قانصاتُ اللحظة، مُباغتاتُ المنازل، واهياتُ القلوب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
المسألة ليست هينة أبداً، أقصد التعامل مع خادمات المنازل، لم أنتبه يوماً إلى أنني قد أفكر بالموضوع، فلم يكن مهماً إلا لحظة عثوري على خادمة مناسبة. كنت قد نويت أنْ أسرد قصصي معهن ابتداءً من أول واحدة، ولكنني حين وضعت العنوان لمع بخاطري أنْ أكتب بشكل عشوائي، ثم حين بدأت السطر الثالث اكتشفتُ أنني لا أعرف كيف أبدأ الكتابة في هذا الموضوع. فلنقل إنني سأنساق للبداهة. آه، قبل أنْ أنسى، أقول لكم إنَّ أربعاً ممن تعاملت معهن كان اسمهن ميري وحين أرمز إليهن بميري1 أو ميري2 فلا يعني حسب الأولوية الزمنية في العمل لدي وإنما حسب.. ؟.. ربما اهتمامي بشخصيتها.
سالومي: كانت في منتصف الثلاثينات، من الهند، وتحديداً من حيدر آباد، كانت واثقة من نفسها، وكما تقول فإنها تعمل منذ 20 عاماً، أووووه طبعاً كذبة كبيرة فلا شيء يدل على أنها مغتربة منذ 20 عاماً. سالومي اسم جميل، وقد استغربت كيف أنها تحمل هذا الاسم التاريخي الرائع الذي ليس له علاقة بالهند، لكن أعتقد الآن أننا كنا نلفظ اسمها الحقيقي بشكل خاطئ، حتى أصبح على ألسنتنا "سالومي" زوجة هيرودس التي طلبت رأس يوحنا المعمدان مهراً لها.
قلتُ لكم إنَّ سالومي هذه شديدة الثقة بنفسها وفي حركتها وفي تأقلمها مع المكان، كانت متفاهمة مع الأطباق والجدران والأَسرَّة، نظرتها محددة، كانت امرأة كاملة ناضجة وملامحها جميلة تشبه المصريات القديمات، لكنها كانت سارقة تحب الأجبان والمربات والعصائر، ومع هذا لم أتركها، هي تركتني لأنها وجدت مكاناً أفضل، وأعتقد أنَّ مهمتها في الحياة كانت يجب أنْ تكون سيدة أعمال. بالمناسبة بيتي كان المكان الأفضل لها من بيتٍ آخر جاءتني منه. أتساءل، هل كانت ترقص حافية القدمين مثل سالومي الحقيقية؟
ميري1: هذه الفتاة بحق لم تُخلق للعمل في المنازل، لم تكن تفهم في إدارة البيت والتنظيف شيئاً مهما تعلمت، كانت تؤدي ما يُطلب منها دون اكتراث بإضافةِ أو تغيير شيء، إنْ قلتُ نصف ملعقة ملح، فالأمر لن يتعدى نصف ملعقة بالضبط. تتحرك ببطء عجيب وبتمايل لا إرادي، لا يهمها إنْ أنهت العمل في وقته المحدد أم لا، تؤدي ما تستطيع الوصول إليه، كانت طويلة جداً وشعرها ناعم وكثيف، كما كانت نظيفة وأنيقة وبالكاد أسمع صوتها، كانت الأحب إلى قلبي.. تركتني لأنها مرضت.. هي أيضاً من حيدر آباد. تذكرتُ شيئاً الآن لم يخطر ببالي قط، إنها نسخة سمراء من بريدجيت باردو. إذن لديها الحق في التعامل مع الحياة بتفاهة، كان يجب أنْ تكون عارضة أزياء.
جويس: جويس هذه فتاة مثقفة تشبه ميري1 في شكلها، كل ما تعمله يكون مثالياً تماماً، وتتعلم بسرعة والكتاب بيدها طول الوقت، متمسكة بزيارة الكنيسة ونظيفة لأبعد حد، ارتحتُ لها، لكن كما بدا لي كانت عاشقة، وهذا يفسر سر تكسيرها للصحون والأكواب من فترة لأخرى، وأيضاً احتراق الطعام كل ليلة. كانت نبيهة ومتقدة الذكاء، نظراتها مخيفة ويمكن أنْ تنتقدك بكاملك في نظرة واحدة، ثم تستغرق في مشيتها اللامبالية. أعتقد أنها كانت يمكن أنْ تكون لاعبة تنس ماهرة، لكن الحظ رماها معي لعدة أشهر ثم تركتني لتعود إلى جوا بالهند كي تتزوج، كان واضحاً أنها عاشقة كما حدست، اسمها جميل وله علاقة بأسماء أدبية أحبها.
حسناً، فتاتي الرابعة هي الوحيدة التي بقيت معي لأكثر من سنة، بنت لطيفة وطيبة من إندونيسيا، كانت في الخامسة والعشرين. عيناها صافيتان، تتحلي بصبر غير طبيعي، حساسة، تحب الماكياج والعطور والملابس وخاصة التِّي شيرتات، تحب الخروج كثيراً، باختصار كانت مرحة وجميلة، لا يمكن أنْ تجد عيباً في عملها، ما عدا كرهها لاستخدام المكنسة الكهربائية ولمسح الأرضيات، كنتُ أتخيلها مصممةَ أزياء. تركتني لأنه حان وقت عودتها إلى بلدها، حمَّلتها بالهدايا والتذكارات الرائعة، واكتشفتُ بعد شهرين أنها لم تسافر، وأنها تعمل لدى عائلة أخرى.
ميري 3: هذه غبية جداً استخدمتها لمدة ثلاثة أيام فقط، لا أذكر لماذا هي غبية، لكنها لم تكن تفعل شيئاً سوى ملاحقة التلفزيون والتلصص على الأفلام الرومانسية، ولم تقم بعملٍ خلال الثلاثة أيام سوى طبخ ثلاث وجبات متفرقة لا علاقة لها بالطعام. كانت ممتلئة قليلاً وتأكل بشراهة وتحب البيض، كان واضحاً أنها مدللة. أعجبني وحيرني شيءٌ واحد فيها.. عشقها للون الأبيض في الملابس، لم تكن ترتدي سوى الملابس البيضاء، فكرت بها كثيراً بعد رحيلها وقلت هذه فتاة صغيرة ولم تجرب العمل أبداً ولا قسوة الحياة. من الأفضل أنني تركتها.. (لاحظوا، أول مرة أترك فيها خادمة).
نقاط القوة لدى الخادمات أكثر من نقاط الضعف، حين تنظر إليهن من وجهة نظر المحتاج لخدماتهن، لكن الحقيقة أنهن لا يتعاملن بشخصياتهن الحقيقية، وإنما بحسب ما اكتسبنه من خبرات عن الناس وطبائعهم من كل بيت.
فاطمة: من المغرب، وجدت هذه المرأة، كانت إنسانة حقيقية، لم يكن كل عمل تؤديه كاملاً ولا ناقصاً، كانت تؤدي ما ترى أنها يجب أنْ تؤديه، لم أكن لأقلق بشأن شيء في وجودها. قضت معي 6 أشهر، ترتب فيها أمور البيت بشكل لطيف، الأهم أننا في كل يوم نأكل وجبات مختلفة ومنوعة، كان رأسها نحو الأرض دائماً، ترتدي ملابس طويلة بأكمام طويلة وغطاءً للرأس، صوتها حاد جداً، تحب الخياطة والتطريز، لكنها لم تحبني يوماً، أعني لم ألحظ نظرة حب ومودة منها، حاولت أنْ أتقرب إليها، لكنها كانت تنفر مني بأسلوبٍ صارمٍ وقوي، لم أجد تفسيراً لتصرفها. قبل أنْ تغادرني بساعتين مبررة ذلك بأنَّ أمها مريضة وتحتاج إليها قالت لي: لم أحبك يوماً لأنني لم أستطع أنْ أرفع رأسي أمامك، تساءلتُ ولم أفهم وغاصتْ بعيداً.
بعد أسبوع قابلتها في صالون التجميل وكانت جميلة للغاية، حتى أنني لم أعرفها في البداية. لم أبدأ بالكلام حين قالت: لا تسألي ولا تقولي شيئاً، لم أذهب لبلدي ولن أذهب، أحببتُ جاركم وأحبني وطلبني للزواج، الليلة زفافي. قلت لها معي سؤال فقط، قالت أعرف ما ستسألين عنه لكني لا أقوى على أنْ أمدك بطاقةِ غرور إضافية.
ميري2: ميري هذه كانت أماً مُتعبة وساذجة، كانت أفقرهن، وهي كذلك من حيدر آباد، تعيل أمها وزوجها وابنتها وأخيها وأولاده، كانت قذرة بالمعني الحقيقي للكلمة. قدمت لها كل أدوات النظافة. كانت تقول: لا وقت لدي للنظافة إنْ لم تتحملوني هكذا فسأرحل، هناك ألف بيت ينتظرني لأعمل به وأنتم أحرار. تحملتها فترة ثم رجوتها أنْ تستحم وقلت لها إنَّ المستخدمين لن يقبلوا بها هكذا، قالت: عاهدت زوجي ألا أستحم كثيراً كي أحتفظ برائحة جسده، مجنونة، أنتِ هنا منذ عامين، قالت: نعم وما زالت رائحته عالقة بأنفي. قلتُ لها: عودي إليه، قالت بكل جدية: هل سترسلين لنا المال صدقة منك؟ ضحكتُ وأعطيتها راتبها ومبلغاً إضافياً لشراء بطاقة هاتف وصرفتها. كل غرفة تدخلها كانت تعبق برائحة جسدها الخانقة، كانت رائحة مزعجة جداً، مُختلطة بالبهارات وأدوات التنظيف الصناعية والعرق وزيت الشعر.
(.. هناك الكثير من الأحلام التي تلفظها الحياة، والكثير من الأوهام التي تصنعها الآلام. كل امرأة كانت تراقب ما حولها وتنسى أنْ تراقب نفسها، هذا ما تعتقده، وتفنى في البحث عن راحة الآخر الذي تحبه، سواء أكان زوجاً أم أولاداً أم والداً ووالدة، لكن الحقيقة أنَّ المرأة تتفانى إرضاءً لقناعتها، ليس معنى هذا أنها لا تحب سعادة الآخرين ولن تعمل لأجلهم، ولكن المرأة أنانية حد الفناء، بمعنى أنها قد تخدم ليلَ نهار دون توقف كي تشعر بالرضا تجاه ما تفعله، حين ترى الرضى في عيون من تعمل لأجلهم. المرأة لا تعمل من أجلك إنْ كانت تجتهد لأجلك، بل هي تعمل لكي تحقق ذاتها فيك، وكلما تفانت أكثر كلما كان لديها خطة أخرى حتى تنال ما تحلم به..)
هذا الكلام صدر عن خادمتي الفلبينية التي تركتني بعد شهرين ونصف بالضبط من العمل معي، كانت عادية ومقبولة لكنها مهملة وثرثارة، ميزتها الوحيدة أنها كانت تعشق الكتابة، أراها تكتب طول الوقت، وكانت تجيد الانجليزية بمهارة أدبية واضحة. لم ألحظ شكلها يوماً ولم ألحظ أسلوبها في التعامل، كنتُ مشغولة بتعليقاتها، وآخرها الذي قالته حين ذهبت:
(.. لن نبقى خادمات، لأننا لم نولد خادمات، ولن تبقين سيدات لأنكن ولدتن سيدات، اقبلي بأي امرأة يمكن أنْ تعمل لديكِ وحوليها من ضفدع إلى فراشة، مع أنني لا أرى خطباً في الضفدع، لكننا تربينا على أنه قبيح، والقبح يا سيدتي أيضاً له معنى حسي ومعنوي، ولكِ أنْ تختاري حسب وجهة نظرك..)
كَمْ خادمة عملت معي؟
لقد تجاوزن الخمسَ عشْرة، لكن يا تُرى، مع كَمْ سيدة تعاملت كلُّ واحدةٍ منهن؟
لم أجنِ شيئاً من عملهن لدي بقدر ما جنيت معنى التمركز الداخلي والتشبث بالحياة والحرص على مراقبة العيون التي خُلِقَتْ لأعمالٍ أخرى، وانساقت بها الحياة لأعمالٍ مختلفة.
تُرَى.. لِمَ خُلِقْتُ أنا؟
كاتبة ومترجمة
wewe74@yahoo.com