الكاتب الآخر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لم يكن من الذين ينكبّون كثيرا على الكتابة ولا من الذين يخصّصون لها وقتا محدّدا ولا من الذين يختارون لها مكانا بعينه.ولم يكن يلتفت إلى القلم إلاّ بعد ما يغالب طويلا رغبته في أن يكتب شيئا مّا حتى إنّه كلّما همّ بنصّ أوهمّ به نصّ استطاع أن يكمله دون تقطّع ولا تلعثم ولا طول انتظار.
يومها، حين أمسك قلمه وبسط أمامه ورقاته البيضاء لم تكن الفكرة مكتملة تماما في ذهنه ولكنّ دافعا مّا لم يفهمه جرّه جرّا إلى أن يشرع في الكتابة.
ما إن أنهى السّطر الأوّل ووضع وراءه نقطة وراجعه من اليمين إلى اليسار ثمّ من اليسار إلى اليمين حتى رنّ هاتفه الجوّال. انهمك في مكالمة دامت عشر دقائق قدّم له فيها مخاطبه آخر نشرات أخبار المدينة وأحاديثها ثمّ عاد إلى ورقته هامّا بمواصلة الكتابة. نظر إلى الورقة.... قرأ ما فيها... نظر إلى القلم بين يديه... تثبّت من لون حبره... ومن حجم خطّه... قارن بين ما كتب وما وجده مكتوبا بعد النقطة التي أنهى بها سطره الأوّل... نفس الخطّ... نفس القلم... نفس لون الحبر... نفس حجم الحروف والتواءاتها... أمسك رأسه بين يديه... أغمض عينيه وفتحهما ثمّ أغمضهما وفتحهما... حرّكهما في كلّ أرجاء الغرفة فلم تعثرا على شيء زائد أو شخص آخر... من مكانه قفز إلى باب الغرفة وشبابيكها يتثبّت من أنّها مغلقة كما أحكم إغلاقها قبل ساعة... ثمّ خرج يجري ويجول في الغرف الأخرى يبحث عن أيّ أثر لأي واحد تسلّل إلى الدّار وغافله وسحب من أمامه الورقة وهو منشغل بالجوّال وأضاف إلى ما وجد مكتوبا كتابة أخرى. لم يعثر أديب العشرين كتابا مطبوعا على دليل واحد يطمئنه ويجعله يميل إلى أنّ شخصا مّا قد تسلّل في غفلة منه ومازحه أو ساعده أو تدخّل في ما لا يعنيه وكتب دون إذنه كلاما على كلامه... عاد إلى ورقته وقرأ سطره الأوّل الذي كتبه ووضع وراءه نقطة ثمّ تركه على البياض وحيدا قبل أن ينشغل بحديث المدينة: " أسود. لامع. دوّار. متحرّك. وثير. عريض. مريح. " يذكر جيّدا أنّه لم يكتب سوى هذه الكلمات السّبع ويذكر أنّه وضع بين كلّ كلمة وكلمة نقطة وأنّه وضع وراء الكلمات السّبع نقطة أخيرة ثمّ أمسك هاتفه الجوّال وآنشغل بالكلام. من أين جاءت هذه الجملة الجديدة ومن ذا الذي تسلّل في غفلة منه وكتب نيابة عنه: " بينهما الآن عشرة سنين طويلة" أشعل سيجارة ورشف من قهوته السّوداء الباردة جرعة واستلقى على ظهره ثمّ أخذ يتلذّذ بمتابعة سحائب الدّخان وهي تتلوّى وتتشكّل وتتقارب وتتباعد ويمحو بعضها بعضا... ثمّ استطاع أن يقنع نفسه بعد جدال طويل معها أن لا أحد كتب الجملة الجديدة غيره. الخطّ خطه والقلم قلمه والنّسق ذاته بل إنّها الجملة نفسها التي كان ينوي قبل أن ينشغل بالجوّال أن يكتبها. نهض ومن جديد أمسك بقلمه وكتب: " ألفه وأحبّه وأصبح يفضّله على زوجته وعلى أبنائه وبناته. " ثمّ وضع القلم فوق " بناته" وخرج يضع رأسه تحت الماء البارد. أنعشه الماء البارد وأنساه وساوسه فرجع إلى غرفته مزهوّا يصفّر ويدندن بأغنية شعبية يحضره دائما لحنها وبعض كلماتها عندما يكون في حالة انتشاء كبير...
رشـف من قهوته السّوداء الباردة جرعة أخرى وهمّ بأخذ القلم ولكنّه لم يجده موضوعا حيث تركه منذ حين فوق " بناته" بل فوق كلمة أخرى جديدة! نفس الخطّ. نفس حجم الحروف. نفس لون الحبر... قفز واقفا... فتّش بعينيه كلّ أرجاء الغرفة... كّل أركان الغرف الأخرى... تثبّت إن كانت كلّ الشّبابيك مغلقة... من أين جاءت هذه الكتابة الجديدة؟ من ذا الذي تسلّل في غفلة منه وسمح لنفسه أن يكتب بدلا عنه بنفس الخطّ ونفس النسق... ؟ بل إنّ الجملة التي انضافت هي نفسها التي كان ينوي أن يكتبها قبل أن يذهب ليضع تحت الماء البارد المتدفق مخّه وشرايين رأسه؟ قرأ السّطر الأوّل ثمّ قرأ الجملة التي انضافت من تلقاء نفسها ثمّ قرأ الجملة الأخرى التي كتبها بنفسه والتي أنهاها عند "بناته" ثم بدأ يقرأ بتمعّن ما وجده مكتوبا بعدها:" قال مرّة في حوار أجرته معه صحيفة "Le figaro" الفرنسيّة إنّه لا يغفر أن يقترب أيّ كان من أسوده اللامع المثير المتحّرك الدّوّار العريض المريح ولكنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء". الآن لم يبق لديه مثقال ذرّة من شكّ في أنّه ليس وحده من يكتب هذا النّص وأنّ الأمر ليس كما يحاول أن يقتنع به مجرّد وساوس لن تلبث أن تتركه خائبة إلى غير عود... أحسّ بقلبه يخفق بعنف وبحنجرته تجفّ وبصدره يضيق... أسرع إلى النّوافذ يفتحها حتى يضاعف كميّات الهواء الدّاخل إلى الغرفة... تمنّى أن يصيح... أن يستغيث... أن ينتف ريش رأسه... أن يغرز أصابعه في جمجمته ويبحث بها عن تلك المادّة البيضاء الملساء العنيدة فيمسك طرفا منها بين سبّابته وإبهامه ويقرصها حتى تتلوّى وتتأوه ويظّل ممسكا بها فلا يتركها قبل أن تجد له تفسيرا لما يجري على أوراقه البيض... عاد إلى الورقة... قرأ ما عليها حرفا حرفا... قرأ ما كتب وما انكتب من تلقاء نفسه. لم يجد فرقا بين ما أضافته الورقة إلى نفسها وما كان ينوي إضافته. كأنّ الذي يكتب هو. النّسق نفسه والأسلوب ذاته. فكّر أديب العشرين كتابا منشورا وقدّر ثمّ فكّر وقدّر... " هذه عجيبة لم تحصل لي مع أيّ من النّصوص التي كتبت ما نشرت منها وما لا أزال أحتفظ به جاهزا في انتظار الطّبع. هذه عجيبة لن أستطيع أن أرويها لأيّ كان... لن يصدّقني أحد ولا حتّى أقرب النّاس إليّ... ولن أعرّض نفسي لسخريّة الآخرين وازدرائهم واتّهامهم لي بالجنون. بل لماذا أشكو أمري إلى النّاس أصلا؟ ألا تبدو اللّعبة جميلة؟ أكتب من النّصّ بعضه ويكتب النص بعضه الآخر. أكتب من النّصّ بدايته فتنمو البداية وتتشعّب وتبثّ فيها الرّوح وينتهي الأمر إلى نصّ سويّ؟ الخطّ مقروء واللّغة سليمة والأسلوب جميل وكاتبي الآخر وفيّ لأفكاري... " ومن جديد أمسك الورقة وكتب بعد الجملة التي كتبت نفسها بنفسها:" ولكنّ الأسبوع الماضي حمل إليه ما أشعره أن لذّته هدمت أو على وشك الهدم وأنّ عقله فسد أو على وشك الفساد وأنّ روحه طلعت أو على وشك الطّلوع" ثم قرّر أن يضيف جملة أخرى ليرى بماذا سيكافئه كاتبه الآخر بعد جملتين متتاليتين فكتب: " عندما أشرع له الباب الكبير ودخل وكان الوقت ضحى وهمّ بالجلوس فوجئ بالكرسيّ يصغرّ ويتضاءل ويفلت من تحته ويختفي تحت المكتب وهو يطلق أزيزا مقرفا منفّرا متواصلا آخذا شيئا فشيئا في الازدياد" ثمّ وضع القلم فوق " الازدياد" وخرج إلى المطبخ ليجلب قهوة سوداء أخرى.
أصوات باعة السّوق القريب تصل أذنيه صافيه كأنّها آتية من داخل الدّار.
رجل ينادي على تينه ويصف للنّاس طعمه وعسله ويحدّثهم عن فوائده التي لا تعدّ.
رجل يعرض للبيع بثلاثة آلاف دينار قابلة للنّقاش إقامته لعامين كاملين في بلد شقيق لكلّ من يرغب في شراء سيّارة مستوردة.
شاب ( أو هكذا بدا له ) يعرض للبيع إحدى كليتيه مقابل أعلى ثمن يقدّم إليه قبل أربعة أيّام أخرى.
بائع ينادي على بضاعة لم يذكرها ولكنّه كان يصيح:
Voici ce qu'il vous faut pour le samedi soir""
عندما عاد بعد ثلاث دقائق لم يفاجئه أن الورقة التي ترك نصفها فارغا قد امتلأت وأنّ ورقة أخرى إلى جانبها قد أزرقّ وجهاها. لم يكلّف نفسه مشقّة قراءة النّص كاملا واكتفى بقراءة جملته الأخيرة: " ترك مكتبه للمقرئين والعرّافين والمعزّمين والسّحرة وخرج يجوب الممرّات المحيطة به طولا وعرضا جيئة وذهابا". ثمّ وضع نصّه المكتمل ذي الخمسمائة كلمة تقريبا في ظرف متنبر وبعث به إلى إحدى المجلاّت التي تخصّص ركنا من أركانها للإبداعات القصصية بعد شهر واحد تلقّى من إدارة المجلّة مكافأة ماليّة لا يذكر أنّه تلقّى من قبل مثيلا لها وجاءته من رئيس التّحرير رسالة فيها: " نشكرك على نصّك الجميل ونلفت انتباهك بكلّ لطف إلى أن لا ترسل إلينا مستقبلا غير نصوص قصيرة لا تتعدّى الثلاث صفحات. " أسرع إلى أقرب كشك يبحث عن المجلّة التي كافأته و شكرته و نبّهته فاكتشف أنّ نصّه قد انسحب على كلّ المساحة المخصّصة للنّصوص القصصيّة و أنّ المجلّة لم تنشر غيره و أنّه يجاوز السّبعة آلاف كلمة ويحتلّ عشرين صفحة. لم يفرح أديب العشرين كتابا لأنّ نصّه نما من تلقاء نفسه وطال وتشعّب ولم يفرح لأنّ المجلّة كافأته وشكرته بل فرح كثيرا لأنّ هذا النّص بهذا الطّول سيوفّر عليه مشقّة كتابة نصوص أخرى ينهي بها مشروع مجموعته القصصّية المنقوصة. جمع إلى نصّه الطّويل نصوصه السّابقة ورتّبها فوق مكتبه في انتظار أن يبعث بها صباح اليوم الموالي إلى دار اعتادت أن تنشر له قصصه ورواياته. ليلتها ثارت في ذهنه أسئلة محيّرة لا حصر لها ولكنّه أقرّ بينه وبين نفسه أنّه عاجز عن أيّ إجابة فقرّر أن يتجاهلها جميعا وينام... نهض الصّباح بطيئا يتثاءب ويفرك عينيه ويمطّط أطرافه في الفضاء الواسع ثمّ انحنى على أديب العشرين كتابا يربّت على كتفه ووجنتيه ليوقظه من سبات عشر ساعات كاملة... تبادلا نظرات سريعة نهض إثرها الكاتب يغتسل ويفطر ويستعدّ للخروج... عندما دلف أخيرا إلى مكتبه ليتناول مخطوط الأقاصيص قبل أن يتّجه الى أقرب مركز بريد، لم يجد للمخطوط أثرا ولكنّه فوجئ بطرد بريديّ من الحجم الكبير يحتلّ شطر الطّاولة... امتدّت يده مرتجفة تفضّه وتجوس داخله فخرجت منه بالكتاب الواحد والعشرين مطبوعا جاهزا بصورة على الغلاف أنيقة وبنفس النّصوص التي كان ينوي إرسالها وبنبذة عن حياته وسيرته الأدبيّة... هذه المرّة،لم يصرخ ولم يولول ولم يسرع إلى الماء يضع تحته مخّه وشرايين رأسه ولكنّه خرج جريا إلى الشّارع ليلقي بنفسه تحت أوّل هيكل حديديّ قادم قادم بجنون....
تونس