والنتيجة؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الفصل التاسع من رواية قيد النشر
كيف تبدّلت تلك البناية، بكل ما فيها من تنظيم وأناقة ونظافة، بلندن، إلى هذا الشكل من البؤس والقباحة؟ أمرٌ عجيب. اقترب عماد من الجامعة لتزداد خطواته تثاقلاً وضيقاً. ماذا جرى، ومتى حصل ذلك؟ ما الذي تغير؟! يشعر أنّ شخصاً واحداً يعرفه فيها كزميل، استطاع أن يشوّهَها، يبدّل سحنة وجهها لتصبح عبوساً كريهةً كالحة ضيقة كسجن دون أقفال أواسوار. سار عماد اليها مفكراً في مدى التغيير الذي حصل بتركيبتها العلمية الاكاديمية، بمجرد اطلاعه يوما، على رسالة كتبها زميله رشيد الفحامي في نهاية سنة 1990. رسالة مكتوبة باليد، طالبا منه قراءتها منفرداً وبشكل سري، في وقت اضطربت فيه مقاييس العراقيين العاديين عموما، قبل سنوات خلتْ.
اجتهد رشيد، آنذاك، وأثناء ما كان يناوله الرسالة، أن يجعل القضية بينهما فقط، موضحا غايته بفكرة، لم تكن في الحسبان، لا يريد أن يلفت انظار واسماع فضول الأساتذة العرب والأجانب الواقفين قربهما إليها. همس في أذنه:
" بعثتها إلى السفارة العراقية، هنا، بالبريد " غامزاً بإشارة تومئ إلى الجهة المعنية مكملاً السيرة:
" طلبت منهم أن يبعثوها إلى ( أبو عدي ) "
ها ، ها ،ها ، ضحك ساخراً من كنية حاكم العراق السابق، نسبة إلى ولده. ثم ابتعد عنه ليذهب إلى قاعة التدريس ليلقيَ محاضرة أمام طلابه في تلك البناية.
الرسالة بثلاث صفحات مطواة. لا زال صدى قرف ما جاء فيها من غش ونفاق، يتردد صاخبا في انحاء البناية. بعض فقراتها والفاظها، تأتي تباعا كما تسعفه ذاكرته:
( سيادة الرئيس رجل الرجال القائد صدام حسين - حفظه الله -
تحية عربية خالصة
يبدو أن إرادة الله وقدرته الالهية قد اختارتكم لتكونوا المنقذ لامة نبي الله وخاتم الانبياء الرسول الكريم محمد (ص ) ... ولسنا بصدد التذكير بانجازاتكم التي لم يعد بالامكان نسيانها لأنها أصبحت جزءا من شخصية العراق والامة العربية ، وكما استطعت في الماضي البعيد والقريب قيادة المركب العراقي وسط المخاطر، والابحار به نحو شاطئ الامان، فانكم بقيادتكم الحكيمة، الآن، ستقودون ليس العراق فحسب بل كل الامة العربية نحو حاضر مزهر ومستقبل وضاء.
ايها القائد الضرورة: لم يعد خافيا على أحد أن الخطوة الجبارة التي أقدم عليها العراق بقيادتكم الحكيمة والمتمثلة بضم الفرع المارق إلى الجسد الكبير المعافى ، وما سببته هده الحركة للعالم بصورة عامة والغرب والصهيونية بشكل خاص، من ضربة لم يألفوها من قبل. استلهمنا منكم ، أيها القائد الفذ، اقتراحا، الذي هو بالتأكيد لم يغب عن ذهنكم الوقاد وانما تنتظرون المكان والزمان الصحيحين لتحقيقه.
المقترح يفترض أن يقدم سيادتكم " مبادلة" تعكس اهتمام العراق بقضايا الامة العربية وسيادتها وهي: " سننسحب من الكويت مقابل انسحاب اسرائيل من الضفة الغربية".
هذه المبادلة هي مبادلة " نظرية" فقط أكثر منها " عملية" وبهذا سنضرب عصفورين بحجر واحد. الأول هو أننا سنظهر حرصنا في مسألة الصراع العربي/ الاسرائيلي وربما سيكون لها تأثير معادل لتأثير امتلاك العراق للصواريخ البعيدة المدى أو اسلحة الدمار الشامل وامكانية استخدامها من أجل تخويف الاخرين ليس في فلسطين المحتلة فحسب بل في العالم كله.
كما أن هذا الاقتراح سيكون عاملا مؤثرا لجلب الفلسطينين إلى جانب العراق. لتجعلهم يقفون وقفة رجل واحد بوجه التدخل الغربي، ويدحض الاقاويل التي تصدر من الاعلام الغربي القائلة: " إن العراق باحتلاله للكويت قد أضر الانتفاضة الفلسطينية " على اعتبار أن انتعاش الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية يعتمد بصورة رئيسية على الاموال المحولة من قبل الفلسطينين المقيمين في الكويت والذي يبلغ تعدادهم قرابة 250 الف نسمة.
إذا كان هناك من كلمة أخيرة لي، فلن تكون، هنا، سوى أننا سنظل أوفياء للعهد كما كنا جنودا في جيش قادسية صدام خلال حربنا العادلة، آنذاك، حين قدم العراق أكثر من نصف مليون شخص من أجل اعلاء كلمة الحق وزهق الباطل، فأننا سنكون جنودا " احتياط" في جيشكم الذي زرع الأمل ليس في قلوب العراقيين فحسب بل في نفوس العرب جميعا.....).
هكذا استرجع عماد مقاطع الرسالة أثناء سيره ومغزى مضمونها، مقتربا من باب البناية الخارجي، ليدخل فيها متحملا بالصبر الجميل.
البناية بريئة دافئة بشكل صحي، يصل اليها الاساتذة والتلاميذ من الشارع مسرعين، متلهفين ليكونوا بين أحضان جدرانها. تعامل كملجأ محبوب في أحيان كثيرة، خصوصا أثناء تردي مناخ لندن المتقلب. دخلها عماد اليوم مهموما، متكدرا، مندهشا من قدرة البشر على جعل الحياة جحيما. في الواقع، ليس هذا رأيه حسب، وانما رأي قرأه في كتاب، نسي اسم مؤلفه، فيه عبارة: (الآخرون هم الجحيم ) ، نعم ، أنا معك أيها الاديب الصادق، أجل ، أنا معك . أتفق معك. إنها جملة معناها صالح لي أيضا .
دخل المبنى عابرا المكان مفكرا . طلبة يتحدثون فيما بينهم في قاعة المدخل. قال لهم: "صباح الخير" دون بهجة تذكر. ذهنه شبه شارد، بعيد عنهم، متحير في عالم آخر وقضية أخرى. السخرية اللافتة للنظر أن لغة رشيد، في رسالته تلك، كما يتذكر، كانت صحيحة دون أخطاء نحوية اواملائية اطلاقا. إنها مُحْكمة. رشيد، بالتأكيد، أو د. رشيد كما يُحب أن يُنادى عليه، متمكن من قواعد اللغة العربية. في الواقع، لديه شهادة دكتوراه، وهو استاذ فيها. يصوغ أفكاره بعبارات منمقة ، ملبلبة ، وهنا تكمن الخطورة .
يا عماد، كفى إلحاحا على تذكّر هذا الموضوع. انسْه. أبدأ علاقة جديدة معه إذا ما صادفته أمامك . رجاء استعمل النفاق قليلا. لقد تغيرت الامور، كما تعرف. سقط النظام السابق في العراق، الذي كان يجبر الآخرين على الانضمام اليه. اضطرالبعض لذلك حتى وأن لم تكن نفوسهم ضعيفة. راجع قسم مواقفه مؤخرا. كفى تكرارا وإعادة سيرة، كفى. أقلب الصفحة من فضلك. أبدأوا عراقا جديدا وحياة مختلفة يحب بعضكم بعضا دون تذكر الماضي، كفى. ظل عماد يؤنب نفسه، ينصحها، يقرعها. أنظر كيف صار مزاجك عكرا، هذه الايام ، اصبحت لا تطيق النقاش الاعتيادي حتى مع جاركم البوذي الطيب المسالم، مثلا، حين زاركم قبل يومين، بمجرد أن أبدى رأيا في مفهوم الفرح والسعادة. أهدأْ وأرحْ اعصابك المتوترة.
بربّك، ألا تود حضور رشيد للغرفة، الآن. يكون معك كزميلين حميمين، بدل جلوسك وحيدا منفردا، على كرسي في غرفة اجتماع الأساتذة لشرب الشاي . ألا تريد أن تدردش معه، يبعد عنك الوحدة والوحشة. توقعْ، إذن، أن يدخل عليك في اية لحظة، هيا، هيئ نفسك للسلام عليه والترحيب به بلطف ومودة قدرالامكان.
هما الاستاذان العراقيان الوحيدان في هذه البناية. يوجد اساتدة عرب من أقطار شتى. تضم الجامعة أيضاً أساتذة بريطانيين وأجانب. المهم، ظل عماد مقلباً اوراقه وافكاره بما سيحاضر به ذلك النهار. يمر عليه شعورٌخاطف لعين، بين حين وآخر، يدور حول كيفية التأكد من اراء رشيد الأخيرة، عجباً هل تغيرت عن السابق، أيضا؟ لقد سافر إلى العراق، كما يعرف، مسرعا بمجرد سقوط النظام . ثم عاد إلى لندن بعد ذلك متلهفا، كي يؤسس منظمة لحقوق الانسان، مرتبطة بالمنظمات العالمية الغربية، مشددا على أهمية وضرورة ذلك. رآه في المرة الاولى بعد رجوعه فكان حديثهما عابراً، مقتضباً سريعا، كون الأخير مشغولاً بمواعيد ودعوات من منظمات محلية وعالمية للسفر إلى الخارج لحضور ندوات واجتماعات متعلقة بالاحتجاجات على الحرب التي قامت على العراق. كما أنه يريد تدبير الأمور من أجل تنظيمه الأخير، حسب قوله، من ناحية المنح المادية من المؤسسات الدولية وما يتبع ذلك. لم يعد عماد يراه كالسابق متسكعا بين الطلاب، أو مثرثرا هنا أو هناك. حينما شاهده في المرة الثانية، وجها لوجه في أحد الممرات اسرع إلى تقبيله معتذرا عن انشغاله بشؤون جمة، بعد أن تشعبت اهتماماته، ذاكراً مرة أخرى، الأسفار والقاء المحاضرات والندوات عن الوضع السياسي بالعراق الذي صار من اختصاصه.
في غرفة الشاي للمدرسين، اليوم، عدد قليل من الاساتذة المنشغلين بامور دنياهم وليست آخرتهم بعد الموت. يدخلون ويخرجون، حسب أوقاتهم وجدول محاضراتهم القادمة. بعد قليل سيخرج عماد أيضا مع آقتراب موعد إعطاء حصة درسه، دون أن يرى د. رشيد، كما توقع. خرج ، يعترف خجلاً، أن لا أسف، في قرارة نفسه، على افتقاده. في منتصف النهار التقاه صدفة وجها لوجه، أيضا، في الممر كالسابق. كان مستعجلا كعادته في هذه الايام ، مشتكيا من ضيق الوقت ومواعيده اللاحصر لها. وقفا يتحدثان بتشوش وعجالة. اسرع عماد إلى سؤاله عن رأيه فيما رآه مؤخراً بالعراق الحالي، ما هي انطباعاته بعد تغيير نظام الحكم القديم فيه. ردّ . رشيد بنفرة غريبة مستاء منه، منزعجا من مجرد السؤال. الاجابة عنده صارت بسيطة، أساسا، غير ضرورية ومختصرة جدا:
- أريد صدام يسرق من العراقيين بدلا من الاميركان.
- ما الفرق؟! ربما ، على الأقل، الاميركان يجلبون معهم القليل من التكنولوجيا، ماذا سيعطي الأول للعراقيين.
لم يناقشه أكثر. عرف موقفه. والأهم من ذلك أخبره د. رشيد أنه على موعد ضروري، ناظرا في ساعته. افترقا باتجاهين مختلفين، مع قنوط مؤلم، وحزن صامت متعب من جانب واحد.
مرت اسابيع وشهور قبل أن يعرف عماد، الأسباب الحقيقية لسفرة رشيد المباغتة للعراق بعد سقوط النظام. اتضح، من تعليقات الآخرين واقاويلهم وأحاديثهم، أنه كان ناويا عند سفره، كما أخبرهم، أن يصبح سفيراً أو وزيراً في النظام الحالي، خصوصا ، بعد أن يكتشف الآخرون علمه وعمق تفكيره، سيما في اللغة العربية والانكليزية بسبب وجوده الطويل ببريطانيا ، مقدرين مواهبه الجمة الاخرى. لكن هذا لم يحصل. تبين أنه لم يجد تكريماً خاصاً، أو حفاوة من أي نوع كان. لم يجدْ من المسؤولين اهتماما به ولو بشروى نقير، فتندم.
عاد مسرعا إلى لندن شاكرا ربه لأنه لم يقدّم استقالته من وظيفته في الجامعة. ابتدأ بالتذمر حال أن وطأت قدمه مطا ر هيثرو - لندن الدولي، شاكيا من سوء الوضع الحالي بالعراق، وتكالب الناس على المناصب والامتيازات، الفساد في الحياة العامة والسرقات من أموال الدولة. فكّر في طريقة لعلاج المشكلة وأن ينقذ البلد من الفوضى واللاقانون بأن يؤسس منظمة تدافع عن حقوق الانسان العراقي في رأيه.
تلقفه الاعلام الغربي رأسا، بشوق وحنين، من دون تردد أوتساؤلات، على اساس انه خبير بالامرالواقع وقد وصل توا من المنطقة الساخنة. يظهردائما، كما يلاحظ معارفه واصدقاؤه، على الشاشات أو في الاذاعات كـ الـ BBC وغيرها . يُشاهد وهو ينظّر ويقيّم مستجدات الساعة، يصدر احكاما بالجملة، دون تردد، له رأي يقيني متأكد منه، كدين من الاديان المعروفة، لا يتحمل وجهة نظر مغايرة. جاءته الثقة على اساس أنه أصبح بعد قضاء شهرين بالعراق، قادرا على فهم منطقة الشرق الاوسط برمتها، تعقيدات ووضع العراق بالذات . يقدمه المذيع بحفاوة متلمظما بشهية ليكسب اصغاء المستمعين والمشاهدين في الاذاعة والتلفزيون. صارت الصحف اليسارية البريطانية، أيضا، المناهضة للحرب على العراق، ترحب به بدورها. وجدته نافعا كي يساعدها في تشويه سمعة من تعاديهم وتكرههم من السياسيين البريطانيين من أجل الاستعداد لانتخابات احزاب أوطانهم في الدورة البرلمانية القادمة.
فجأة، صار د. رشيد مشهورا معروفا في الاوساط الاعلامية كافة. مقابلاته، مقالاته، تنضح بالكره للأمريكان ، مشحونة بالتهييج والشماتة. وراء الأكمة ما وراءها، على رأي المثل. لكنها، في نفس الوقت، ظهرت للبسيط الغافل، مثالا للتعقل والموضوعية، كاتبها شخص مرموق يوثق فيه.