قص

أمل اللقاء..

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

فتح عينيه،ادارهما في ارجاء الغرفة.. احس براسه ثقيلا كأنه جبل من احجارصلبة تكسره المطارق... شعر بوهن في اطرافه، حتى انه لم يتمكن من رفع يديــــــه ليمس بها انفه، فقد اعاقه الوصول إليه خراطيم المغذي الدقيقة التي كانت مثبـــة في يده.. حاول تلمس باليد الاخرى فمه، ماهذه الكمامة التي تحجزه؟؟ لبث لوقت طويل.. يفكر يتذكــر.. اين هو؟؟ وماهي هذه الجدران الشاحبة التي تحيط به؟؟.. حدق بانتباه إلى الصورة المعلقة على الحائط أمامه، أمرسومة بالالوان الزيتية، ام المائية؟.. وماذا تعني هذه الخطوط الزرقاء والبيضاء.. حاول جاهد الامعان فيها!! إلا انه لم يتبن ماهيتها... اراد النهوض.. لكن قواه كانت خائرة.. بصعوبة بالغة انقلب للجهة الاخرى، كانت قطرات المطر الليلي ماتزال عالقــــة بزجاج النافذة..
شئ ما كان يعتريه.. هاجس غريب سكنه منذ زمن، لم يفقه مبعثه.. اعاد محاولته في شحذ ذاكرته، إلا انه لم يفلح..!!
فجأة.. قفز إلى عقله ودون سابق انذار سؤال ملحاح!!.. منذ متى بدأ يعد نفسه للقاء اهله، أحبته، اصدقاء طفولته... ربما منذ اول يوم رحل فيــــه عنهم،أو قد يكون بعد اشهرقليلـــة او سنوات من رحيلــــــه.. ربما حين أخذت غربتـه تمـــدد اكثر واكثر؟؟ لم يكن يعرف، متى أستبد به الحنين اليهم ومنذ متـــى لازمـــه هذا الاحساس..؟؟ لقد ملئ الشيب فوده.. وجرفه تيار الحياة، إلى أماكن عديدة في هذا العالم الواسع، اصبح زوج، وأب لثلاثة اطفال.. تغيرت العواصم التي رحل إليها والمدن التي عاش فيها... إلا انه كان يرى مدينته في كل الاماكن.. ووجوه اعزاءه.. في وجـــوه الناس الذين التقاهــــــم في محطات حياتــــه.. دارت السنين عليـه،وهو ما زال يلتقي مدينتــــه، هي.. هي... لم تتغير!! يحلم في صحوه ونومه بانه سيلتقيها حتما يوما ما كما الحبيبة التي تنتظر حبيبها، في كامل بهائها وحسنها وما ان يعود اليها حتى تفتح له ذراعيها بعد طول شوق وحنين.. لاتزال الطبول تقرع في راسه...
ما ان يختلي مازن بنفسه حتى يتخيل ذلك اليوم بكل تفاصيله الدقيقة.. حين يلقى وجه امه الحزين، هل ماتزال كما تركتها؟؟ تتشح السواد؟؟ فمنذ ان وعى على الدنيا وهو يراها لا تلبس غيره، اجل لم يراها يوما تلبس لون اخــــر، او تضع الزينـــة على وجهها، او حتى تضحـــك من اعماقها.. هل مازالت تذهب إلى مجالس العزاء وان لم تكن تعرف لمن تقام.!! كان يسال نفسه دائما؟؟ هل مازالت المحلة والشارع والجيران كما تركهم قبل حفنــــة من الســـنوات..؟؟ المدنيـــة الجميلة بجسورها واسواقها وشوارعها ومقاهيها.. " هل ساجد كل شئ على حاله.. لا اكيد تغيرت بعض الشئ، ولكني حتما لن اتوه فيها فانا اعرف كل تفاصيلهـــا.. وكل ثناياها، وخباياها.. ما يفصلني عنها البعد الجغرافي فقط " كثيرا ما كان يحدث نفسه.. "
بصعوبة إلتفت إلى الجهة الاخرى لتقابــــله اللوحة من جديد... عاد إلى مخيلته ذلك اليوم العاصف من نيسان حيث المطر والرعد والاعصارعلى اشـــده في غربتـــه.. وحيث الشـــمس اللاهبــــة والغليان يجتاح بـلاده، وعاصمتها التي يعشقها... كان حينها يشرب قهوة الصباح في عملـــه وهو يتابـــع احداث مايجري على شاشـــة التلفاز شــاهد تمثال الطاغيــة وهو يهوي، وجموع الناس وهي تتجمع لتسحق الصنم الذي جثى عليهم بضعــــة عقود.. قفز من مكانــه.. أخــــذ يصفق بكلتا يديــه.. يبكــــــي ويضحك.. يجلس، يقف وعيناه لاتفارقان الشاشة التي امامه.... ناسيا المكان والزمان.. ردد كلمات كثيرة، لم يكن احد حوله ليفهم لغته، او يعلم بما يجري.. لكن فرحه الغامر جعل الجميع يقبلـــه، و يفرح معه!! إحقا.. زال الكابوس.!! وساعود إلى بلدي.. وتنتهي عذابات غربتي... ردد بصوت مسموع.. تردد صدى صوته في أرجاء تلك الغرفة الغريبة..
اغمض مازن عينيــــته محـــاولا النوم... إلا أن الذكريات ابدت ان تتركه وشـــأنه..!! فكم من الايام الطويلة التي عاشها على امـــل العودة إلى وطنــــه، والاستقرار هناك نهائيا..
عاد بافكاره إلى سبعة وعشرون عاما، حين ترك بغداد مرغما، بعد ان ســـاعد معظم اصدقاءه في الهــروب من المــــوت والتـعذيب الذي كان بأنتظارهـــــم.. تنهد!! كيف رحـــل بجواز سفر مزور وباسم اخر غير اسمــــه، كان الخطر يترصده في كافــة تحركاتــــه، ولم ينجُ إلا حين تلقفته احضان الغربـــة التي لم يخطرعلى باله بأنها ستمتد بـــه كل هذه الســنوات...
بين الصحو والنوم.. وبين الحاضر والماضي.. ومض كبرق.. وجه حبيبته الاولى.. وسمع من بعيد شهقات دموعها وانينها، وكلماتهـــــا وهي تعده بالانتظار حتى لو كلفها ذلك عمرها كلـــه!! لكنها سرعان مـــا نست وعدهــا، وتخلت عن كل ألتزاماتها امام اول فرصـــــــة ســــنحت لها.. أبتسم ســــــاخرا، من غبائه كم من السنوات اضاع وهو يعيــش على رحيق ذلك الحب والامل..
تواردت الافكار، والاحداث في راســــه، كصهيل خيل جامحـــة.. فعادت به إلى سنوات الطفولــــة حينما كان يلعب مع اقرانــه في ازقة محلته التي ولد فيها... وفجأة.!! شعر بيد ناعمـــة تلمس جبينه، ويد اخرى رســـخه، لتجس نبضه.. كانت تقف إلى جانب سريره أمراة غير واضحة الملامح، مشوشة الصورة، إلا انه رغم ذلك تبين ابتســـــامتها، تمتمت بكلمات لم يفهمها، وغابت كما الطيف.. أحــس بخدر في جانبــــه الايمن، فنقلب على ظــهره.. حدق ملياً في سقف الغرفة.. حتى أستبد به التعب فاطبق اجفانه،.. اضطر إلى هجر مرابع الطفولة بعد ان انتقلت عائلته إلى منطقة شبه نائية في اطراف بغداد ومنها إلى مناطق متعددة اخـــرى.. حرم عليــــه الاختــــلاط بالصبيــة.. الغــموض والتكتم لف حياة عائلتـــه..؟ لم يفهم لماذا؟ إلى ذلك اليوم الذي خرج فيـــه والده ولم يعد اليهم ابدا..!! حينها عرف بان والده كان سياسيا ومن اجــل مبادئـــــه ضحى بحياته...
تسائل مازن مع نفسه : اين انا الان؟ ما معنى هذا؟ وهذا الالم الذي يأبى ان يتركني وشأني؟ ولماذا انا مربوط باسلاك تحد من حركتي..؟ حاول جاهدا ان يرفع راسه عن الوسادة، لكنه كان اضعف من ان يقوم بأي حركة.. فاستسلم للذكريات التي عادت اليـــه كســيل جارف لتكتســح رواسب حزنـــه الطويل والعميق..
في خضم ذلك التيار الهادرمن الهواجس والافكار والذكريات.. جفل على صوت تردد صداه، وكانه اتٍ من بطن وادي عميق،.. ياجماعة اصبحنا على مشارف بغداد... ارتبك مازن، ساوره شعور بالخوف من اللقاء.. مــــن المجهول الذي ينتظره.. حـــــاول لملمــة شتات نفســه المبعثرة.. بين ما كان.. وما صار.. بدت انوار المدينة ومصابيحها المضيئــة تزداد ضياء.. امعن النظر من خلال النافذة، بتوجس، عسى ان يجد ضالته، او يرى ما يذكره ولكن عبثا..!! لقــــد تغير كل شئ، الشـــارع، المحلات لون الباب، حديقة الدار.. سمع بوضوح طرقات الباب، ورنين جرس البيت الذي فارقه منذ اعوام طويلة.. لاح له اصبعه وهو يضغط على قفل الجرس بالحاح... تذكرحينذاك كيف اراد أن يقفز السور.. شعر بأحضان امه الدافئـــة التي بللت وجهـــه بالدموع والقبل والعناق.. كـــم كان مشتاق لتلك العاطفـــة وكيف انتابتــــه جملـــة من الاحاسيس المختلفــــة.. اخذت دموعــه تسيل، مخترقــة خده وصفحه وجهه، ليستقر بعض منها على وسادته والاقسم الاخر في أذنه.. "اين انت يامي،؟ ياليتك كنت الان معي لغمرتيني بفيض حنانك ولمسحتي براحتك على جبيني المتعب.. " بحشرجة تمتم مع نفسه.. "
أعاد الكرة محاولا الحركة، لكنه لم يستطع التشنيج كان يسري في دمه من قدمه حتى راسه.. لازمه ظل الذكريات ناثرا اشرعته..
ها هو الفجر يلوح في الافق وهالته الارجوانيـــة تظهر مــن بعيد.. أطل من شباك غرفته.. كم مــــرة حلــــم بانه يقف امام نافذة غرفته.. يتأمل المكان،.. لقد تغيرت الاشياء.. الاشجار اشتد عودها.. الفسيلة التي تركها اصبحت نخلة مرفوعة الهامة.. تذكر!! كيف انه لم يطق صبرا فخرج إلى الشارع لوحده.. بعد ساعات فقط من وصوله.. سار على غير هدى أراد اكتشاف كل شئ بنفسه.. فبعد غياب طويل عن حبيبته بغداد كانت رغبته شديدة ان يلتقي بها اول مرة بعد فراق سنين لوحدهما.. يتنفس عبيرها، يحتمـــي بحضنهـا.. يلوذ يدفء شمسها الوهاجة.. يعانق نهرهـا الدافق... لكن ما شاهده على وجه حبيبتـها أفزعـــــــــــه.. فقد هرمت.. وتشوهت معالمها.. ومزق جسدها بوحشية.. ووجهها المشرق اصبح كالحا هرما.... حتى دجلة بدت له تبكي.. وقف يتأملها بكل شوق ولهفة... لا.. لا.. لم تكن هي هذه ذاتها من كان يقضي الصيف في احضانها أو على ضفافها.. ومن اجلها عوقب مئات المرات..!! لـــــم يترك مكانا في المدينــــة التي لم يعشـق سواهـــــا إلا والتقاه.. كان يسير كما لو انه ليس في وعيـــه.. لكن شعورا بالحزن واليأس جعل دموعه تنهمر حسرة ولوعة.. ازدادت دقات قلبه، واحس باختناق وجفاف في فمه حاول بلع ريقه اراد ان يتحرك لكنه أحس كما لو انه مسمر في سريره.. حاول ان يصرخ باعلى صوته، لكن صوته بقى مسجونا داخل حنجرته..

حمل قلبه، وقد انغرست سكاكين صدئة فيه، عائدا إلى منفاه.. لقد احرقت حبيبته.. بدت اثار الشيخوخة والقهر والحزن والحرمان واضحة عليها.. وبرغم كل الجراحات كان يأمل بانها حتما ستعود إلى شبابها وبهائها وعافيتها ولو بعد حين..
تقاذفتــــه امواج الغربة العاتيـــــة مرة اخرى.. ورغم إلاحباط الذي اصابه إلا انه تابع حياتـــه برتابتهــــــا المعهودة.. فكان يرى ويســمع ما يجري فـــي بلده.. حطام ودمار، ونار مستعرة،، لكن التفائل ظل داخلة كوشاح عروس ابيض.. وما لبثت عيونه ترنوا إلى وطنه ولهفة اللقاء به لازمه.. كان يمني النفس بالعيش في احضانه..
بعد ثلاثة اعوام حسم امره بالعودة.. لم يذعن لتحذيرات اخوته، وامــه الراقدة على فراش الموت، التي كانت تفضل الموت دون رؤيته على ان يعود إليها فـــــــي هذا الظرف العصيب.. لكنه لم يأبـــه بكل ذلك وقرر المغامرة حتى وان كلفتــــه حياتــــــه.. لم يكن يفهم ماهو ذلك الشئ الخفي الذي كان يشده، يجذبه إلى جذوره التي لم تستطع سنوات البعد ان تقتلعها.. اهو الشوق الذي لم يبارحه يوما..؟؟ اهو حب المكان الذي لم يجد مثل دفئئه في اي الاماكن؟؟ إهي لهفــة العودة إلى الزمان الذي كان؟ أم هـــــي جذوره التي تمتد عميقـــــــا هناك؟؟ ربما اراد وداع امه فقد تكون المرة الاخيرة التي يراها فيها لم يستطع تفسير الدافع الحقيقي للمغامرة..؟ تردد مازن،... لكنه اذعن في النهاية إلى صوت قلبه الذي كان يناديه..
كان مازال يتارجح بين اغفاءته المتقطعة.. والنوم العميق.. سمع دقات
خفيفة على باب الحجرة.. وصوت يناديه باسمه.. " من تكون هذه؟؟ وماذا تريد؟ " حدث نفسه، واشاح بوجهه عنها.. حينها تراءى له..

الموت.. الدمار.. الالم.. المصاعب.. الفاقة.. الفجيعة.. غدت من طبيعة الحياة في بغداد.. ازدات شحوبا.. وغدت حطام مدينة.. ليس فيها سوى الحواجز الامنية.. والاوساخ.. اكوام الحجارة.. الازبال.. ابنية باكملها محروقــة.. ومهدمــة ومهملــة.. حتى وجوه أهلها أصبحت كالـحــــة عيونهم خائفة.. قلوبهم مكسورة.. كل شئ يلفه الغموض والتوجس.. لقدانطفئ القها، وذوى بهائها.. للمرة الثانية التقـــــى بدجلـــــة ذلك النهرالذي لايضاهيه،اي نهر في العالم بجماله.. ولكن هيهات ان يجد ما احب.. الوحشة والحزن يلف ضفافه.. سار على اطلال ما كان و احساس غريب استولى عليـــه.. و خناجر القهر والالم تنغرس في قلبــــــه، بدون رحمــة.. انهمرت دموعه الساخنة كما المطر على الارض القاحلة علها تهدء من البركان الثائر في نفسه.. ادرك حينها ان من الصعب العودة والاستقرار بين اهله...
عاش ايام كئيبـــة حزينـــــة.. كان مرهقا بالفعل وعاجز عن االتفكير او التركيز إلا بما اصاب وطنه.. هجر كل شئ.. اهمل عمله، واسرته... كره كل ما حوله من حوله.. وانزوى في وحدته... لقد رافقت لحظات اليأس هذه وضوحا في الرؤية.. هاهي الحقيقة امام عينيك!!
صوت رقيق متسائل، جذبه، إلى الواقع.. "كيف تشعر؟ انت احسن اليس كذلك؟"كان الصوت مثل نغمة موسيقية شجية.. استوضح مبعثه.. جلست صاحبته على حافة السرير.. وابتسامة هادئة تطفح على وجه ملائكي القسمات.. "
بجهد تسائل مازن.. " أين انا؟ ولماذا انا هنا "؟
" مجرد للعلاج.. والراحة.. "!!

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف