هزّة ارضية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الفصل الرابع عشر من رواية معدة للنشر
اعتزمت الأختان أمراً لم تقمْ بمثله الاوائل. شَرَعتا تفتشان في دفاترهما القديمة ، كما يحلو أن يقال لهما في مثل هذه الاحوال، علّهما تجدان أكبر كمية من الرسائل المرسلة اليهما منذ أن وضعتا الرحال في بريطانيا أكثر من ربع قرن. رسائل الأهل والأصدقاء دُ سّت هنا أو هناك، في الأدراج، على الرفوف، تحت الأسرّة، في حقائب السفر الهرمة العديمة النفع ، المركونة بعيدا، مكدسة فيها حاجيات البيت الزائدة عن الحاجة متخلصين منها. رسائل تبعث على الاطمئنان، الابتسام، الاسى، أو القلق. ذكريات حلوة ومرة. رسائل أكل الدهر عليها وشرب. قسم منها، ممزقة اطرافها، مصفرة وريقاتها، لكنها لا زالت تنبض، تناقش، تدعو إلى التفكير، التفلسف. كل رسالة تتبع مستوى عقل صاحبها الفكري، منها ما تحاور المرسل إليه، فيها روح ناطقة مصرة على البقاء، لقراءتها أحيانا. تعرف أنها، مهما طال الزمن، لن ترمى في صندوق القمامة كأخبار جرائد، قديم تأريخ صدورها . كانت الاختان تمران، بين حين وآخر على هذه الرسائل، أثناء التنظيف أو التنظيم في البيت. تتوقفان قربها رويدا، تصغيان لها بهدوء، تتملكهما الرغبة في رفع مظروفها والنظر إلى طوابع البريد المنوعة اللغات عليه، من أية دولة جاءت. تمسك ورقتها المكتوبة. تغريهما، مرة أخرى، في قراءتها معلقتين عليها، بصورة ما، متأسفتين، مبتسمتين ، غاضبتين أحيانا، مقارنتين ما كان يحصل بالماضي الذي تعرفانه، وما يجري حاليا بالعراق من تزايد جهل مؤذٍ والتباس غيبيات وضياع، وكأن أكثر من ربع قرن فات، مضى قدما في التخريب والتشويه. قلب اسافلها أعاليها لمعظم السكان هناك، بطريقة عجائبية غير متوقعة، زادها الاحتلال الاخير ولا مثل هزة أرضية عنيفة.
الأختان مهتمتان، اليوم، بالرسائل تلك اهتماماً استثنائياً. تفتشان عنها بحرص، تنقبان، بعد أن اقترب موعد سفرهما إلى كردستان العراق، وصار لقاء والدتهما وشيكا. لاتخفي الواحدة عن الأخرى إظهاررغبتها في نقل هذه الرسائل المهمة لها، ومعظمها جاءت من أفراد عائلتها المشردة في اصقاع الدنيا الاربعة. تعنيها هذه الرسائل بالتأكيد، تلك التي حرمت من رؤية احفادها ، لا تدري ما جرى للأفراد الآخرين من أهلها، ممن فروا خفافا. كثيرا ما عاشت بالهمس، حينها، في بغداد خائفة حتى من ذكر اسمائهم بصوت عال أمام الآخرين كي لا تصل المعلومات عنهم إلى الحكومة الحاقدة على كل مَنْ يخالف أمرها. أقارب لها تفرقوا في أنحاء المعمورة شذر مذر. كلٌّ يقول يا روحي، كيوم القيامة في الدين الاسلامي . لا تسمع عنهم شيئا بسبب الرقابة على البريد وانقطاع الهواتف وخلو البيوت منهم دون سابق انذار. هرب معظمهم من العراق بسبب ما جرى في سنوات الحرب والرعب الدائمين في نهاية القرن العشرين. خائفين كي لا يلفتوا الأنظاراليهم وما سوف يفعلونه للنجاة بانفسهم الآن، تاركين بيوتهم و سياراتهم في المرآب للتمويه على الآخرين. يعرفون العقاب الصارم المتوقع على تلك الارض المتألمة ذات المعاناة الكبيرة في سنوات انتشار الجواسيس وعملاء المخابرات السرية في عهد الحكم الصدامي منذ الستينات الماضية. أين صاروا الآن؟ ابنة خالة، عمة ، ابن اخت ، وصديق أوابن عم ... والحبل على الجرار . عائلتها الكبيرة صارت متفككة، متبعثرة، تلك التي كانت متمترسة حصينة تعيش ببغداد قرب حدائقها الوارفة الغناء وفي البصرة بشناشيلها الظليلة القهوائية. صار البعض منهم نتفا في استراليا والآخر في كندا ، تلك في المانيا، السويد، الدانمارك، النرويج أو في هونك كونك وحتى في جزرالواق واق قبل أن يغيّروا اسمها إلى اسم آخر، بعد أن ذكرها في أول خارطة للبلدان بالعالم رسمها الجغرافي الادريسي . وصل الأمر ببعض العراقيين أن سكنوا نيوزيلندا ولنترك استراليا جانبا. دول لم تكن تخطر ببالهم، ناهيك عن أن يسكن فيها أحد منهم ، أو يصبح اسمها عملة متداولة بين ابناء العراق الهاربين من كثرة الخوف والقسوة والضيق ، باحثين عن ملجأ في أي مكان ، فيه رحمة ما، ولو كان نائيا لم يسمعوا به قبلا.
أثناء مهمة التفتيش تلك عن الرسائل القديمة ، انبعث صوت لمياء، كعادتها، يشدو مغنيا اغنية شعبية، شأنها في اشتداد الملمات النفسية بها حين تلجأ للتنفيس بالغناء. صد حت متذكرة اغنية المطرب ناظم الغزالي المغناة في الاربعينات من القرن العشرين على ما تعتقد :
فوق النخل فوق فوق بابا، فوق النخل فوق
ما أدري لمع خده بابا، ما أدري القمر فوق
والله بالينــــي باليني بلــــــــــــــــــوة...
استمرأتْ الاغنية أختها فحثتها على الاستزادة لكنها صمتتْ، متعلقة على درج تفتش في رفٍّّ عالٍِ، كونها عثرت، توا، على رسالة دسمة من كثرة الغبار لكنها لذيذة وغنية بالمعاني الكبار، تريد أن تشاركها أختها في مطالعة مضمونها.
ـــ أرجوك نهى أقرئي هذه الرسالة، أرسلها المسكين نزار، أخ عماد الصغير، متلوعا من سلوك أفراد في بيتهم ومجتمعه. أول رسالة، وصلتنا من العراق، بالاحرى، منذ زمن بعيد. كلها مرح وهزل ، عتاب وتمرد واستياء في نفس الوقت. كانت نواة أمل من أجل تغيير المجتمع باحتجاج الشباب الذكي على الواقع المتخلف في أجيال ما بعد استقلال العراق من الدولة العثمانية . أي قبل الحروب واستلام الدواهي للحكم، كما هو معروف، ولمدة خمس وثلاثين سنة، كافية كي تقضي على كل بذرة خير محتملة أن تثمر وتجدي نفعا للتطور العصري. زادت بعدها الانانية والامية والغيبيات والابتعاد عن العلم والمعرفة بين أفراد مفروض أنهم متعلمون وعرفوا القصة. نحن لا نلوم الأمي الفقير أصلا .
ازداد فضول نهى بعد سماعها ما قالته لها حول الرسالة:
ـــ هيا إذن، أقرأيها أنتِْ، رجاء.
لم تجد لمياء مناصاً سوى النزول عند رغبة اختها باسرع وقت ممكن، متجملة ممتثلة لطلبها وقد طابت لها الفكرة:
ـ أتذكرين اغنية سمعناها يوما من إذاعة مغربية صدفة في الراديو؟
بدأت لمياء بالترنم بها ضاحكة:
طاب السرور قم اسقنا بالكأس يا ساقي
بجاه النبي محمد أبو البواقي
ـــ يا لهم من عظماء خفيفي الظل، مدهشين.
ـــ ما العمل، الكأس والساقي ضروريان للوزن والقافية . ربي يسّر ولا تعسّر. لا حاجة للوعظ بتحريم الخمرة في الاسلام، هنا. ستجدين هذه الرسالة ممتعة ومؤلمة معا، مضحكة وجدية، متفائلة ومتشائمة، كالاغنية مملوءة بالتناقض .
ـــ هيا أبدئي بقراءتها. بالمناسبة أين هو نزار الآن؟
ـــ بنيويورك . يعمل سائق تاكسي. هاجر سرّاً متنقلا، أولا، في دول عدة اسلامية وعربية . استقر به المقام أخيرا بعد أن تزوج من أميركية. صار كبقية المهاجرين إلى أميركا واحدا من رعاياها. يتصل بنا أحيانا بالهاتف.
ـــ هيا نسمع الرسالة.
هيأت لمياء حنجرتها بالتنحنح المضحك قبل القراءة إحْ ، إحْ :
عزيزي الأخ عماد الوفي الناصح
تحياتي الطيبة
طلبتَ مني ألا ابتعد عن الاسطبل ـــ العفو البيت ــــ وهذا ما فعلته. أنا لا أخرج من البيت في الليل إلاّ نادرا، حيث أعيش لحظاتي السعيدة مع صديقي المفضل " الكتاب ".. ولو بالحقيقة أنا أصارع قتامة نفسي، ولكن هذا أفضل الحلول. وسوف أبدأ الآن أعرض عليك بعض الاشياء القليلة ولك الحكم.
البيت اليوم بمعناه الحقيقي العام ليس بيتا وإنما بصراحة أقول " اسطبل " حيث في الاونة الاخيرة أصابتنا حساسية شديدة لأمور كثيرة تجهلها.. وتعرفها. فأنت كشخص، لا أعلم، هل لكبر سنك أو لأمر آخر، كنت محترما وفارضا نفسك في البيت، أما أنا وجليل فلا نشعر بشئ من هذا. وبصراحة أقول ليس هناك أي تعاطف بيننا وبين أهلي بالمرة، وامنيتي أن أتحرر من ربقة هذه السلوكية الخشنة.. فهذه وسواها كافية كي تبرر لي امنيتي بالابتعاد عن البيت وتمنحني مشروعية جواز المرور. واليك :
إن والدي كشخص " كل شئ ما يفهم " و " ما يعرف ... من اللحاف " لا منطق سليم ولا تفكير، ما عدا كلامه المؤذي وعباراته الصدئة وذهنيته الضيقة المحدودة، وخاصة هذه الايام بعد أن صار يعاشر زامل ورجب وعباس. تراه إنسانا مملا ثقيلا.. ففي الوقت الذي طلبتَ اليه أنت بأن لا يفسح المجال للكلمة الغلط التي تمسنا أن تصل اسماع وأفواه الناس، أراه الليلة، والآن .. مع جاسم يناقشه بكل تفاهة كتفاهة جاسم وسخافته ، يناقشه حول قضية زواج جليل !! فتمشيا مع عقلية الفضولي الأخيرألذي يرفض زواج جليل من الفتاة التي اختارها الأخير بنفسه، قأئلا لوالدي متدخلا، فيما لا يعنيه، ناصحا : " هذا عيب، نحن لا نعرف شيئا عن هذه البنت. هي من تربية بغداد ، نأخذ له واحدة من جماعتنا ، مثل بنت هلال لو خميس، أو ضاري" وترى والدك الفاهم الذي لديه ولد استاذ بالجامعة وموظف بالجوازات وآخر مدرس ثانوية ، تراه يجاري جاسم رعونته ويقول له : " أيْ أكيد ، أنا أعرف. أعرف أولادي ما يستحون ، كلهم " سرسرية" ، ما يأخذون كلام الكبير، والله يروح - يجئ ، يتزوج أو ما يتزوج ، هو والنعال! هذا كاظم آبن حسن، أنظر كيف تزوج وعمره 17 سنة ، والآن عنده 6 أولاد . يعيش قرب أمه وابيه بالبيت."
تفضل أهذا منطق أب صالح للمناقشة؟! هذا مثل بسيط لما يدور عندنا من مسرحيات في البيت ، وحتى طلبك مني كي اشاركهم في كل قضاياهم صار لا ينفع. كيف اشاركهم وهم بهذه العقلية السقيمة المتخلفة، وماذا نستفيد منهم؟ لهم أحكامهم الصادرة من إطار تفكيرهم الضيق الخاص المتقوقع في سواد وعتمة القرون المظلمة. نحن بحاجة إلى عقلية نيّرة وذهنية متطورة ومتفتحة على العصر الحديث. يا أخي تعبنا .
هذا عن الحرب الدائرة حول قضية زواج جليل من بنت ( تربية بغداد )، والحرب الاخرى حول زواجي أنا لانني " صار لي ست سنوات موظف من دون زواج". يستغلون كل حادثة في البيت فيقرنونها بالزواج ، عمتي موزة بصفحة وعمي فرحان بصفحة و " تيتي تيتي مثل ما رحتِ جيتِ" .
الوالدة هذه الايام تحب الشتائم إلى درجة كبيرة. أكثر من مرة طلبنا منها أنا وجليل أن تكفّ عن هذه العادة الذميمة " لكن شيمها أبتْ ذلك". فمثلا أثناء الغداء ونحن نأكل وإذ جارتنا فخرية تدخل . يُفتح نقاش مطعّم بسكائر اللف. النقاش يدور مع أمي ويظهر أنه مهم جدا. جاءت لتحدثها عن ابن عمها ( حنتوش) ـ من انشقتْ ..... بأيام الثمرة ــ ويتفرع النقاش ويحتدم وتستشهد امك بمواقف عمتها (جمالة). صارالنقاش مفاخرة وعصبيات . الوجوه احمرّت ثم خرجت فخرية زعلانة. قالت الوالدة كلمتها الميرابوية : " روحي ، أبتعدي عني، في إيمان جكه وحفظ ألف يمني". على فكرة، إلى الآن لا أعرف ما تعني كلمة(جكة)! لكن عموما لا أتصورها سُترضي فخرية.
الله يخليك أهذا بيت ؟!
بالنسبة إلى وكلائنا العامين في البيت، طبعا أنت تعرف أنهم تسلموا الوكالة في يوم مغادرة الوالد والوالدة للحج, و" فيلاتنا" بحاجة إلى حراسة، كي لا يُسرق البيانو العائد إلى والدتي لانه من
خشب الابنوس، أو خوفا على بعض الممتلكات الثمينة. لكن للاسف، رغم كل هذه الاحتياطات .. سُرقت الوالدة. ألمهم، الوكلاء قعدوا على قلوبنا. عدد أفرادهم سبعة في غرفة واحدة ، وأحيانا يرتفع العدد إلى ثمانية نفرات ! ومرة ارتفع العدد إلى 13، بدون مبالغة. ولكن كيف تذهب لقضاء الحاجة؟! يلزم الآمر أن تسجل نداء قبل ساعة. وتبقى قيلولة الظهر، حرام عليك أن تغمض فيها جفنا.
أهذا بيت يا أخي ؟! على كلٍ ، نحن لا نريد أن تشغل بالك بمثل هذه التفاهات. المهم أن تستقر مع عائلتك الصغيرة في الغربة من أجل التحصيل العلمي وسنكون سعداء عندما تعود إلى العراق، مستقبلا، وبحوزتك كل المهارات التدريسية لتعليم الاجيال القادمة المحتاجة لامثالك من ذوي العقول المتفتحة المستنيرة علها تنفعنا وتغير واقعنا المزري.
ملاحظة: أبعث لنا صورا فوتغرافية لكم، رجاء.
أخوك
نزار
صمتت الاختان عن الحديث لبرهة ريثما تستعيدان طاقتهما الذهنية، التي انهكتْ بالانفعال والعاطفة دون جدوى، بعد قراءة هذه الرسالة. تفكران في مستقبل غامض ، ناسيتين موعد السفر لكردستان العراق.