مسرح إيلاف

الأوقات الماضية بمناسبة فوز بنتر بنوبل

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

قطعة موسيقية معدّة لثلاثة عازفين
عرض خاص لليلة واحدة على خشبة مسرح "ويندام" اللندني
بمناسبة فوز كاتبها هارولد بنتر بجائزة نوبل

"لقد فعل بنتر ماقاله أودن حول ما ينبغي على الشاعر أن يفعله، فقد نظف قنوات اللغة الأنكَليزية من شوائبها، فأصبحت مفرداتها تجري برشاقة وسلاسة.." (ديفيد هير)

من علي كامل / لندن: إن الماضي يشكل الخيط الرئيسي الذي تنسج منه الكثير من الحبكات البنترية، ومسرحية "الأوقات الماضية" هي استمرار لدفق الكاتب في معالجاته الشعرية لموضوع "الزمن والذاكرة" والذي كان قد إستهله بـ"حفلة عيد الميلاد" و"الحارس" و"عرض الأزياء" متتبعاً بذلك خطى سلفيه صموئيل بيكيت ومارسيل بروست.

الذاكرة وتأويلاتها
إن فضاء أحداث هذه الكوميديا الغنائية الفانتازية هو الماضي، أما مفتاح الدخول إليه فهو "الذاكرة"، والذاكرة هنا لا يمكن التعويل على مصداقيتها كثيراً، ذلك إنها تستدعي الأحداث المشتركة لمثلث الشخصيات عبر تأويلات ورؤىً متباينة. فكل شخصية تقوم برسم صورة ذلك الماضي المشترك وفقاً لأهدافها، وهذا ما يخلق بدوره نوعاً من التعارضات تقود إلى نزاع وجودي حاد لا يقبل أي تسوية. حين نبحر في عالم فانتازي يقرب من الشعر والتداعيات وينأى عن الراهن اليومي الملموس، حينها بوسعنا مجازاً أن نسميه "نزاع الذاكرة". ُتفتح ستارة العرض لتكشف أمام أبصارنا غرفة كئيبة في منزل منعزل يطل على ساحل البحر. يتوسط الغرفة من الجانبين سريرين منفصلين ومتباعدين، يجلس عليهما الزوجان دييلي وكـَيتْ وهما صامتين، وبسبب إنعكاس زرقة الماء والسماء على أرضية الغرفة المصقولة يبدو السريران كما لو أنهما زورقين تائهين وسط البحر. أهو موطن إفتراضي للروح، أم أنه لوحة إنطباعية عن الذاكرة؟
إن صمت الزوجين دييلي وكـَيتْ وهما يجلسان كلٌّ منهما على سرير منفصل وخلفهما ضجيج أمواج البحر، يفتح شهيتنا ومخيلتنا على أسئلة شائكة تطال طبيعة هذه العلاقة المبهمة لهذين الكائنين المنعزلين. إنها قطعة موسيقية معـّدة لثلاثة عازفين، أما العازف الثالث فستكون آنـّـا، المرأة القادمة من الماضي، من عشرين عاماً مضت، آنـّـا الصديقة القديمة لكـَيتْ يوم كانتا تعملان موظفتين في لندن وتعيشان في غرفة واحدة.
إن حضور آنـّـا، في زيارتها المفاجئة هذه قادمة من صقلية لرؤية كـَيت، سيصبح المفتاح لحل مغاليق الكثير من هذه العلاقة.
الحوار الأفتتاحي بين دييلي وكـَيتْ بشأن آنـّـا، يرسم لنا ملامح شخصية إمرأة غائمة ومبهمة، فزيارتها المفاجئة بعد كل تلك الأعوام يصبح عاملاً مقلقاً حقاً للزوج، وهذا ما نحسه من حوارهما الحذر المتنافر والمراوغ.
لنستمع إلى هذا المقطع من حديثهما: (*)

كـَيتْ : عتمة.
( وقفة)
دييلي: هل هي نحيفة أم بدينة؟
( وقفة )
كـَيتْ: إنها أكثر بدانة مني، كما أظن.
دييلي: في ذلك الوقت؟
كـَيتْ: أظن ذلك.
دييلي:ربما قد تغيرت الآن.
( وقفة )
هل هي أفضل صديق لك؟
كـَيتْ: أوه، ماذا يعني ذلك؟
دييلي: ماذا؟
كـَيتْ: كلمة صديق... حين تنظر إلى الوراء... كل ذلك الوقت.
دييلي: هل بمقدورك أن تتذكري مشاعرك يومها؟
( وقفة )
كـَيتْ: لقد كان ذلك منذ وقت طويل جداً.
دييلي: لكنك تتذكرينها. وهي تتذكرك. أو، لماذا تريد أن تأتي إلى هنا هذه الليلة؟
كـَيتْ: أظن لأنها تتذكرني.
( وقفة )
دييلي: هل تعتقدين أنها أفضل صديق لك؟
كـَيتْ: إنها صديقتي الوحيدة.
دييلي: الوحيدة والأفضل.
( وقفة )
كـَيتْ:إذا كان لديك شيء واحد فقط لايمكنك القول إنه أفضل من أي شيء آخر.
دييلي: لأنك ليس لديكِ شيء آخر لتقاريننه به، أليس كذلك؟
( وقفة ) ... ( يبتسم دييلي لها )
كانت بالنسبة لك شيء لايضاهى.
كـَيتْ: لا أظن ذلك.
( وقفة )
دييلي:لم أكن أعرف أن لديك أصدقاء قليلون.
كـَيتْ: لم يكن لدي أصدقاء على الأطلاق. لم يكن لدي أحد سواها.
دييلي: ولماذا هي بالذات؟
( وقفة )
كـَيتْ: لا أعرف.
( وقفة )
كانت لصة. كانت تسرق بعض الأشياء.
دييلي: ممن؟
كـًيتْ: مني.
دييلي: وماهي تلك الأشياء؟
كـَيتْ: بعض الأشياء.. أشياء صغيرة. ملابس داخلية.
( يضحك دييلي )
دييلي: هل ستذكرّينها بذلك؟
كـَيتْ: أوه، لا أظن ذلك.
( وقفة )
دييلي: أهذا هو ما جذبك نحوها؟
كـَيتْ: ماذا؟
دييلي: إنها كانت لصة.
كـَيتْ: كلا.
( وقفة )
دييلي: هل أنت مشتاقة لرؤيتها؟
كـَيتْ: كلا.
دييلي: أما أنا فمتشوق جداً لرؤيتها. سأكون مستمتعاً جداً حقاً.
كـَيتْ: بماذا؟
دييلي: بكِ. سأتطلع إليك وأنت تقابلينها.
كـَيتْ: أنا؟ لماذا؟
دييلي: لأرى إن كانت هي ذات الشخص الذي تتحدثين عنه.
كـَيتْ: وهل تظن أنك ستعرف كل ذلك من خلالي؟
دييلي: قطعاً.
( وقفة )
كـَيتْ: إنني بالكاد أتذكرها. لقد نسيتها تقريباً.
( وقفة )
دييلي: هل لديك أية فكرة عما كانت تحب أن تشرب؟
كـَيتْ: كلا.
دييلي: محتمل أن تكون نباتية.
كـَيتْ: يمكنك أن تسألها.
دييلي: فات الأوان. لقد قمتِ بإعداد الطعام وإنتهى الأمر.
( وقفة )
ولماذا لم تتزوج؟ أعني لماذا لم تأتِ بزوجها معها؟
كـَيتْ: إسألها.
دييلي: أينبغي عليّ أن أسألها عن كل شيء؟
كـَيتْ: هل تريدني أن أطرح أسئلتك عليها نيابة عنك؟
دييلي: كلا، كلا على الأطلاق.
( وقفة )
كـَيتْ: بالطبع هي متزوجة.
دييلي:كيف عرفتِ؟
كـَيتْ: الجميع يتزوجون.
دييلي: لماذا لم تأتي بزوجها معها إذاً؟
كـَيتْ:وهل ستأتي من دون زوجها؟
( وقفة )
دييلي: هل ذكرتْ لك شيئاً عن زوجها في رسالتها؟
كـَيتْ: كلا.


دييلي، وهو يستوضح من كـَيتْ طبيعة العلاقة القديمة التي تربطها بآنـّـا، يحاول أن يجمع كسر من حطام تمثال تخييلي لينحت منها بورتريه آخر لآنـّـا، أو بالأحرى هو يستعد لمواجهة خصم سيقتحم منزل النائي المنعزل ( مملكته ) من أجل تقويض سلطته والأستحواذ على ملكيته( كـَيتْ )، هكذا يفكر دييلي، إلا أن صمت زوجته وحديثها المقتضب والمراوغ يستفز ذكوريته ويقلل من هيبته ويضاعف من شكوكه وقلقه في إمكانية الهزيمة.
إن لغة بنتر هنا هي لغة مبّطنة، لغة إسراف شفوي يفتقر لدليل ملموس، لغة إحباط ثقافي، لغة حسية شهوانية، من شأنها أن توسع وتعّمق أسئلتنا بشأن علاقة هاتين المرأتين.
المؤلف بنتر والمخرج روجر ميشيل، بدل أن يضيئا لنا المعتم من الصورة، يوقعوننا منذ البدء بفخ الألتباس، حين يظهرا أمامنا آنـّـا واقفة في منطقة شبه معتمة في خلفية المسرح، تتطلع نحو البحر مصغية إلى ضجيجه الممتزج بحديث الزوجين عنها. وجود آنـّـا في تلك المنطقة المعتمة دون أن يراها أحد من الأثنين، توحي لأول وهلة كما لو أنها طيف أو شخصية وهمية، أو أنها ليست سوى مجرد بورتريه من صنع مخيلتهما، إلا أن إقتحامها المفاجىء والمباغت لهما وهما يتحدثان عنها، يزعزع تلك الصورة التي افترضناها ويضعنا وجهاً لوجه أزاء شخصية واقعية محسوسة يبعث حضورها إحساساً بالخوف وتوجساً من حدوث خطر، معيداً إلينا صورة الرجلين الغريبين اللذين إقتحما المنزل الآمن الذي كان يلوذ به ستانلي في مسرحية " حفلة عيد الميلاد ". حديثها الأفتتاحي أشبه بمرثاة غنائية شجية لأيام مضت، لحانات قديمة تلاشت وأغان ٍ عتيقة توارت، مرثاة للغة عامية إندثرت، لممارسات حب عفوية نقية، لوجوه وأسماء كانت يوماً ما تتألق وتختفي في حفلات الذاكرة. لنستمع إلى هذه التداعيات في حديثها مع كـَيتْ: (*)
آنـّـا: هل تتذكرين وقوفنا في طابور الأنتظار طوال المساء تحت المطر؟
ألبرت هول، كوفيرن كَاردن، ياإلهي، أتذكرين ماذا تناولنا حينها؟
العودة إلى الماضي، إلى منتصف الليالي تلك حين كنا نمارس الأشياء التي نحب. كنا شابتان يومها بالطبع، لكن أيّ قدرة على الصبر والأحتمال كانت لدينا! ياإلهي.
ثم الذهاب إلى العمل في اليوم الثاني، وبعدها في المساء الذهاب إلى حفلة موسيقية أو أوبرا أو باليه، كـَيتْ، هل نسيت كل ذلك؟
وصعودنا فوق إلى الطابق العلوي للباص الذاهب إلى كينسنكَتون هاي ستريت، وقاطعوا تذاكر الباص.
وبعدها إنطلقنا بسرعة لجلب أعواد ثقاب لأشعال المدفأة، وأظن أننا مزجنا البيض، أليس كذلك؟ من قام بطهي الطعام، أنت أم أنا؟
آه، لقد كنا نقهقه و نثرثر معاً، نتجمع حول المدفأة معاً، وبعدها نذهب للسرير والنوم. وفي الصباح، الصخب والضجيج والحركة من جديد، نركض نركض مسرعات، لنلحق بالباص للذهاب إلى العمل، آه، ثم وجبات الغداء فترة الأستراحة في الظهيرة في كَرين بارك، هناك كنا نجلس ونتبادل أخبار بعضنا البعض وبيدينا ساندويتشاتنا، هه، فتاتان بريئتان، سكرتيرتان بريئتان. وبعدها يأتي المساء. الله وحده يعلم ماذا تختزن الذاكرة من بهجة وإثارة، أعني كل تلك التوقعات المشرقة، وأيضاً البحث عن طريقة ما لتجنبها.
كنا فقيرتين، فقيرتين جداً، ومع ذلك، أن تكوني فتاة فقيرة وشابة، وفي لندن فهذا... ثم عثرنا بعدها على مقهىً، مقهىً خاص منعزل تقريباً، أليس كذلك؟ هناك حيث يحتشد الفنانون والكتـّاب، وفي بعض الأحيان الممثلون والراقصون، كنا نجلس ونحن نتنفس بالكاد نرتشف قهوتنا، رؤوسنا محنية كي لا يرانا أو يزعجنا أو يصرف إنتباهنا أحد. كنا نصغي ونصغي ونصغي لكل تلك الكلمات، كل تلك المقاهي، وكل أولئك المبدعون.
آه كـَيتْ، ُترى، أما زال كل ذلك موجوداً حتى الآن، هه؟ هل لديك فكرة؟ هل تعرفين؟ هل يمكنك أن تخبريني بذلك؟
( وقفة قصيرة )
دييلي:نحن نادراً ما نذهب إلى لندن.
( تنهض كـَيتْ وتتجه صوب طاولة صغيرة لتسكب قهوة لهما )
كـَيتْ:نعم أتذكـّر كل ذلك.

***

في حواره القادم، حواره المراوغ مع آنـّـا، يسعى دييلي إلى إختلاق حكايات من الماضي تنقض حكاياتها هدفاً في إقصائها تماماً عن كـَيتْ. فهو لا يتردد مثلاً من تذكيرها أنها سمحت له مرة أن يلقي نظرة على ملابسها الداخلية، تلك التي سرقتها من كـَيتْ!
واقع الأمر أن نزعة التملك والأستحواذ هما الصفتان المشتركتان بين هاتين الشخصيتين، فكلاهما يندفع نحو إختلاق حكاية من شأنها إقصاء الآخر، وإثبات أحقيته في حيازة كـَيتْ.
فالحكاية التي تستدعيها ذاكرة آنـّـا، تثبت أن لا وجود لشخص إسمه دييلي في ماضي حياتيهما، وأنها، أي آنـّـا، هي التي كانت قد حضرت عرض فيلم " المنبوذ "(**) مع كـَيتْ وليس دييلي كما يزعم.
أما دييلي فيدعّي في حكايته إلى أنه عاد تلك الليلة هو وكـَيتْ بعد مشاهدتهما فيلم " المنبوذ " إلى غرفتهما المشتركة( غرفة آنـّـا وكـَيتْ ) مذكراً أياها بأنه قاسمها سرسرها تلك الليلة، بل يذهب إلى أبعد من ذلك زاعماً أنه كان على معرفة دقيقة بها، وحتى أنه كان يظنها كـَيتْ!.
حسناً، إذا كانت الذاكرة هي سلاح لكلا المتناحرين، وإن الحكايتان ليستا حقيقيتان، فليس أمامنا، في هذه الحال، إلا الأعتماد على العازف الثالث لهذه القطعة الموسيقية، أعني كـَيتْ، كمصدر للتصويب، إلا أن بنتر يغشي أبصارنا ويجعل الصورة ضبابية أكثر حين يضفي على شخصية كـَيتْ صمت محيرّ ومشوش، صمت قاتل يدفعنا إلى إمكانية تصديق كلتا الحكايتين على حد سواء.
إنها مياه عميقة معتمة، حيث الذاكرة تمتزج بالرغبة، ودييلي يكتسب شيئاً فشيئاً مهارات جديدة في الدفاع عن النفس عن طريق إختلاق وخلط وتأويل ذكريات متعارضة هدفاً في التحدي.
حين ُتستأنف المناوشة الكلامية بين الخصمين تفوح منها رائحة الوضاعة والبذاءة الجنسية هذه المرة، عندئذ تنصرف كـَيتْ لتأخذ حّماماً كتلميحة بنترية خاطفة محاولة لإبعاد بطلته عن قذارة وأدران مستنقع ذاكرتيهما الخربة ونزعتهما البهيمية في الأستحواذ. تغادر كـَيتْ ليوسع المؤلف ساحة المعركة بين دييلي وآنـّـا. فإي منهما سيستحوذ على كـَيتْ؟ في همس حوارهما وهما يتحدثان عن طبائع كـَيتْ في أخذ حمامها، تأخذ اللغة منحىً حسياً هذه المرة، فكل متنافس يدعي معرفته بدقائق جسد كـَيتْ وطريقتها في إغتسال جسدها أوتجفيفه.. إلخ.. وهذا ما يبرز سؤالاً آخراً عن الطبيعة الخاصة لعلاقة هاتين المرأتين، ُترى، أهي علاقة مِثلية؟
من خلال كِسَرْ المعلومات المتشظية التي يحصل عليها من آنـّـا، يحاول دييلي أن ينحت تمثالاً لكـَيتْ أخرى هذه المرة، لكن بسبب تباين وتعارض المعلومات التي تزودهما بها ذاكرتيهما تتقاطع الصور والحكايات فيحتد النقاش ليتحول إلى نزاع كلامي مسعور، يحاول كل طرف فيه إقصاء الآخر من محاولةالأستفراد بالضحية..
حسناً،إذا كانت آنـّـا هي الصديقة الوحيدة لكـَيتْ في شبابها على حد قولها، فهل يمكن في هذه الحال التعويل على ذاكرتها؟ أم إنها إختلقت كل هذه الأشياء فقط كي تغيظ زوج صديقتها؟
حين يستوضح دييلي آنـّـا عما تقوله، إن كان قد حدث حقا أم لا، تجيبه إجابة مفعمة بالغرابة والأبهام، قائلة:
"ثمة أشياء يتذكرها الواحد على الرغم من أنها، ربما، لم تحدث على الأطلاق. هناك أشياء أتذكرها، من الممكن جداً أنها لم تحدث على الأطلاق، لكن، بما أنني أتذكرها، فهذا يعني أنها حدثت".
يتوصل دييلي في الآخـٍر إلى قرار هو أن يغزو آنـّـا ويمتلكها جسدياً هذه المرة، لأنه يظن إن المرأتين هما كيان واحد غير منفصل لذات الفانتازيا التي يشعر بشكل يائس بأنه يقصى عنها الآن، مثلما أقصي عنها منذ عشرين عاماً، لذا لابد من حيازة الأثنتين معاً تجنباً لتكرار التجربة. حين تعود كـَيتْ من غرفة الأستحمام، تنقلب المعركة الكلامية إلى منافسة غنائية ذات طابع إحتفالي صاخب، يحاول كل منشد فيها أن ينشد المقطع الذي يخدم غرضه من نفس الأغنية.

الأغاني القديمة التي غنيّت في العرض هي:
The way you look tonight -
They can’t take that away from me -
Blue moon -
lovely to look at -
وغيرها من الأغاني التي إشتهرت في الأربعينات من القرن الماضي..
اللغة والجنس هما سلاح المنافسة الغنائية هذه، والمنتصر فيها هو من يستطيع إختيار المقطع المحدد من الأغنية وتوظيفه من أجل تأويل ذلك الماضي.
إنها أشبه بلعبة التنس، كيف سيرمى أحد اللاعبين الكرة، وكيف سيحاول الآخر تفاديها ؟
فجأة يتخلخل ميزان المعركة، حين تخرج كـَيتْ عن صمتها منتفضة ضد صديقتها القديمة، محتجة بعنف على تجاهل الأثنين لها ومعاملتهما لها كما لو أنها دمية أو شخص ميت. كـَيتْ تتنكر لأي علاقة بآنـّـا، قائلة لها أنها كائن ميت ولا وجود لها في حياتها الماضية على الأطلاق.
نكران هوية آنـّـا من قبل كـَيتْ يُشعر دييلي حالاً بهزيمة خصمه، إلا أن مراوغة كـَيتْ وفطنتها تعيدان التوازن بعجالة لكلا الكفتين، لـُتستأنف المعركة، وتحّـلق هي وحيدة بعذوبة في فضاءات أيام زمان متذكرة صديقتها القديمة، جولاتهما في المسارح والحفلات الموسيقية والحانات ولقائاتهما بالرسامين والشعراء، فتختل كفة دييلي هذه المرة وتتزعزع سلطته لأحساسه بالهزيمة.
كـَيتْ تتحول هنا إلى لعب دور المايسترو في هذا الكونسيرت، فهي التي تتحكم بموازين المعركة، وهي التي تؤجج معركة الإرادات والرغبات ثانية، جالسة على كرسي وظهرها نحونا تتطلع نحو المعركة بصمت مبهم وهدوء ذو مسحة تهكمية، فكلا الخصمين مهزوم والمنتصر الوحيد في هذه المعركة هي كـَيتْ..
إن إستجابات دييلي لاتحركها الصدفة، فهو منذ البدء، يبدو شخصاً محبطاً، ووضعه الذكوري غير الآمن هو الذي يدفعه لتلفيق علاقات وأحداث وهمية.
إذاً، هل كان لآنــّا وجود حقيقي في الماضي، أم أنها مجرد وهم؟ الحقيقة أن آنـّـا، حتى لو إفترضنا أنها وهم، إلا أنها موجودة ومنذ عشرين عاماً في ذاكرة كل منهما، وهي لم تغادر تلك الذاكرة قط، ولن تفعل ذلك مطلقاً، ولا تستطيع مغادرة تلك الغرفة حتى النهاية. لقد حاولتْ ذلك، إلا أن ذلك كان مستحيلاً. إن دييلي وكـَيتْ كانا قد فقدا أية صلة بينهما وتوقفا تماماً عن أن يكونا زوج وزوجة، والدليل سريريهما المنفصلين، لكنهما لم يعدا قادرين على الأستمرار في الوجود تقريباً من دون إستحواذ الشخص الثالث على تفكيرهما، والصور الذهنية التي تعكسها الذاكرة المفتوحة توضح كل ذلك. إنها حالة من بلوغ نوع من المجازات الذهنية مرموز لها هنا بعنصر الصمت.
ها أننا نقترب من ختام المعركة والعرض معاً من دون أن يحرز أي من المتنافسين نصراً. تستلقي كلتا المرأتين، كلٌّ على سرير منفصل، فيما يجلس دييلي على الكرسي وظهره نحونا متطلعاً نحوهما مثل متفرج في مسرح وهو ينتحب كطفل، تماماً كما حدث في الماضي، مستعيداً ذكرى محاولته المحبطة تلك في غرفة الفتاتين قبل عشرين عاماً مضت.. بعدها تسود المكان العتمة والصمت.

(هزيمة الرجال الجوف)
المخرج روجر مايكل عالج ثيمة المسرحية بنكهة فارس موسيقي كوميدية، مسلطاً الضوء على النزعة الذكورية الأستبدادية وسط المؤسسة الزوجية مجسداً بشخصية دييلي الذي يلعب دور المستبد، ذلك الدور الذي فقده في الخارج، أعني إحباطاته كمخرج سينمائي، هو الذي دفعه إلى نقله من تلك الساحة وتفريغه كنوع من الأسقاط في بيت الزوجية. إن جعجعته وتبجحه كمخرج بارز أحاله إلى كائن ثرثار أجوف، يقابله من جانب آخر صمت كـَيتْ المثخن بعذاباتها المكبوتة، الصمت الذي يهزمه في الآخر ليركع تحت قدميها بعد فوات الأوان. إن صمت كـَيتْ ينتزع منه إعترافاً غير معلن، في أن كـَيتْ تمتلك حياة ً خاصة بها، وهذه هي الحقيقة التي تجعله ينهار ويُهزم.

البحث عن الزمن المفقود

مرة أخرى من هي أنّـا

إن ظهورها في مستهل العرض وهي تتطلع صوب البحر وتصغي إلى صخبه، والذي كان يتناغم تماماً وحوار الزوجين وهما يتحدثان عنها، أعطى إنطباعاً بصرياً وسيكولوجياً أن آنـّـا، هي إلى حد ما، أشبه بظل كـَيتْ أو طيفها، ولكي نكون أكثر دقة نقول أنها تجسد ذلك النصف الثاني المخفي من شخصيتها، فهي، في هذه الحال، تقوم بوظيفتين في ذات الوقت، الأولى أنها تشكل مصدر تهديد لحياة وقناعات دييلي، وتمثل المعادل البصري لزمن كـَيتْ المفقود ثانياً. بنتر يفتح بوابات الماضي على مصراعيها ليفتح الطريق لذلك الطيف الملازم لهذه الزيجة، أن يغزو الراهن بعد عقدين من هذا الرباط. بمعنى آخر إن المخرج والعرض عموماً إستطاعا أن يخلقا من آنـّـا صورة مجازية تعكس الجانب المتمرد المخفي والمكبوح من شخصية كـَيتْ، كـَيتْ أيام زمان، كـَيتْ العزباء، الفتاة الشابة والسكرتيرة المرحة، كـَيت المتحررة من قيد الأستبداد الذكوري الذي تنتجه السجون الزوجية. إن أعمال بنتر في الواقع يمكن رؤيتها على أنها أشبه بسلسلة من الأضاءات تكشف عن أساليب وأشكال التهديد والتسلط والأستحواذ، سواء كان ذلك على المستوى الشخصي أو السياسي، ناهيك عن أن تلك الثيمات تتضمن أيضاً تحليل ساحر لموضوع الذاكرة، الذاكرة بصفائها الهذياني ومصداقيتها المحتملة، أما الأخطر من ذلك فهو توظيفاتها الملتوية في الأطار الذي توضع فيه، وهذه الثيمات يمكن العثور عليها بجلاء في مسرحية " الأوقات الماضية "..

***

ـ الممثل جيرمي نورثام بدور دييلي.
ـ الممثلة جينا ماكي بدور كـَيـتْ.
ـ الممثلة هيلين ماكروري بدور آنـّـا.
ـ مصمم الديكور: وليم دادلي
ـ مصمم الإضاءة : ريك فيشر
ـ إخراج: روجــر ميشيل.

من على خشبة مسرح ويندام.

***

(*)
مقاطع من مسرحية " الأوقات الماضية " مترجمة ضمن كتاب معّد للنشر يحوي أربعة مسرحيات مترجمة لهارولد بنتر هو بعنوان " دراما الذاكرة ".
والمسرحيات هي : ( أمسية، صمت، منظر طبيعي، الأوقات الماضية)..
ترجمة ع. ك.

(**)
فيلم " المنبوذ " هو من إخراج البريطاني كارول ريد( 1906- 1976) وهو فيلم أنتج عام 1947 في مرحلة افلام الأبيض الأسود، ومثل دور البطولة فيه جيمس ماسون وروبرت نيوتن إلى جانب الممثلة كاثلين ريان.
( الأنسكلوبيديا العالمية للفيلم )

alikamel50@yahoo.co.uk


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف