قص

درب الصدّ ما ردّ

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الفصل العاشر من رواية قيد التأليف

ظهرتْ جامدةً، بداية، ثم التصقتْ به، كحيوانين اليفين راضيين. ما انفكا، بعدها، عن بعضهما إلا ليلتحما أكثرفأكثر وكأنهما خائفان من العالم الخارجي كله. بقيت نشوتهما مشتعلة قبل أن تبرد تدريجيا، بعد حدّتها الساخنة، مخلفةً وراءها حناناً عذباً بقبلات دافئة يُغدقها الواحد على الآخر في مساحة السرير. الغرفة الصامتة بانتظار الأوامر: هل ُيضاء النور الآن مثلاً؟ آن الآوان، لقد خيم الظلام وبدأ الليل يدلهم من الشباك كدليل واضح أكيد عليه. متى يضغط احدهما على زرّ مصباح قربه؟ لم يحصل ذلك. بقيا في الدكنة غير عابئين، وكأن ضياء ينبعث من جسديْهما بمجرد التماسّ بتيار يختلف عن النوع الكهربائي. ممدّان معا مرتاحان، غير مستعدين للحركة السريعة اللاّ ضروية من أجل نشر نور فضولي كاشف يأتي من مصدر خارجي، لولا تذكّرها المفاجيء شيئا مهما. انتبهت بغتة، في وعيها الباطني، للعالم الخارجي رويدا رويدا، لتنبهر صائتة:
- كم الساعة الآن؟
نظرت سريعا، إلى ساعة يدها بصعوبة ما بين النور والظلام:
- أوه، يجب أن ألبس ثيابي، تذكرتُ، حان موعد جلب الاطفال من حفلة عيد ميلاد ديفيد.
قامت لمياء من مكانها عجلة، تجمع ملابسها التي سبق أن خلعتها وأُلقت بها دون اهتمام، على كنبة مجاورة. بدأت بارتدائها، مبديةً بعض الحركات الجانبية للوجه والشعر في المرآة. نظرات قليلة لا تجدي نفعاً، خصوصاً أن الدكنة احتلت الغرفة وصيرت معظم الاشياء سوداء. هل تنير مصباحاً قربها؟ أجّلت الفكرة، لا تريد أن تنير الغرفة الآن، كي لا يفاجئ الاشعاع الضوئي الكهربائي عيون عماد المغمضة. لتتركه في الضياء الخافت.
ظل الأخيرخدرا، يحاذر أن لا يتحرك كي لا يفقد متعة ألمّتْ به، قبل لحظات، في نفس الوقت، كان حريصاً على سكونه التام، متوقعا أن ينام في أوّل فرصة سانحة قادمة.
تمّ كل شئ كما توقع. اصطفق الباب الخارجي ومعه بدأ هدير سيارة لمياء مغادرة ممر المدخل الموصل للشارع. اطمئن على أن كل شئ كما يجب. أدار رأسه إلى جهة الحائط ليروح في سبات رائع يحسده عليه جميع المتعبين بالعالم.
نزلتْ من السيارة فوجدت الصّبْية مكتظين بمدخل باب بيت ديفيد. من كل نوع ولون. في حالة فوضى مضوضئة. واقفين متكأكئين أمام منزله، منتظرين مجئ أهلهم ليعودوا بهم إلى بيوتهم من حيث جاءوا، من دون حاجة لنداء استغاثة. أطلت برأسها داخل الدار مفتشة عن ابنتها تارا وأخيها مثنى فرأت بصورة خاطفة، بقايا أطفال لا زالوا في الداخل يحومون حول منضدة مهجورة الشموع لعيد ميلاد انقضى قبل لحظات. قسم منهم يعبئ جيوبه بالبسكويت والجكليت المتبقي فيها بعد إنفضاض الحفلة، مفتشين في محتوياتها عن شئ يستحق الذكر. كعكعة عيد ميلاد ديفيد المزينة، المشهود لها دائما بالتضحية في مثل هذه المناسبات، مهشمة في وسطها، لم يبق من مجدها التليد إلا أوصال مقطعة جانبية تنهار في اية لحظة اقتراب. البالونات الملونة لا زالت تتأرجح معلقة في السقف. وقفت في الباب منتظرة ولديْها، مبتسمة لكل أم وأب ماسكا طفله بيده خارجا به من البيت ناجيا بوداع فرح للجميع. عدد الاطفال المدعوين يفوق الثلاثين، على ما تعتقد. أعمارهم ما بين السادسة والتاسعة، من مختلف الاجناس والألوان والأديان المتواجدين بلندن، كمدينة كوسموبولتية متعددة الاقوام والثقافات، تفتخر كون سكانها من جميع أنحاء العالم ومُواطنها عالمي.
خرجت تارا ذات التسع سنوات أخيرا، ماسكة يد أخيها مثنى الشارد ذي السبع سنوات، والمغرم بالحلوى، كما اشتكت الابنة لأمّها، بحيث لا يستطيع الخروج دون أخذ حصة أخيرة منها من المنضدة ماسكا أياها بحزم، في قبضته الاخرى. اجتمعوا في السيارة، بعد أن أخذتهم لمياء اليها. ابتدأت التعليقات على نجاح الحفلة ومن فعل كذا أو ما رأوا فيها، لدرجة أن تشوق مثنى للضجيج والإثارة مرة ثانية ليتساءل جادا، وهو في المقعد الأخير بالسيارة:
- ماما هل نحن متهيئون للعبة كرة القدم النهائية بعد اسبوع ؟

صار محباً لرؤية هذه المباريات، منذ فترة، بعد أن سمع عنها و تعلم مراقبتها مع والده على شاشة التلفزيون. أجابت لمياء تجاريه حماسته وبراءته:
- طبعا، هيأنا لنا شامية ( ذرة محمصة).
قبل راضيا مكتفيا بتطمينها الشافي بجواب:
- إذن، هذا شيء جيد.
ضحكت الأم في عبّها. يا ليت رضى بني آدم سهل بهذه البساطة. تنظر إلى ابنها بمرآة السائق بصعوبة وهوجالس مع اخته في الخلف يمصمص شيئا. إنهما، على ما تعتقد، في حالة تعب شديد، اطمأنت عليهما الآن إذ سرعان ما سيخلدان للراحة في سريريْهما عند وصول البيت قريبا.
رائحة شئ يحترق. تشمشموا بانوفهم بمجرد اقترابهم من باب دارهم. شيئاً يحترق مطبوخا. قدْر على النار أو شئ من هذا القبيل. فتحت لمياء الباب فهجمواعلى الصالة. لا، إنه في المطبخ. كان الوالد النشيط يلبس صدرية الطباخ متضاحكا كي لا يعبأوا. كل شئ على ما يرام، تحت السيطرة التامة. شرح، إنه اشتهى مرق باذنجان للعشاء ولكن، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. لقد التصق الباذنجان بالقدر واحترق أثناء الطبخ، لاحاجة للمناحة عليه،الهستيريا والسبايات، الآن. عثرتُ على كيس معكرونه في الدولاب، ها قد انتهيتُ من إعداده لكم، مع صلصة. تأوه الصغار ضجرين من عدم رغبة في الأكل كونهم شبعى. فجاءت الفرصة سانحة كي تزف الأم الاثنين معا لفراشهما وتنتهي. هيا. قبل كل شئ نظفوا اسنانكم.
ماذا بجعبتكَ من الأكلات الآن؟ دخلت لمياء المطبخ ساخرة بعد أن خلد طفلاها للنوم. وجدت المطبخ قائما حيّ على الصلاح يصيح بها للتنظيف، على الأقل، لمدة ثلاث ساعات. والقدر، يا حسرتي، القدر الجديد، ماذا فعلتَ به. صار اسود فحما. ما هكذا تورد الإبل يا عماد، لماذا أخرجت كل القدور ولطخت الطباخ بالدسم ومعجون الطمامة، ما قضية هذه الاواني الفارغة القذرة ؟ قشور البصل بكل مكان وقشور الباذنجان الهالك. خبرني ماذا كنت تفعل بكل هذه الفوضى؟ طبخة باذنجان قضية بسيطة مقارنة بطبخة الكبة أو الدولمة أو إذا أردت وصفة أمي بـ ( الشيخ محشي ). بدأ الأخير متصامما، يضع الطعام على المنضدة مستعدا للأكل، مضحيا بكرامته إكراماُ لمعدته الفارغة، مكتفياً بقراره الهام: "إرمي القدر بالزبالة، وتعالي ُكلي معي". لا مفرّ. جلسا يأكلان من دون تعليق، قطعته لمياء بالضحك عليه فجأة، عادتها عند الازمات كما يعرفها. ابتسم غصبا عنه ثم انفجر بالضحك معها، صار طبخه، لحسن حظه، ختامه مسكٌ.
- في الحقيقة - أوه كم أبغض هذا التعبير- أحببتُ أن أعمل شيئا عمليا اليوم لأشغل فكري. لقد تعبت من الفضائيات وهمّها. اشتغل في البيت. أطبخ، أكنس، أغسل الاواني مثلا، أضع الملابس في ماكنة الغسيل، شئ عملي يبعدني عن تفكير ما يجري بالعراق من مآسي.
بدأ يفسر سلوكه لها بعد انتهاء وجبة العشاء، هادئا:

- لن تنجح، وإلا لكنتُ أنا أول الناجين من التفكير، كوني ربة بيت.. أتعرف أن منظر أطفال اليوم أثار شجوني. لماذا لا يفرح اطفال العراق وغيرهم في الاماكن المنكوبة بأفراح عيد ميلاد كهذه. لقد سعدت برؤيتهم في بيت ديفيد مسرورين لكنهم ذكروني باطفالنا بالعراق، فشابتني غصة.
- فقط الاطفال ؟ ماذا عن شبابنا، نسائنا، رجالنا. مَن يلام على ما يحصل هناك؟ هل نلوم الآخرين كالعادة ؟!
تساءل وهو يعرف جوابها:
- لا، لا نلوم إلا أنفسنا قبل لوم الآخرين. لقد عانيت من بعض العراقيين بلندن وحتى من بعض أصدقائي، للاسف الشديد. كلما سمعت اشاعاتهم واتهاماتهم لبعضهم بعضا أشعر أن لا أمل يرجى إذا ما استمروا على ديدنهم. طبعا كلهم يضع اللوم على غيرنا. هل تتذكرنجوى، حذام، سهام... واخريات، كلهن بشهادات جامعية واختصاصات شتى، لكنهن يتغيرن بحرب الاشاعات كما تتغير سماء لندن الغادرة. كل يوم لهن فكرة متأثرة بمقال في صحيفة أو على موقع بالانترنيت او أي ناعق، دون تمحيص أو تحفظ أو مراجعة بالعقل. بدأن على سبيل المثال منذ بداية سقوط النظام يتناقلن معزوفة كون الجنود الاميركان يختلسن النظر متلصصين بالناظور على نساء الفلوجة. تصور، وكأن هؤلاء الجنود محرومون من النساء كرجالنا ونحن نعرف الحياة باوربا واميركا. بعدها بقليل بدأن يتناقلن أن بيوت بغداد اشتراها اليهود، لم تبقَ لنا بيوت بسبب الغلاء. ما رأيك بذلك؟ طيب إذا جاء يهودي عراقي اليوم وأراد استرجاع بيته، الذي سرق منه بصريح العبارة، بعد أن أجبروه على اسقاط جنسيته العراقية وضايقوه ونكدوا عيشه. ما الغلط في ذلك؟! لنفكر في غيرنا يوما ولو قليلا، ولو... ألم يكن هؤلاء من سكان العراق لأكثر من الفيْ سنة، ما الضرر من عودتهم إليه كمواطنين مثلنا الآن. لكن اكثر الاشاعات مهزلة وتضليلا عندما احتلت بغداد يوم 9. 4. 2003 وفرّ صدام من الميدان دون نزال ودون أن يعثر عليه مدة من الزمن. ترى واحدة منهن لا تتمالك نفسها كلما رأتني قائلة بتحدٍ وكأنني مسؤولة عما جرى:
" الاميركان أخذوه مع عائلته بالطائرة إلى أميركا. هذا آبنهم وهم حماته" تصورْ.
اصغىعماد لشكوى زوجته من بعض معارفها وودّ لو يتركها على سجيتها لتشتكي. إنه على علم بمدى وحدتهاة في البيت. لقد جرّب الأمر مع رشيد الفحامي وعرف كم كان حزنه كئيبا دون مشاركة أحد. بعد توقف قصير لشرب شايها الاسود مع السكر على الطريقة العراقية عدا أنها تمسك كوبا كبيرا بدل الاستكانة الرقيقة المعروفة. استمرت:
- بعد أن قتْل ولديه في مواجهة مع القوات الاميركية، دارت اشاعة بأنّهما لم يقتلا, وهما حيّان يرزقان. دليلهم على ذلك أن طبيباً عراقيّا بلندن قاس ساق إحدهما من اللقطة المعروضة بالتلفزيون فوجدها لا تشبه الاخرى.
كانت لا تريد التوقف لولا مقاطعة عماد:
- وإذا أخبرتك اليوم أن د. رشيد الفحامي يفضل أن يسرق صدام من الشعب العراقي ولا أن تسرق أميركا.
- لا فضّ فوه. لماذا يسرق الطرفان من الشعب العراقي الخائب؟ كل الشعوب تعلمت كيف تأخذ وتعطي. لمَ يكون نصيبنا، دائما، العبيد أو الطغاة.
ابتسم مشجعا أو مستهئزا منها لا تدري:
- سآخذك معي في المرة القادمة لمحاضراته في قاعة المؤتمرات متحدثا عن حرب العراق، لكي تستأنسي.
- أرجوك، لا تكن هازلا، حتى الصين والهند ناهيك عن روسيا صارت تعرف مصلحتها وتتقرب وتتعامل مع هذه الدولة أوتلك طبقا لفائدة شعوبها. ذكرت الاخبار مؤخرا، أن الهند سيصبح اقتصادها أقوى من اقتصاد بريطانيا. تفضل ذلك. كانت سابقا تحت التاج البريطاني مستعمرة مدة تقرب من اربعمائة سنة، لكنها تعاونت مع من استعمرها بعدئذ، من دون تهويل أوتخويف أو شعارات براقة. دخلت الكومنولث البريطاني كعضوة فيه ناشطة. فهمت ظروف تغيير الحياة السياسة بحكمة غاندي المسالم، وبفلسفة شرقية عميقة.
- أنا معجب بك، لماذا تقولين عني أني هازل. كلامك يبرد قلبي اليوم. يساعدني كي اواجه ترهات أراها ترتكب في الاعلام وبين الناس.
ابتسمت من الرضى لحسن استقبال كلامها فتشجعت أكثر مطمئنة:
- بعدُ لم أكمل! أحيانا أقول بيني وبين نفسي، إذا ما استمرت الاوضاع على ما هي عليه اليوم فليس هناك أمل بعودتنا للعراق أو عودة لأولادنا. صرنا كما يقول المثل أصحاب: "درب الصدّ ما ردّ."
ضحك بصوت عال من كثرة الاحتجاج، وعظم التشاؤم:

- نكتفي بالقول ( حسبي الله ونعم الوكيل) كما ذكرت والدتك في رسالتها لنا.
- أحسنتَ. هذا هو الحل الموجود الآن. على أية حال، ماذا سيفهم أولادنا عندما يعودون. صارت لغتهم إنكليزية مائة بالمائة، على الرغم من كلامي معهم وإلحاحي عليهم بالرد بالعربي.
- مثنى لديه فرحة قبل يومين أخبرني أن جاءت لصفهم فتاة أسمها لمى عراقية، نصفها عربي والآخر كردي، كما ذكر. يقول قدمت لها تفاحة وسألتها باللغتين: Do you want تفاحة؟

فردت عليه بالعربية: لا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف