ثلاث قصص قصيرة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الجامبو
حدقتُ في المراة كعادتي منتصف كل ليلة قمرية عندما يتقاطع برج الجدي مع العذراء، ويا لهول ما رايت صورتها للمرة الخامسة بعد الالف في اسبوع واحد، وهي تتلفح ثوب ثلجي ابيض، وثغرها يشي بابتسامة مجروحة مثل وتر كمنجة مبتور، ناولتني تفاحة من البلاسيتك من بين خلايا المرايا المحدبة، تهندمتُ وسكبتُ عطر ون مان شو على وجهي الممزوع اللحم ، وارتديت بذلتي الصفراء مع قميص احمر ثم ربطتُ ربطة العنق وابتسامة جانيية تعلو بقايا عظام الخدين، فبدوت مثل جنتلمان.
اندفعت خارجا، ليستقبلني نسيم الليل البارد، سكان العمارة اطلو برؤوسهم وبصدورهم الشبة عارية، وهم يهتفون باعلى صوت، لا ترسم الزهرة على حدق الليل، لا تعزف مقطوعة الحزن على سفمونية العتة، حذار من وطاويط التأمل، نظرتُ اليهم بلؤم وانتصفت الشارع العام، لا شيء سوى القطط الضالة والكلاب، وبراميل القمامة الكبيرة وهي تغازل عفن اكياس النفا
يات الطافحة مثل بهق جلدي، مثل بثر في ظهر اجرب، وسيارة شرطه تسير على مهل كأنها سلحفاة دب فيها مرض الخرف، على يميني يمتد الطريق عبر بيوت القرميد المتراصة مثل اسنان كلاب البادية حتى ينتهي بمخفر للشرطة، وعلى يساري تتكيء مصانع الخشب والحديد الصلب مع بعضها البعض، كنسوة في مأتم جنائزي، حتى ينتهي بي الطريق نحو المطار، وسلكتُ اليسار، في البوابة الرئيسية للمطار اهداني رجال الامن مسدسا ضخما محشوا بجماجم عيال، وابتسمو لي ابتسامة ابليسية، دلفتُ نحو الداخل، اهمهم باغنية قديمة مطلعها:
(اعزف لي حزنا صيفي
ودع القمر يرقص
حذاء الشمس).
حدقتُ في الشاشة الضخمة الكبرى داخل صالة المغادرة ، كانت تبرق بالوان مختلفة زرقاء، ، بيضاء، رمادية، ايذانا بمواعيد رحلات الطائرات، تماما مثل حديقة جن، قهقهتُ بصمت مدوي ثم دلفتُ وحدجت رواد الصالة الضخمة كانوا يبتسمون لي في حب ابله قبل ان اخطوا نحو طائرة الجامبو الضخمة الميممة نحو الغرب، رجل الامن يراقبني من على البعد ويشير الى بأن تقدم فالطريق سالكة، ابتسمتُ له وانا ارسم بابهامي وسبابتي اشارة النصر، مدرج المطار كان كبيرا وبدا لي بعيدا، صرخت في وجهي سائقة البص المكتنزة الجثة الذي يقل الركاب من خشم الصالة الى سلالام الطائرة: اصعد يا ملاك الحلم، اصعد!!! ابتسمت لها وانا اشير نحو دراجة هوائية نكاية لها بانها بديلي الموضوعي، ووصلتُ اخيرا سلالام الطائرة، تحسستُ المسدس الضخم من بين ثنايا ملابسي كان يطل براسه وهو مضطرب ترقص الجماجم بداخله محرضة ان انهي المسألة ودعنا نعود الى حديقة اللعب واللهو اللذيذ، انتظرتُ قليلا حتى استوى الجميع بالداخل، ام تعانق طفلها، واخرون يصفون حقائبهم على سقف المقصورة الطويلة الممتدة مثل امل الاحمق، واخر يقرأ في الانجيل، وانا اتبسم، ثم طفقتُ امسح نوافذ الطائرة بقعر المسدس، نافذة تلو الاخرى، واحدة تلو الاخرى، حتى وجدت نفسي امسح زجاج كابينة القيادة الامامية فرأني الكابتن هكذا على عينك يا راجل، وفجأة اخخخخخ هجم على الكابتن ودوت صافرات سيارات الشرطة، وانهمرت سيارات الاسعاف مثل المطر، والصحافة، وانا ابتسم مثل مضيف الطائرة، واعادوني بهدؤ من جديد الى غرفتي في مستشفى الامراض العقلية والنفسية، وفي الليلة التي تليها حدقت في المراة كعادتي منتصف كل ليلة قمرية عندما يتاقطع برج الجدي مع العذراء، وجاءتني صورتها من جديد.
اميرة العذاب
لملمت بقجة ثياب الرحيل من دولاب الحزن، حدقت في فضاء الحجرة اليتيمة، كان الذهول يطل عبر نوافذ الفراغ، والسقف يئن تحت براح الوداع، المرايا الموغلة في احشاء الحائط، ضجَت في ذهول، وصرير الرياح يطرد امامه ذرات الرمل الصحرواي من فخذ الصحراء الى عمق الجرف، الوقت بين ظهيرة اليقين ومساء الانتظار، ستبحر اللحظة الى السماء، فقط فليسترح ملك الموت، لماذا ياتي الى البشر والكائنات؟ ربطت حبل الحياة السري في السقف حيث المكان المخصص، اشاحت ببصرها في بكارات الغرفة العذراء، العطور، دفاتر الحزن، خطابات الوعيد الكاذب، تذكارات لفجر ابى ان يشرق.
اشعة شمس تكسرت ذرات غبارها المتسرسب على الواح الضجر، لوحة لطيور النورس تودع قارب صيد بين الامواج، نافذة تطل على حقل مفتوح على الترعة، مذياع تصدح منه سمفونية حزينة، نظرت الى المرايا النظرة الاخيرة، فرات نفسها، بنت الاربعة وعشرين عاما، طويلة القامة، حنطية اللون مثل قمح الحقل، نحيفة مثل كمنجة الغجر، شاحبة الوجه مثل يافطة مقبرة لم تكتمل، اخرجت صورته الفوتوغرافية من احد ادراج الخزانة، وضعت البرواز النحاسي مقابل الزهرية التي فارغت الحياة زهورها، ثم جرجرت الكرسي الوحيد على مهل، كررر،كررررررر، حتى اصبح تحت رحمة الحبل المتدلى من السقف،وسط الغرفة، وعلى مهل صعدت، و صعد معها الصمت، كانت قطتها (لولي) تموء في حزن بين الفينة والاخرى وهي تتمسح بين قدميها، تتوسل اليها ان لا تفعل ذلك، لفت الحبل على عنقها، ثم ..ثم.. ثم دفشت الكرسي جانبا واصبحت معلقة بين سقف الحقيقة وارضية التيه، و..و.. و سقطت من كفها ورقة حمراء كتب عليها
(حماد..مبروك..الحياة لعنة.. الافق يموء بقطط العذاب.. الوداع- الامضاء- سين- اميرة العذاب).
*الطريق الى قبرص
انسل القارب من بين صخور الشاطيء نحو الماء البارد كتمساح استوائي يفض عذرية الموج الهاديء غير عابيء بسدنة الليل في الامتدادات المهيبة والانجم المبعثرة كحبات خرز في كف شيخ عراف مسن،كانت الساعة تشير الى الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل بتوقيت بيروت، اربعة عشرة رجلا وسبع نسوة، قبرص جنة الشمس الدافئة والامان والطمأنينة، او قاع البحر والديجور، من منطقة الاشرفية ببيروت الشرقية تسلل الفان (الحافلة)، قعقعة الرصاص تسود المكان، الظلام اميرا على الفراغ، متاريس المليشيات المسلحة كالفطر البري منتشرة تسد الطرقات والازقة والحواري ومداخل الطرقات، القناصة في جنون يبحثون عن فريسة يمارسون فيها الموت المجاني، العمارات، البيوتات، اسقف المحلات، تعبق من دواخلها روائح الحريق او اللهب، الافق كان شاحبا كوجه شحاذ منهك، القمر شبه مستيقظ نصفه يطل على مساءات بيروت ونصفه الاخر احتجب خلف سحب الحزن الرمادية، والنجوم سادرة في الفضاء لا تلوي على شيء، القنابل تمزق بكارة الصمت من هنيهية لاخرى، سيارة الاسعاف (الفان) تنطلق بنا نحو الجانب الاخر من المقتلة، بداخلها كنا، اربعة عشرة رجلا وسبع نسوة، المكان مكتظا مثل سبيطة بلح، مثل قندول زرة، مثل منحلة نحل، مثل هم في قلب مراهقة، قبرص هناك خلف الشمس المقاهي تنضح حيوية، الليل له ألقه، السهر حتى تنعس النجوم وتتكيء على كتف الفجر.
مسح شاهين دمعة اندلقت على خده، قبل خمس ايام القى النظرة الاخيرة على جثة حسين ابن عمه المسجية في مشرحة المستشفى، مات فجأة اثر نوبة قلبية لم تمهله طويلا ذهبت بشبابه الى ما خلف الدنيا، حيث الراحة الابدية، (لا تحزن يارفيق.. الموت ما هو الا سكون للحركة، تَرُجل فرد في القافلة لا يعني نهاية الكرنفال) الهام الفلسطينية وهي طبطب على كتف شاهين في مشرحة المستشفى،
(شو بِنا يا رفيق، خييك بالنهاية شهيد كان معنا في صلب القضية، كان ضاحكا في وجه القذائف بمحور مدينة صور جنوب لبنان، لا يعبأ الموت، تبرع بدمه كان شهما اي والله..) كان كلام الهام يتنزل عليه من بعيد كانه منبعث من قعر بئر الالم والحضور.
لولا لطف الله لاطلق قناصة طريق المتحف النار بلا رحمة علينا كم هي محظوظة سيارة الاسعاف اللعينة،( فان) الهروب الاكبر من موت بالرصاص الى مصير مجهول،مصير ابتر نكرة كقناع لاعب بهلواني في حديقة اطفال، (انت لعنة يا ابوالهول) انحرف الفان -الحافلة- تحت جسر البريبر في اللحظة القاتلة من الزمن المستقطع من اعمارنا، (انها بركات الامام ابا عبدالله الحسين) هتف ابوعلي العراقي النجفي لخَلاصنا، وتناسى المسكين اننا في اجواء الحرب الاهلية اللبنانية، عايزة ماء، عايزة ماء، عايزة ويس.....، ربت شاهين على كتف (مايا) التي كلما داهمها الخوف تهرب الى الشراب كي تستكين اهديء يا بنت الحلال.......، ساد الصمت حيناً،ثم بدأ الهرج والضجر
يعم الحافلة (الفان) فالتفت اليهم المعلم دعيبس: بادرهم
- اصمتو يا اولاد ال(.......) وبعد برهة اتم علي دعبس اللبناني صاحب مشروع الهروب الكبير من لبنان الى قبرص، (اصمتو يا اولاد الحلال، هلق بتحس فينا الدوريات العسكرية او المليشيات وبطخونا بالنار، ثم موجها حديثه الى الشوفير -السائق- ابوالهول الفلسطيني من فين بدك تروح هلق -الان-؟
-(راح بنكفي من جوى بنروح على طريق البربير بالقرب من مستشفى المقاصد الاسلامي، وبعدين حد تعاونية صبرا بننطر -نتنظر- شوي بس بتمرق سيارة تاكسي بضوء مرتين معناه الطريق سالكة ساعتا بنروح دوغري الى منطقة بئر حسن، وبعد ذلك الى جسر السلطان ابراهيم، هناك في حاجز تابع للمخابرات السورية، بس ما تخاف، اصحابنا ديل اصحابنا اهم شيء الله يرضى عليك انتبه لي على الاربعة كيلو.
في احد المنازل المهجورة وتحت الارض بين انقاض البنايات التي مضغها الرصاص، انسللنا اثنين اثنين، عباس وعبدالرسول المصري، معتز وعمر (ابضنين)، عمك ادم وفتحي (الملقب بحمار النوم)، فدوى الفلسطينية و ابو علي العراقي، الهام و ادروب، انا ومجاهد مولانا، عادل ومولودي الجزائري، وهكذا نزلنا كانت اصوات قذائف الهاون تنطلق من جبل الشوف تجاه بكفيا في بيروت الشرقية، بينما لعلعات الرصاص تبدو قريبا منا، ربما في منقطة عين الرمانة والشياح، الحد الفاصل بين بيروت الشرقية والغربية، اخذ دعيبس يعيد في تعدادنا، واحد، اثنين، تلاتى، اربع، خمس، لييك انتا اقعُد هوون ما بدنا حكي يا عمي. نظر شاهين الى ساعته البلورية حول معصمه كانت تشير الى الثانية بعد منتصف الليل بتوقيت بيروت، ثم حدق في التاريخ فكان الرابع عشر من حزيران عام 1982م ثم دوى انفجار ضخم
*جزء من قصة قصيرة بعنوان (الطريق الى قبرص) من ضمن مجموعتنا (درب النمل) مخطوط
قاص من السودان