;
تُرى هل سمعت الجدّة ذلك الصوت ؟ وهل فعلت مثلهُ ؟ أم إنها سوف تخرج لترى ما يحدث. ظلّ يغمغم، مُبتهلاً إلى الخالق، على مدى فترة طويلة، غاصّاً بكلماتهِ، محاولاً إبعاد شبح الرعب عن هاجسه، بصوت واهن مرتجف يخرج من جوف الغطاء لزجاً أخضرَ كالقيء : ( لابدّ ستأتي وتطمأن عليَّ hellip; أنا.. أحبها.. كثيراً.. )
يمضي الوقت في توتر وألم وبكاء، والصوت بطريقة منتظمة، ينقذف في الفضاء ناسجاً حوله شباكاً من حديد، تحدث اهتزازاً حاداً وصريراً بحركتها.. كارتطام سكاكين عملاقة / تحطم ألواح زجاج / تكسّر جذوع أشجار hellip; ومن شدّة ذعره، احكم حوله الدثار، التفّ على نفسه، ودفن رأسه في الوسادة. حدث كل هذا في حركة واحدة سريعة، ارتطم على إثرها رأسه بحافة السرير، الأمر الذي أدّى إلى حدوث رجفة عنيفة في جسدهِ، وازدياد ضربات قلبه، ولم تند عنه صرخة أو آهة، بالرغم من شدة الألم الذي صاحب بروز ندبة بين شعر رأسه.
ساد الغرفة هدوءً مفاجئاً، جعلهُ يكون أكثر حذراً ونباهة، هدوءً شبحيّاً أشعرهُ بإحساس مداهمة مفاجئة. تصاعدت إلى أنفهِ رائحة رماد رطب، بلع ريقه، سحب نفساً عميقاً، أخرج رأسه من تحت الغطاء، ثم بقية جسده، إعتدل في جلستهِ، وراح ينصت، ضاماً يديه في حضنهِ، يفكر ـ لكن بلا جدوى، ماذا يعني كل هذا ؟ لماذا لم تأتِ الجدّة ؟ تحسّست أصابعه المرتجفة شعر رأسه. تأوّه، وهو يضغط على الندبة البارزة. لبث دون حراك، ثم اندسّ تحت دثاره، مُرهقاً، في محاولة للعودة إلى الهدوء والنوم ، مال إلى جانبهِ الأيمن، أطلق تثاؤبة لذيذة، جعلت الاطمئنان يعود إليه، وينقلهُ بهدوء إلى سدّة الطين الرطبة، حيث الخراف القطنية المتواثبة، تطلق ثغاءها في صعود ونزول.. راقص، هاديء، رتيبhellip;

nabeelstory@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف